الرياض: يوماً ما، سمح لبنان ndash; مركز الأعمال والبهجة في المنطقة ndash; لنفسها أن تصبح أرضاً للقتل في الشرق الأوسط. و أصبح لبنان اليوم مكاناً لاجتماع السموم والكراهية التي خلّفتها ستة عقود من النزاع في مواطنيها وجيرانها.

هذا حكم قاسٍ على بلد لا تزال تنزف جراء الهجوم الساحق للقوات الجوية الإسرائيلية على جيرانها, مستهدفة مستودعات الصواريخ والقيادات السياسية لمنظمة المقاتلين الشيعة اللبنانيين, حزب الله. ولكن لكي نفهم هذه الأزمة ndash; ولماذا لن تستحث نزاعاً إقليمياً أكثر اتساعاً في هذا الصيف ndash; فنحن بحاجة إلى البحث في المسؤولية التي يتحملها اللبنانيون لجعل بلادهم تتعرض لمثل هذا الدمار.

ورأى الكاتب جيم هوغلاند من صحيفة الواشنطن بوست أن تحديد تلك المسؤولية لا تُبرّئ بأي حالٍ من الأحوال السوريين والأميركيين والإسرائيليين والفلسطينيين وكثير غيرهم ممن يستحق اللوم على المأساة المستمرة في لبنان. لقد عملوا جميعاً على إثارة الانقسامات الدينية والثقافية ضمن المجتمع اللبناني لأجل مصالحهم. كما أنها يجب ألا تحكم على البلد الجميل ndash; الذي عشت فيه ثلاث سنوات في السبعينات ndash; بموتٍ لا ينتهي. وكما في الحياة نفسها, فإن الأمور في لبنان لم تكن أبداً بجودتها أو سوئها كما هي الحال الآن.

منذ خمسة عشر شهراً مضت كنا نقرأ ونسمع عن ثورة الأرز التي أنقذت لبنان من الماضي العنيف ومن الهيمنة السورية, كما انبثق عنها مارس (آذار) الذي كان حتمياً بالنسبة للديمقراطية في المنطقة. واليوم نقرأ ونسمع أن مثلث الحرب الذي يضم حزب الله وحماس وإسرائيل قد أنهى هذه التطلعات إلى الأبد. لكن التاريخ في الشرق الأوسط لا يتبع خطوطاً مستقيمة إلى أفقٍ متوقع. عوضاً عن ذلك, يعدو التاريخ من جانبٍ إلى آخر, وفي مقابل كل خطوتين إلى الأمام هناك خطوة ونصف إلى الخلف.

بعد بدايةٍ واعدة, تراخت جهود الأمم المتحدة وفرنسا والولايات المتحدة وبقية المجتمع الدولي لتقديم سوريا إلى المحاكمة على خلفية قتل رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري في فبراير (شباط) 2005. وفي هذا الفراغ, استأنفت الأحزاب اللبنانية عقد صفقاتها مع دمشق, وفي نهاية المطاف مع النظام الإيراني بقيادة الرئيس محمود أحمدي نجاد.

أخفقت كل من الأمم المتحدة وإدارة بوش في الضغط على اللبنانيين لتحقيق الآمال المعقودة عليهم في تحمل المسؤولية بنشر قوات على أماكن الحدود التي أخلتها إسرائيل عام 2000. وفي المقابل, انتقل حزب الله إلى الصواريخ التي تمده بها سوريا وإيران وإلى جنوده الذين كشفوا الغطاء بقتلهم واختطافهم جنوداً إسرائيليين عن بوابة الجحيم من جهة مفجري القنابل الإسرائيليين.

تزود هجمات مقاتلي حزب الله غير المتناظرة كلاً من سوريا وإيران بالمميزات المقارنة التي تملكانها ضد إسرائيل. لا تريد دمشق وطهران لإراقة الدماء أن تتجاوز حدود لبنان وإسرائيل. كما أن لدى إسرائيل أسبابها في تحديد المواجهة هذا الصيف في أرض الأرز والشواطئ الرملية. بعد سنةٍ من الآن, عندما تصبح القوة النووية لإيران أكثر خطراً, يمكن لهذا أن يكون مختلفاً.

إن هذه الحملة الإسرائيلية لن تلغي حزب الله كقوة. لكن التفاوض على وقف إطلاق النار يمكنه أن يؤدي إلى خطوتين هامتين: الخطوة الأولى ستكون وضع قوة عسكرية دولية على الحدود اللبنانية مع سوريا لمراقبة مرور الصواريخ ووحدات المخابرات السورية المتنكرة في لبنان.

الخطوة الثانية هي حمل الجيش اللبناني على فرض سيطرته على المنطقة الجنوبية وجعل لبنان بلداً حقيقياً مرة أخرى. إن الهجمات العسكرية الإسرائيلية لا يمكنها أن تحقق هذه الأهداف, فقط القرار اللبناني الموحّد والدعم الدولي يمكنهما من تحقيق ذلك.

كان انفجار العنف الأخير نتيجة للتجزؤ السياسي في الشرق الأوسط أكثر منه نتيجة للتجمع العربي الإيراني الذي شمل أرجاء المنطقة مُشكلاً عموداً جديداً خطراً للإسلام المتطرف. وبفقدان سيطرتها على حزب الله, كما فقدتها على المقاتلين الفلسطينيين أثناء السبعينات, فإن الحكومة المركزية في لبنان تثبت مرة أخرى الكلفة العالية لترددها.

إن الاستجابة الصامتة لمصر والأردن والسعودية وليبيا والحكومات السنية الأخرى للهجوم الإسرائيلي تظهر وبشكلٍ جلي مدى خوفهم من تطور حزب الله إلى وكيل شيعي محلي لإيران. إن كانت إسرائيل في مقام الطاعون للعرب, فإن حزب الله وإيران في مقام الكوليرا.

كانت الأنظمة القديمة قد أُدينت بشتى الطرق. إذ أن النظام السياسي العربي الذي تشكل حول جمال عبد الناصر وياسر عرفات وصدام حسين والآخرين هو نظام يحتضر ببطء, بعنف, وبعناد. ولا يمكن للصدمات التي هزت المنطقة في السنوات الثلاث الماضية, ومن ضمنها قصف لبنان في الشهر الحالي, أن تُستوعب أو تُحَل بالتراجع إلى المواجهة الانتحارية أو الوقوف دون حراك.

إن غريزة البقاء في المجتمعات أقوى من غريزة الكراهية والدمار الذي لا ينتهي. وهذا حقيقي حتى في الشرق الأوسط, حيث حُكم على لبنان الصغير بالتظاهر مرة أخرى.

ترجمة: سامية المصري
21 يوليو 2006