قصي صالح الدرويش من باريس : في أول زيارة له خارج أوروبا، اختار نيكولا ساركوزي أن تكون الجزائر محطته الأولى كرئيس للجمهورية. وفي ذلك إشارة إلى رغبته في إعطاء حرارة للعلاقة بين فرنسا، والجزائر وكأنه أراد بذلك إزالة الفتور الذي ساد بين البلدين في العامين الماضيين والناجم عن تعثر معاهدة الصداقة المشتركة التي ناقشها الطرفان والتي لم توقع بسبب رفض البرلمان الفرنسي والرئيس جاك شيراك الاعتراف بجريمة التواجد الاستعماري في الجزائر ومطالبة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بالاعتذار عما وصفه بأنه quot;أحد أشكال الاستعمار الأكثر بربريةquot;.

هكذا فإن هذه الاتفاقية التي كان مقررا توقيعها قبل عامين لم تر النور حتى الآن، والأكيد أن الرئيس شيراك لم يحاول تقديم ترضية مناسبة لهذا الموضوع، إضافة إلى وجود أجواء لم تساهم في بناء أجواء الثقة المنتظرة والتي أملها الجزائريون بعد الحرارة التي أبدوها إبان الرئيس الفرنسي السابق.

فتور العامين الماضيين مع شيراك ترجم بزيارة خصمه نيكولا ساركوزي كوزير للداخلية إلى الجزائر أثناء الحملة الانتخابية الرئاسية، زيارة اتسمت باستقبال حار من الجانب الجزائري الذي خصه بجميع مظاهر البروتوكل التي ترافق زيارات رؤساء الجمهوريات عادة.

ومع أن الوقت لا يبدو ملائما لإصلاح أخطاء الماضي والاعتذار كما طالب الجزائريون، فإن الرئيس نيكولا ساركوزي يسعى إلى توطيد العلاقات الثنائية في وقت تبدو فيه علاقة الجزائر مع واشنطن أكثر حرارة وحيوية منها مع باريس. ويرى ساركوزي quot;أن الصداقة بين فرنسا والجزائر لا يجب أن تختصر في معاهدة وأن من الأهم بكثير التوصل إلى أفعال مشتركة تعطي الأولوية للتعاون الاقتصادي وحركة الأشخاصquot; كما يقول دافيد مارتينون المتحدث باسم قصر الإيليزية.

لكن رغم حيوية العلاقات مع الولايات المتحدة، تبقى فرنسا الشريك التجاري الأول للجزائر، حيث تسجل الاستثمارات الفرنسية نموا متزايدا. وإذا لم يكن منتظر أن تسفر الزيارة عن توقيع صفقات اقتصادية، إلا أن ساركوزي سيطرح مشروع تعاون وثيق بين شركة غاز فرنسا والشركة الوطنية الجزائرية للنفط سوناطراك، صحيفة لوجورنال دو ديمانش نقلت عن ساركوزي قوله إنه ينتظر أن يتناقش مع الرئيس بوتفليقة حول تقارب الشركتين الفرنسية والجزائرية، لكنه لم ينس الإشارة إلى أن سوناطراك ليست الشركة الوحيدة التي يمكن بناء هذا التقارب معها. أما موضوع البحث الآخر الذي ينوي الرئيس الفرنسي طرحه فهو التعاون في مجال تقنية الطاقة الذرية المدنية، التي يجد أنها لا يجب أن تبقى حكرا على بضعة دول صناعية، بل يتوجب أن يتم تشاطرها مع الدول النامية. ولعل الموضوع الأهم الذي يثير حماس ساركوزي، فهو فكرته الداعية إلى إقامة quot;اتحاد متوسطيquot; تكون دول المغرب العربي أحد أعمدته الرئيسية.

وهو الاقتراح الذي أعلن عنه أثناء الحملة الانتخابية انطلاقا من أن مستقبل أوروبا وفرنسا يحسم أيضا وربما بالدرجة الأول في المتوسط. ويهدف هذا الاتحاد إلى خلق مجال تضامن وتعاون يتمحور حول مكافحة الإرهاب والتنمية والتنسيق المشترك لمسألة الهجرة، لكن هذه الأفكار الطموحة قد تكون سابقة لأوانها، خصوصا بعد رفض تركيا الانتقال من الاتحاد الأوروبي إلى الاتحاد المتوسطي. لهذا ستظل العلاقات الثنائية العماد الرئيس بين البلدين على أمل التوصل إلى تعاون فعلي وحقيقي يؤمن توثيق المبادلات الاقتصادية وحرية انتقال الأفراد عبر تسهيل منح تأشيرات دخول الجزائريين إلى فرنسا من دون أن يكون هناك جدار يعيق التفاعل. وهنا قد تكون زيارة الرئيس الفرنسي الجديد فرصة نفسية مناسبة لتقارب اقتصادي ثقافي يعود بالنفع على البلدين.

بالطبع سيكون ملف مكافحة الإرهاب مادة بحث بين الزعيمين، في وقت يعترف فيه المراقبون بأن الجزائر نجحت على هذا المستوى بشكل يساهم في توطيد الأمن والتطور الاقتصادي، هذا على الرغم من العمليات التي تحدث من حين إلى آخر، والتي رأى فيها الرئيس بوتفليقة بقايا إرهاب لا بد من الخلاص منه نهائيا.

إن هذه الزيارة، بما تحمله من آفاق حرارة منتظرة، قد تكون بداية انطلاقة لعلاقة فعلية بعيدا عن التعقيدات التاريخية والنفسية التي حالت دون تحقيقها، سواء برفض باريس تقديم اعتذار للجزائر عن الأهوال التي رافقت مراحل الاستعمار الذي دام 130 سنة أو بالخوف من قيام تعاون متكافئ متعدد الفوائد والمزايا. ويبدو أن الرئيس ساركوزي راغب في فتح صفحة جديدة لم تكن شروطها متوفرة في أوقات سابقة.