أسامة العيسة من القدس : بعد 28 عاما من رئاسته لمحكمة العدل العليا الإسرائيلية، سيخرج القاضي المثير للجدل اهارون باراك الى التقاعد، بعد أن اصبح وفقا لمصادر متطابقة أهم رجل في إسرائيل، خلال السنوات الماضية، والممثل الأكثر أمانة لمصالح الدولة والنخبة التي تقودها. واعلن باراك بكثير من الفخر في حفل تكريمي له quot;طوال 28 عاما، لم يعرف أحد في إسرائيل اتجاهي السياسي، وحتى أفراد اسرتي لم يعرفوا لمن كنت أصوت في الانتخاباتquot;. ولكن جهات كثيرة في إسرائيل لا تصدق أبدا بان باراك كان محايدا، ووجهت له أوساط يمينية اتهامات بأنه يساري، بينما هاجمته المجموعات اليسارية بدعوى انه استغل منصبه لتشريع قوانين ذات طابع يميني.

ولكي يواصل رسم صورته الأسطورية، قال باراك بأنه بعد تقاعده لن يلتحق بأي عمل سياسي أو حزبي، وانما سيذهب الى البيت. ويقول الدكتور أمل جمّال، المحاضر العربي المرموق في جامعة تل أبيب quot;لا شك أن القاضي اهارون باراك شخص فذ، حاول تقديم وجه اخر لإسرائيل أمام العالمquot;. ويرى جمال بان النخبة الصهيونية التي أسست الدولة العبرية، مازالت تجدد نفسها، وأنها نقلت ثقل القرار السياسي إلى محكمة العدل العليا، بعد أن خسرت بعض نفوذها في الكنيست الإسرائيلي. وكان رئيس الكنيست السابق رؤوفين ريفلين، وجه اتهامات علنية ومباشرة لباراك قائلا بان المحكمة العليا سحبت مهام المؤسسة التشريعية الإسرائيلية. ويقول جمّال quot;نخبة من اليهود الغربيين (الاشكناز) أسست وقادت إسرائيل، وأجرت انتخابات عديدة منذ تأسيس دولة إسرائيل، ولكن النخبة لم تتغير، ولسنوات كنا نرى بن غوريون وديان وغولدا مئير وغيرهم يذهبون في هذه الانتخابات ويعودون في غيرها، وكانوا دائما حاضرين، حتى أن اليهود الشرقيين الذين وصلوا إلى مراكز مرموقة تشكنزوا واندمجوا في هذه النخبةquot;.

ويضيف quot;أصبحنا نرى أشخاصا من اليهود الشرقيين يتبوؤن مراكز مهمة ومرموقة مثل قيادة الأركان، أو وزارة الدفاع، ولكن هؤلاء ما كان ليصلوا لمواقعهم بدون انخراطهم في النخبة الاشكنازية، حتى لهجتهم الشرقية تخلوا عنهاquot;.

ويرى جمال أن النخبة الاشكنازية تستوعب هؤلاء ما داموا ينفذون نفس السياسة مشيرا مثلا إلى انه لا يتوقع أبدا تغييرا في سياسة وزارة الدفاع الإسرائيلية، بعد أن تولى المنصب الأول فيها عمير بيرتس اليهودي الشرقي وزعيم حزب العمل، رغم دعاويه المغلفة بخطاب سلامي. ويؤكد جمال quot;حتى عندما بدى أن ثقل هذه النخبة في الكنيست تضعضع، فإنها نقلت مركز القرار الان إلى محكمة العدل العليا، المتهمة تسحب مهام المؤسسة التشريعيةquot;.

ويرى جمال بان المحكمة العليا هي أقوى جهاز الان في النظام السياسي الإسرائيلي، تسيطر عليه النخبة الاشكنازية، لتحقيق مصالحها وبرامجها. ولم يتوقف النقاش حول باراك، في المجتمع الإسرائيلي، وتجدد خلال شهر أيار (مايو) الجاري بعد أن حسمت المحكمة العليا في قضيتين، الاولى تتعلق بسيطرة مجموعة من المستوطنين على منزل فلسطيني في الخليل، حيث أمر بإخراج المستوطنين من المنزل، وعلق ايتمار بن غفري الناشط اليميني بان هذا القرار يؤكد من جديد ما اسماه الاجندة السياسية التي تعمل وفقها المحكمة العليا، وانه اثبات جديد على تسييس المحكمة.

أما القضية الثانية، فهي إقرار المحكمة العليا لقانون وصف بالعنصري، بل الأكثر عنصرية في تاريخ إسرائيل، يحظر جمع شمل العائلات الفلسطينية التي تحمل الجنسية الإسرائيلية، ولم يكن إقرار القانون مدار تعليق وغضب من اليسار ولكن من منظمات حقوقية عالمية، وتسببت بإحراج لإسرائيل التي حرصت طوال سنوات على تقديم باراك كوجه quot;حضاريquot; لها يغطي على رموز التطرف واليمين سواء كان في الحكومة او المجموعات اليمينية. ووصفت صحيفة هارتس القرار بأنه quot;وصمة عارquot; ، أما منظمة هيومن رايتس ووتش فرأت في القرار بأنه quot;تمييزا غير مشروع لا يمكن تبريره بالمصالح الأمنية للبلدquot;.

وانقسم قضاة المحكمة العليا إلى قسمين اتجاه هذا القرار، الأغلبية التي أقرته، والأقلية التي رفضته وكان أبرزهم القاضي باراك نفسه رئيس المحكمة الذي لخص رأي زملائه بالقول quot;أن القانون يشكل انتهاكا لحقوق المساواة للمواطنين العرب في إسرائيلquot;.

واهتمت وسائل الإعلام بموقف باراك الرافض للقرار، والذي غطى في كثير من المتابعات الصحافية على مضمون القرار. وراى مراقبون بان موقف باراك هذا يستند إلى ذكاء لافت، وبرأيهم فانه أراد وهو يستعد للخروج من منصبه، تأكيد صورته في العالم الغربي كقانوني كبير، وأمام مواطنيه كحصن للعدالة والحياد، وحرصه على إكمال نسيج أسطورته بخاتمة مميزة. أما الذين يؤمنون بنظرية المؤامرة، فاعتبروا ما حدث في كواليس المحكمة العليا تقسيم للأدوار، وتم استغلال مكانة باراك لتمرير القرار الذي يوصف بأنه القرار الأكثر عنصرية في تاريخ إسرائيل. وفي الحالتين، فان باراك، وبما يتمتع به من ذكاء لافت، كرس مكانته وسط المتجادلين الرافضين أو الداعمين للقرار.