واشنطن: لا تزال الحكومة الأميركية بفرعيها، التنفيذي والتشريعي، تسعى لتعزيز برامج نشر الديمقراطية في العالم، على اعتبار ذلك أداة مركزية لمحاربة الإرهاب. وقد قامت الحكومة بتنفيذ العديد من البرامج الفردية والجماعية لنشر الديمقراطية في الأعوام الأخيرة. وطلبت مؤخرا من الكونغرس تخصيص 1.5 بليون دولار لهذه البرامج في السنة المالية 2008، كما حددت quot;حكم العدالة والديمقراطيةquot; كهدف أساسي لسياسات تقديم المساعدات الخارجية في الأعوام المقبلة.

ولم تقتصر جهود الحكومة الأميركية لنشر الديمقراطية على السلطة التنفيذية فقط، بل كان للكونغرس دورا جوهريا في هذا المجال، فهو الذي يقرر اعتماد التمويلات اللازمة لبرامج نشر الديمقراطية، كما أنه اتخذ في الآونة الأخيرة مجموعة من الخطوات الضرورية لتقييم هذه البرامج وحسابات التكلفة والعائد من ورائها.

ويمكن تتبع دور الكونغرس في مجال نشر الديمقراطية، من خلال الدراسة التي صدرت يوم 26 ديسمبر الماضي عن مؤسسة quot;خدمة أبحاث الكونغرس Congressional Research Servicequot; تحت عنوان quot;ترويج الديمقراطية: ركن مركزي لسياسة أميركا الخارجية؟quot;، والتي قام بإعدادها ثلاثة من المتخصصين في شئون السياسة الخارجية الأميركية، وهم: سوزان إبستين، ونينا سيرافينو، وفرانسيس ميكو.

الكونغرس ونشر الديمقراطية . تاريخ حافل
للكونغرس تاريخ طويل في سياسات أميركا الهادفة إلى نشر الديمقراطية في العالم. ويعود هذا التاريخ إلى ما بعد انتهاء الحرب العالمية مباشرة حيث دعم الكونغرس جهود الإدارة لنشر الديمقراطية وفقاً لمشروع quot;مارشالquot; في كل من اليابان وأوروبا الغربية في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي.

وكان للكونغرس دور متميز في الخمسينيات والستينيات لنشر الليبرالية والحريات الفردية لمقاومة المد الشيوعي في العالم ولمحاربة المعسكر السوفيتي. ومع مطلع السبعينيات توافرت فرص حقيقية لأن يلعب الكونغرس دورا بارزا في quot;لبرلةquot; أوروبا الشرقية بعد تأسيس لجنة هيلسنكي في عام 1976، وهي لجنة الأمن والتعاون في أوروبا، والتي تعد لجنة كونغرس عابرة للبحار لتعزيز الجهود الأميركية لدعم حقوق الإنسان في الفضاء السوفيتي. ولا تزال هذه اللجنة تلعب حتى اليوم مهمة جوهرية لتعزيز الديمقراطية في نحو 56 دولة، تشمل منطقة القوقاز وآسيا الوسطى. ولا يزال يشارك نواب الكونغرس مباشرة في برلمان منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، والذي تأسس في عام 1991.

وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي (1989 ـ 1991) كان لأعضاء الكونغرس دور كبير في إخراج العديد من برامج نشر الديمقراطية أولا في بولندا والمجر وتشيكوسلوفاكيا ثم في دول البلطيق وبقية دول وسط وشرقي أوروبا. ووافق الكونغرس في تلك الأثناء على عدد من القوانين الخاصة بتعزيز الديمقراطية، ومنها: قانون تشجيع الديمقراطية في شرقي أوروبا the Support East European Democracy (SEED) في عام 1989، وقانون دعم الحريات the Freedom Support Act في عام 1991، والموجه تحديدا للجمهوريات التي استقلت عن الاتحاد السوفيتي السابق.

وقد ربط الكونغرس خلال فترة التسعينيات بين كل من توقيع اتفاقات للتجارة وتقديم المساعدات الخارجية وبين ما سمي quot;الروابط الديمقراطيةquot;. وقد برز هذا الميكانيزم على وجه خاص في المؤتمر الوزاري الذي عقد في وارسو في يونيو 2000 والذي ربط بشكل مباشر بين هذين الجانبين، وهدد بعدم إبرام اتفاقات دولية مع دول لا تًحترم فيها الديمقراطية.

ويتضح ذلك على سبيل المثال بين ربط الكونغرس الأميركي انضمام دول جديدة إلى حلف شمال الأطلسي quot;الناتوquot; وبين تحولها إلى الديمقراطية، كما حدث في عام 1999 لدى انضمام بولندا والمجر وجمهوية التشيك وسلوفينيا. وبالمثل فقد قدم أعضاء الكونغرس عددا من مشروعات القوانين والمبادرات المتعددة التي ربطت بين التحاق دول ما بكل من حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي وبين إقامة هياكل ومؤسسات ديمقراطية، وكان آخرها قانون تقوية الحريات لأعضاء الناتو the NATO Freedom Consolidation Act في عام 2007.

