ذكرى مرور ثلاث سنوات على أول انتخابات عراقية بعد السقوط
الرئيس نسي أوراقه والحكيم أول الناخبين .. وللقذائف أصوات

أسامة مهدي من لندن: تمر هذا اليوم الذكرى الثالثة لأول انتخابات عامة شهدها العراق إثر سقوط نظامه السابق في تجربة ديمقراطية يعتز بها كل عراقي ساهم في تلك العملية بشكل عام وأعضاء أول مجلس للمفوضية العليا المستقلة للانتخابات بشكل خاص حيث أشرفوا رغم المخاطر وتهديدات القتل والتصفية على تلك العملية الانتخابية التي أقر بنزاهتها وحريتها المجتمع الدولي برمته .. وحيث للذكرى انطباعاتها واحداثها التي لم تنشر او تعرف في ذلك اليوم وتستعيدها إيلاف مع أحد صانعي ذلك الحدث التاريخي الذي شارك فيه تسعة ملايين عراقي . وتبقى ذكريات ذلك اليوم الثلاثين من كانون الثاني / يناير من عام 2005 مضيئة في اذهان الكثيرين ولاسيما ممن عايشوها لحظة بلحظة كما تبقى من الذكريات الخالدة لأعضاء مجلس المفوضية العليا للانتخابات الذي تم انتخابه بشفافية من قبل الامم المتحدة فتأسس بعيداً عن المحاصصة الطائفية واجرى ثلاثة انتخابات كانت مثار اعجاب العالم كونها اتسمت بالحيادية والمسؤولية الوظيفية البحتة رغم التهديدات التي كانت تحيق بأعضاء ذلك المجلس وصلت من الخطورة بحيث تسلم اربعة منهم رسائل مباشرة من قبل الجماعات الإرهابية بأن قرار تصفيتهم لايحتاج سوى التنفيذ. ورغم ذلك نجحت الانتخابات ووضع المشاركون فيها الائتلاف العراقي الشيعي الموحد على سكة استلام السلطة في البلاد منذ ذلك اليوم .

في ظل تلك الظروف الخطرة عمد مجلس المفوضين الى بذل كل جهد في تنفيذ وتطبيق ما جاء في قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية الانتخابية فحدد الثلاثين من كانون الثاني عام 2005 موعداً للانتخابات وكان هذا التحديد أهم خبر إعلامي ظهر في أجهزة الإعلام في تشرين الثاني عام 2004 .وفي ذلك اليوم وبعد ساعتين من قيام الدكتور فريد ايار الناطق الرسمي باسم المفوضية العليا المستقلة للانتخابات من إعلان الخبر واذ بالرئيس الاميركي جورج بوش يظهر على اقنية التلفزيون الاميركية يعلن فيه ومبشرا الشعب الاميركي أن العراقيين سيبدأون انتخاباتهم في يوم 30 كانون الثاني من عام 2005 وان تلك الانتخابات ستضع العراق على سكة الديمقراطية والحرية والتقدم وحقوق الانسان الى اخره من اقوال الرئيس بوش .

ولاستعادة هذه الذكرى في يوم سنتها الثالثة التقت quot;إيلافquot; مع الدكتور ايار سائلة إياه أن يتحدث عن ذلك اليوم التاريخي واحداثه التي لم تعرف لعامة الناس كما لم تنشر في وسائل الاعلام لحد الان .. وندع الناطق الرسمي باسم المفوضية انذاك يتحدث من دون مقاطعة تشوش على الذاكرة التي استعادت تلك الاحداث .. وحيث يقول ايار :

استذكار لأيام سبقت الانتخابات

قبل أسابيع من هذا الموعد (كنا نخاف منه جميعاً) عملت كشبكة نحل... كل منا له واجباته وقضاياه... اجتماعات متواصلة... اسئلة عديدة... صراخ... زعل... وحتى اتهامات بالتقصير... لكن جميع هذه الامور كانت تشكل سلوكا طبيعيا لما يريده المجلس بهدف إجراء انتخابات حرة ونزيهة وديمقراطية... على امل خلق عراق ديمقراطي تقدمي بعيد عن الطائفية والمذهبية والتخلف .. وكلما اقترب الموعد زادت المشاعر توتراً... وزاد القلق... نعم القلق من حصول خطأ قاتل... لذلك كانت الاعصاب متوترة والمجابهات بين اعضاء المجلس كانت تحصل وفي بعض الاحيان لأتفه الاسباب.

