مبادرة الرئيس السنيورة
فرصة لبنان الأخيرة؟

بلال خبيز: يمكن القول ان الدولة اللبنانية دخلت يوم السبت الفائت طرفاً اساسياً في المعادلة الشائكة التي تم وضع لبنان فيها دولياً واقليمياً. فقبل ان يعلن رئيس الحكومة فؤاد السنيورة مبادرته التي سبقت وفد الأمم المتحدة كانت مهمة الدولة اللبنانية تقتصر على لملمة الجروح واطفاء نار الحرائق من الجانبين. هذه الدولة التي وجدت نفسها ومعها المواطنون اللبنانيون امام نارين تغامران بالبلد وتضعانه في فوهة بركان متفجر استطاعت ان تعبر بين النيران ليعلن رئيس حكومتها مبادرة قد تصلح اساساً فعلياً لبداية الانتقال من فوهة المدفع إلى طاولة ما. والحق ان الهجوم الإسرائيلي المستمر منذ خمسة ايام على لبنان وقع في ظل ظروف دولية وعربية واقليمية بالغة الصعوبة. فمن ناحية اولى بدا ان المجتمع الدولي اطلق يد اسرائيل لتعمل في لبنان تقتيلاً وتقطيعاً، ومن ناحية ثانية لم يستطع العرب ان يتقدموا بأي مشروع جدي ينقذ لبنان من فم التنين الذي وقع فيه. فالبيان الختامي الذي صدر عن اجتماع وزراء الخارجية العرب في مقر جامعة الدول العربية، لا يقدم اساساً معقولاً لحل المعضلة التي يتخبط فيها لبنان جراء العدوان الإسرائيلي عليه، فضلاً عن الموضوع الفلسطيني المتفجر اصلاً.

تضمنت مبادرة الرئيس السنيورة بنوداً ثلاثة رئيسة، اولها يتعلق باستعداد الدولة اللبنانية لبسط سيادتها على كامل اراضيها بمعاونة الامم المتحدة، وثانيها يتصل اتصالاً مباشراً باستعداد الدولة اللبنانية للدخول طرفاً مفاوضاً في ما يتعلق بالأسيرين الإسرائيليين المحتجزين لدى حزب الله من دون اغفال ضرورة معالجة الأسباب التي ادت إلى اختطافهما. وثالث هذه البنود يطالب الدول العربية والمجتمع الدولي بالشروع في خطة انقاذية على المستوى الإعماري والإنمائي.

تلحظ هذه المبادرة التي اطلقها الرئيس السنيورة، كما يقول مصدر حكومي، موقعها المتوسط بين وجهتين متناقضتين. فمن جهة اولى يرفض حزب الله تسليم الجنديين من دون معالجة الأسباب التي دعته إلى خطفهما فتقترح الدولة اللبنانية ان تتحمل مسؤولية معالجة هذه الأسباب، وتعرض من جهة ثانية بسط سلطة الدولة اللبنانية على كامل الااراضي اللبنانية والجنوب ضمناً وأولاً واساساً، مما يعني تجميد وظيفة سلاح حزب الله إن لم يكن نزعه لصالح سلطة الدولة في نهاية مطافها. وحيث ان الدولة العبرية تعلن رفضها القاطع لمفاوضة تنظيم تعتبره ارهابياً، وتحمل الحكومة اللبنانية مسؤولية بسط سيادتها على كامل اراضيها، فإن الحكومة اللبنانية تعرض على اسرائيل التفاوض مع الدولة نفسها التي تبدي استعدادها لتحمل كامل المسؤولية في هذا المجال. وهذه المبادرة بالتالي تلاقي الوفد الدولي في منتصف الطريق، عارضة تحمل المسؤولية الكاملة في معالجة هذه الملفات العالقة.

لكن هذه المبادرة التي اعلنت اسرائيل رفضها سريعاً ولم يعلق عليها حزب الله حتى الآن، والأرجح انه لن يعلق، تستمد نقاط قوتها من واقعتين اساسيتين ومفترضتين في الوقت نفسه. الواقعة الاولى تفيد ان العنف المنفلت من عقاله لن يؤدي في نهاية المطاف إلى تحقيق المطلب الإسرائيلي على النحو الذي تعلنه اسرائيل نفسها. فهذه الحرب تدمر البلد، وإذا استمرت على الوتيرة نفسها من العنف فلن تمضي اسابيع قليلة حتى تجد اسرائيل نفسها امام بلد مدمر بالكامل ومقطع الأوصال وتالياً امام مساحة شاسعة من الفوضى على حدودها الشمالية لا يستطيع احد ان يقدر مدى خطورة عواقبها. ويجد حزب الله نفسه من جهة ثانية بلا موضوع يدافع عنه اصلاً، لان ما يجب الدفاع عن بنيانه قد تم تهديمه فعلاً. والحال فإن هذه المبادرة تكتسب نقطة قوتها من عجز العنف والأعمال العسكرية عن تحقيق المرجو والمراد.