في 29/1/2005 تأكد المجلس ومعه بعض من خبراء الأمم المتحدة أن التحضيرات أخذت بعدها الحقيقي وهو كان في اجتماعات متواصلة .. وفي فترة ما بعد ظهر ذلك اليوم. استدعى المجلس مدير العمليات وهو شاب يمتلك كفاية عالية وقلنا له... اشرح لنا ما هو الموقف النهائي من توزيع المواد الانتخابية وهل المراكز ومحطات الاقتراع مستعدة في كافة المحافظات؟

بدأ هذا الشاب اللامع بذكر كل شيء... ورغم اننا شككنا ببعض الاشارات السلبية إلاأن الموقف العام كان جيداً... وبحدود الساعة الثامنة والنصف من ذلك المساء المهيب انصرفنا الى أماكن سكننا ...وكنت انا وقتذاك اسكن في غرفة داكنة في ما كان يسمى بفندق الرشيد (الغرفة 205) في حين كان زملائي اعضاء المفوضية يمتلكون دورا بسيطة في المنطقة الخضراء بعد أن رمموها على عجل .

جلست قبالة التلفزيون المشوش في فندق الرشيد وانا في حالةمن القلق الشديد... أتساءل مع نفسي كيف سيكون يوم غد؟؟ لاسيما أنني بدأت أسمع من بعيد أصوات قذائف قرابة الحادية عشرة ليلاً ... وبعض تلك الأصوات بدأت تقترب رويداً من المنطقة الخضراء (واي خضراء)... عندما يكون الانسان وحيداً وفي غرفة موحشة وفي مكان يسمى (فندق) فيما هو ثكنة عسكرية، تتقاذفه الافكار وتسيطر على حواسه سلبياتها ... وكان ذلك يحصل لي فسماع القذائف كان بالنسبة لي توقع معركة عسكرية غداً وليس معركة انتخابية... وهكذا بقيت سويعات ساهرا ومفكرا بعدها خلدت الى النوم المصحوب بالأفكار والتشنجات بانتظار معركة اليوم التالي...

الرئيس نسي وثيقة الأحوال المدنية

وانا مستغرق في نوم تتقاذفه الاحلام المزعجة رن هاتفي المحمول حوالى الساعة الخامسة من فجر يوم الـ30 من كانون الثاني 2005... اجبت على المتحدث وانا بين اليقظة والنوم... كان الشخص هو الاستاذ مازن الخضيري مدير مكتب رئيس الجمهورية فخامة الرئيس غازي الياور حيث قال...

دكتور فريد الرئيس يسلم عليك ويقول إنه نسي وثيقة الاحوال المدنية في ربيعه في الموصل ولانستطيع الإتيان بها اليوم فكيف يمكنه التصويت بعد ساعتين من الان؟؟... قلت له يا اخي (عنده شهادة جنسية او جواز سفر صالح او وثيقة سوق فيها صورة؟)... كلها وثائق عراقية وهي تخوله التصويتأن أبرز وثيقتين ولكن من دون وثيقة فإن الرئيس سوف لن يستطيع التصويت ونحن لا نقبل وثائق ( الفوتوكوبي غير المصدقة ) مازحني قائلا لو كان صدام هل كنت ستقول له ايضا لايحق لك الانتخاب ؟؟ اجبته ممازحا صدام غير موجود والمسألة افتراضية .. قال لي الخضيري سأبلغ فخامة الرئيس واعود اليك... لم استطع العودة للنوم كما ان الخضيري لم يعد ليبلغني بما حصل ...ولكن رئيس الجمهورية جاء الى المركز الانتخابي في قصر المؤتمرات وعرض وثائقه الثبوتية وصوت للقائمة التي يرغبها .

وقال الدكتور ايار في حوالى الساعة السادسة والنصف من صباح ذلك اليوم توجهت الى قصر المؤتمرات حيث كانت المفوضية قد فتحت فيه مركزاً للتصويت للمسؤولين الساكنين في المنطقة وقابلت الاخ الدكتور عبد الحسين الهنداوي رئيس المجلس الذي كان قد وصل قبلي فأطلعنا على كافة التحضيرات وتم تنظيم عمل أجهزة الاعلام التي كانت تملأ صالة قصر المؤتمرات وفي تمام الساعة السابعة تم افتتاح المركز وبدأت المسيرة الخالدة لذلك اليوم .

الحكيم أول المنتخبين

كان اول القادمين الى ذلك المركز الانتخابي سماحة السيد عبد العزيز الحكيم رئيس المجلس الاعلى للثورة الاسلامية حيث وصل بعد الدقائق الاولى من قتح المركز وادلى بصوته ثم توجه الينا وقال لنا، بارك الله بكم... ان هذه الانتخابات مفخرة للعراق والعراقيين... وانكم قمتكم بعمل رائع... كانت هذه اول شهادة تمنح لمجلس المفوضية العليا للانتخابات وهي شهادة يفخر بها المجلس حقا. ثم تتالت جموع المصوتين حيث وصل الدكتور اياد علاوي ومعظم الوزراء وقادة الاحزاب السياسية ... كان الجميع فرحا بهذه المناسبة وما لاحظناه انهم كانوا يفخرون بأن اصبعهم غمس في الحبر البنفسجي لذا سميت تلك الانتخابات بالانتخابات البنفسجية .

.. والجعفري مسرور

قبل ظهر ذلك اليوم، وقبل العودة الى مقر المفوضية لعقد اجتماع للمجلس لتقويم الموقف جاء الى احد مرافقي السيد ابراهيم الجعفري (رئيس الوزراء السابق) وقال ان quot;السيدquot; يريد التحدث معك فقلت له اهلاً وسهلاً وفعلاً قابلت quot;ابو احمدquot; في الطابق الاول في قصر المؤتمرات وكانت عيونه تلمع والابتسامة على وجهه وقال quot;دكتور فريدquot;، تهانينا لقد قمتم بعمل ممتاز ولكن لدي مشكلة... قلت على الفور ما هي سنحاول حلها وفقا للانظمة والقوانين... قال الجعفري... quot;شوفquot; جميع من حولي هم من العراقيين ولكن ليس لديهم وثائق تسمح لهم بالانتخاب فماذا سيفعلون؟؟ قلت يا سيدي الكريم هؤلاء يحملون جوازات اجنبية ولكن مكان ميلادهم يظهر اين ولدوا... وهذا ما سيسمح لهم بالانتخاب ان كانوا مولودين في العراق كان هؤلاء من الشباب المهاجرين وكانوا جميعاً من العراقيين..بعد التأكد من هوياتهم وعراقيتهم ووثائقهم الثبوتية . اعطينا الاذن بتسجيلهم تمهيداً للسماح لهم بالانتخاب وهكذا حلت المشكلة بروح السماحة والاخلاقية الوظيفية قال لي الجعفري ، وكان من المعجبين في مجلس المفوضية ، انكم حكومة مصغرة لا يستطيع احد التدخل في شؤونكم وكانت هذه شهادة اخرى من سياسي تمنح لمجلس المفوضية.

مشاركة خيبت توقعات سكاي نيوز

ان تلفزيون ال (سكاي نيوز) البريطاني الذي يربو عدد مشاهديه على ال 150 مليون نسمة اجرى معي بحدود الساعة الحادية عشرة ظهرا مقابلة من داخل قصر المؤتمرات للتحدث حول العملية الانتخابية الحالية. الصحافي ( تيم مارشال ) الذي حاورني على الهواء قال ان تقارير السكاي نيوز والمنظمات الدولية المعنية بالانتخابات تشير الى ان نسبة المصوتين سوف لن تكون اكثرمن 16%... ابتسمت له وقلت دعهم يتوقعون ما يريدون من النسب... نحن نتوقع ان تكون النسبة اعلى بكثير وستشكل مفاجأة للجميع... ان الوقت، قلت، لا زال مبكراً ولدينا ساعات طويلة لننتظر ونرى. ابتسم مارشال وكأنه لم يصدق كلامي ولكن ابتسامته لم تستمر طويلا...

قال مارشال ان الجهات المعارضة للانتخابات اشارت الى ان شوارع بغداد والعراق ستمتلئ بالدماء... قلت له ان الدماء موجودة حالياً في الشوارع ومع ذلك فان الانتخابات ستحصل... دعنا ننتظر قليلاً...وفعلاً حصلت المفاجأة الملايين من الناس يتوجهون الى مراكز التصويت... المسنون، طلاب المدارس، النسوة، الاطفال، الجميع توجه الى مراكز الانتخابات..ودار دولاب العملية الانتخابية بعنف ولم يتوقف الا في الساعة الخامسة من مساء ذلك اليوم المشهود وارتفع الاصبع البنفسجي منتصرا .