الواقعة الثانية تتصل اتصالاً وثيقاً بمدى تمسك المجتمع الدولي والدول العربية ببقاء لبنان دولة حرة مستقلة وقادرة على الحياة والنمو، وفي هذا المجال يستطيع المراقب ان يعدد دولاً عدة لا تكف عن ابداء خشيتها وقلقها على لبنان وتبذل وسعها لتحقيق استقراره وفي مقدم هذه الدول تقع المملكة العربية السعودية من دون شك، على المستوى العربي وفرنسا على المستوى الدولي الأعم. مما يعني ان إطلاق هذه المبادرة يفترض ان يكون قد تم بتنسيق ما مع احد هذين الطرفين على الأقل ان لم يكونا معاً شريكين ومستعدين لتسويقها. لكن المصادر الحكومية تفضل الا تفصح عن وجود مثل هذا التنسيق المسبق.

في المقلب الآخر لنقطتي القوة هاتين، يبدو واضحاً ان شروط نجاح هذه المبادرة في تحقيق اختراق فعلي يؤدي إلى انقاذ لبنان ووقف النار التي تحرقه على وجه السرعة، لا يمكن تأمينها ان لم يكن لبنان المستقل والسيد ملحوظاً في اجندة المجتمع الدولي والعربي عموماً. وإذ تبدو الإشارات الصادرة عن فرنسا والولايات المتحدة غير كافية على هذا الصعيد، فإن البيان السعودي الشديد اللهجة والتنافر في وجهات النظر بين المملكة العربية السعودية والجمهورية العربية السورية الذي بدا واضحاً في اجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة يوم امس، يثبت ان المملكة العربية السعودية تلقي بكل وزنها العربي والدولي خلف لبنان الدولة السيدة في هذا المضمار. فالبيان السعودي لا يقرأ ابداً بوصفه تخلياً عن لبنان ومقاومته، بل بوصفه تدخلاً حاسماً للإنقاذ.

ولتستطيع هذه المبادرة ان تتقدم على المستوى الدولي والعربي عليها ايضاً ان تحسم نقاطاً في الداخل اللبناني ينبغي التسريع في حسمها وفق آلية لم يعد مؤتمر الحوار الجهة الأنسب لتأمين فاعليتها. فهذه المبادرة تفترض ان المناقشة مع حزب الله لا يمكن ان تعود إلى الوتيرة نفسها التي كانت عليها قبل عملية اسر الجنديين، وهذا يفترض امراً من اثنين إما يكون حزب الله قد بدأ يشعر بفداحة المغامرة التي قاد لبنان إليها، وتالياً تحول اكثر ليونة واستعداداً لقبول ما لم يكن مستعداً للقبول به من قبل، لأن البديل عن عملية الإنقاذ التي تقترحها مبادرة الرئيس السنيورة لن تكون اقل من مطاردته اسرائيلياً ودولياً وإخراجه من متن السياسة التي كان يتصدر مشهدها في لبنان إلى مرتبة العصابات التي تعمل من تحت الأرض، واما ان اختراقاً شيعياً وازناً في طريقه إلى التحقق في البلد، يؤشر إلى ولادة تيار دولي وازن في الوسط الشيعي وفي قمة الهرم على حد سواء. واما ان يكون الأمران في طريقهما إلى التحقق معاً ومرة واحدة. في هذا السياق يبدو السؤال عن موقع رئيس المجلس النيابي نبيه بري من هذه المبادرة بديهياً، وتعتقد اوساط مقربة من رئيس المجلس ان مثل هذه المبادرة لم تكن لتعلن لو لم يكن الرئيس بري قد أجاز إعلانها. لكن اعتبارات الوضع اللبناني المعقد تمنع الرئيس نبيه بري الذي تتعرض الطائفة التي ينتمي إليها إلى مثل هذا الضغط الإسرائيلي المعلن والمكشوف ان يبدي موقفاً ايجابياً من المبادرة قبل تحقيق وقف فعلي لإطلاق النار.

قد تكون هذه المبادرة فرصة لبنان الأخيرة. وقد ينجح اللبنانيون في فرض معادلتها قبل فوات الأوان. لكن الايام المقبلة على لبنان، طويلة جداً، ويكاد طولها يعادل دهوراً بأكملها، وكلنا امل ان لا تحرق النار الهائلة البلد برمته قبل ان يتسنى لنا تحقيق وقف للنار. لكننا كلبنانيين في نهاية المطاف لا يسعنا إلا ان نؤكد مع الرئيس السنيورة ان لبنان باق باق باق. وسنربي اولادنا على هذه الارض المحروقة، ونجعلها مرة أخرى اشد اخضراراً من جنات عدن.