خليـــة نحـــل

كان المقر الرئيس للمفوضية خلية نحل... الجميع يتراكض... الهواتف النقالة للمفوضين لم تتوقف ولا دقيقة واحدة... بعض المراكز يطالب بمواد انتخابية الاخر يشتكي من امور اخرى... كانت مشاكلنا مع المناطق الساخنة في الانبار وبعض مناطق نينوى... حاول الجميع، بقدر طاقاته، حل تلك الاشكالات.عند الظهر... وكانت هذه مفاجأة للمجلس... وردتنا احصائية من قسم العمليات تشير الى ان نسبة المصوتين بلغت ما بين 75 و90 % في بعض المناطق من الناخبين توجهوا الى صناديق الاقتراع في كافة محافظات العراق سأل المجلس قسم العمليات عن هذا الامر فانكر اصدار مثل هذه الاحصائية .

اثناء ذلك اجتهد احد اعضاء المجلس ، وليته ما فعل ولا اجتهد ، باذاعة هذه الارقام غير الحقيقية فانقلبت الدنيا ووصل الى مقر المفوضية عدد من المسؤولين بينهم الاخ الاستاذ برهم صالح على ما اتذكر وغيره مستفسرين عن هذه الارقام .

أجهزة الاعلام الغربية كانت تترصد

ولان اجهزة الاعلام ولاسيما الغربية والاميركية منها كانت تترقبنا وتترقب كل شاردة وواردة حول العملية الانتخابية والكثير منها كان يتوقع الفشل فإنها انتهزت فرصة إذاعة هذه الارقام غير الحقيقية وبدأت تلك الاجهزة التي تمتلك معرفة ما يحدث لارتباطاتها بالسفارة الاميركية والبريطانية وخبراء الامم المتحدة الذين يخدمون السفارات قبل خدمتهم البلد الذي يعملون فيه، تشير الى حصول أخطاء في التقديرات ووجود شكوك في العملية الانتخابية برمتها.
عقد المجلس اجتماعا طارئا ودرس الوضع والحملات الاعلامية التي بدأت بعد إذاعة تلك الارقام والتشكيك بالعملية الانتخابية وقرر عقد مؤتمر صحافي لايضاح الموقف وماهي هذه الارقام !!! انيط عقد المؤتمر الصحافي بنا وفعلا تم عصر اليوم ذاته في قصر المؤتمرات ... لم يكن مؤتمرا عاديا بل كانت الاسئلة قاسية وبعضها موجه من قبل الصحافة الغربية اما اسئلة الصحافيين العراقيين فكانت بسيطة وسهلة الجواب .

ألهمنا الله ، بعد سلسلة من الاسئلة عن الارقام المشكوك بأمرها والتي اذاعتها الادارة الانتخابية ان نجيب على الاسئلة المتعلقة بها بأن تلك الارقام بنيت على اساس quot;التدفق الجماهيري نحو صناديق الاقتراعquot; حيث كانت بعض المراكز الانتخابية تعج بالجماهير وبمقدار 90% وبعضها الاخر بمقدار 75 % وقد اكدنا في ذلك المؤتمر الصحافي المشهود انه ليس هناك اي ارقام رسمية عن عدد الناخبين .

كان هذا تبرير اجتهدنا فيه لإقناع الصحافيين والحاضرين في المؤتمر الصحافي لكن الحقيقة ان اعلان مثل هكذا نتائج او ارقام ظهر ذلك اليوم ومن مصدر غير معلوم لغاية يومنا هذا ومن دون اخذ رأي مجلس المفوضين مجتمعا كان عملا متهورا وكاد ان يضر بالعملية الانتخابية لولا ان تم تلافي هذا الخطأ القاتل .

حرموني من الانتخاب

هناك الكثير من الاحداث حصلت في ذلك اليوم وقبله وقبل ان أختم هذه الذكريات القصيرة اود ان اشير الى انني واثناء محاولتي الانتخاب ( التي كانت اول مرة في حياتي ) رفض الموظف الموافقة على منحي اوراق الاقتراع اللازمة الا بعد ان اظهر وثائقي الشخصية .. مددت يدي الى جيبي واذ بوثيقة الاحوال المدنية وشهادة الجنسية غير موجودتين معي فاضطررت الذهاب الى غرفتي الكئيبة في فندق الرشيد ومن ثم العودة الى قصر المؤتمرات .. قال لي الموظف عفوا دكتور quot;ولكن القانون هيجي يكول quot; قلت له شكرا هذا صحيح .. بعد الانتهاء من الانتخابات اقترحت على مجلس المفوضين ترفيع هذا الموظف لانه ادى واجبه بأمانة .. وللامانة ايضا فان مجلس المفوضين اهمل طلبي هذا للاسف الشديد.