تحولات تاريخية في نشر الديمقراطية
منذ الكونغرس رقم 101 وحتى الدورة الأولى الكونغرس الحالي رقم 110، هناك العديد من التشريعات التي قررت لتخصيص أموال لتعزيز الديمقراطية في دول ومناطق معينة بالعالم وللضغط على الحكومات غير الديمقراطية لبدء عملية إصلاح ودمقرطة، كما خصص الكونغرس ميزانية لمثل هذه البرامج ضمن ميزانية وزارة الخارجية.

وقد أسس الكونغرس في عام 2006 صندوق الديمقراطية the Democracy Fund والذي توجه مخصصاته للعمليات الخارجية التي تهدف لنشر الديمقراطية. وقد تم تخصيص مبلغ 94.1 مليون دولار للسنة المالية 2006 للأنشطة المختلفة لدعم الديمقراطية، وخصص نفس هذا المبلغ في عام 2007. ووافق الكونغرس نهاية العام الماضي على تخصيص مبلغ 1.5 بليون دولار في عام 2008 لبرامج نشر الديمقراطية.

كما وافق الكونغرس على قانون تنفيذ مقررات لجنة 11/9 the Implementation of 9/11 Commission Act، والذي يتضمن بندا حول التقدم في تعزيز القيم الديمقراطية وبرامج نشر الديمقراطية كطريق مباشر لمحاربة الإرهاب.

وخلال الدورة الأولى للكونغرس الحالي، قدم العديد من الأعضاء مشروعات قوانين خاصة بدعم الديمقراطية على المستوى الجمعي للدول وعلى المستوى الفردي أيضا. فقد أقر الكونغرس مشروع قرار تقدم به السيناتور توم لانتوس Tom Lantos (ديمقراطي ـ كاليفورنيا) تحت اسم quot;قانون التقدم الديمقراطي the Advanced Democracy Act of 2007، في فبراير 2007 بهدف مراجعة درجة التقدم في البرامج المختلفة وتقديم تقارير وافية حول البلدان غير الديمقراطية بهدف تقوية برنامج جديد أطلق عليه quot;مجتمع الديمقراطيات Community of Democraciesquot;، وتوفير المخصصات المالية لهذا البرنامج في العامين 2008 و 2009. وقدم نواب آخرون مبادرات خاصة بدول بعينها مثل: أوكرانيا وفنزويلا وأفغانستان وفيتنام وصربيا.

ولدى الكونغرس برنامجه الخاص لتعزيز التشريعات في الديمقراطيات الجديدة، ممثلا في لجنة مجلس النواب للمساعدة الديمقراطية the House Democracy Assistance Commission (HDAC) والتي تأسست في مارس 2005، كامتداد لبرامج الكونغرس السابقة لتعزيز الديمقراطية في التسعينيات وخاصة في دول شرق أوروبا.

وتضم اللجنة الآن 11 عضوا من الديمقراطيين و 9 من الجمهوريين، وتعمل على تمكين النواب والخبراء والوكالات التي تتلقى دعما من الكونغرس من القيام بأعمالهم وتلقي النصائح من اللجان التشريعية والتعاون مع برامج إعادة التقييم، والتواصل مع نواب البرلمانات الأخرى للتشاور حول السبل التشريعية الأمثل لتطبيق الديمقراطية، وتختار الدول التي قد تكون شريكة في برامج التحول الديمقراطي، وتقدم توصيات للإدارة سيما ما يرتبط بتوزيع مخصصات برنامج المساعدة الأميركي USAID. وقد تلقت حتى الآن نحو 12 دولة مساعدات من هذه اللجنة، مها: أفغانستان، ولبنان، وإندونيسيا، وجورجيا، وهايتي، وكينيا، وليبريا، وأوكرانيا.

معايير التقييم
وفقا للدراسة، فإن كلا من الإدارة والكونغرس قد واجها تعقيدات مختلفة بشأن برامج ترويج الديمقراطية. وأولها تعريف الديمقراطية ذاتها، وثانيها الوسائل الأمثل لترويجها، وثالثها قياس التقدم الديمقراطي وكيفية الحكم على نجاح الجهود في دولة ما.

وقد وجه الكونغرس اهتماما خاصا لمحاولة حل هذه المشكلات، إذ تلقى تقريرا مفصلا حول سبل قياس التقدم الديمقراطي في بلد ما من المعهد الوطني للديمقراطية National Endowment for Democracy في مارس 2006، ورأت لجنة مخصصات العمليات الخارجية بمجلس السشيوخ في تقريرها السنوي لعام 2006 أن ثمة ضرورة لوضع تعريف محدد للديمقراطية، ولاحظت اللجنة أن كلا من وزارة الخارجية وبرنامج المساعدة الأميركية USAID لديهما تعريف مختلف لبرامج الديمقراطية، وطالبت اللجنة بوضع تعريف محدد في سياق قانون تعزيز الديمقراطية.

وفي تقريرها السنوي لعام 2007، أكدت اللجنة على أن أفضل المقاييس للحكم على برامج الترويج للديمقراطية تكمن في توجيه البرامج لتعزيز الحكم الصالح، وحقوق الإنسان، والإعلام المستقل، وحكم القانون، وتقوية الأحزاب السياسية الديمقراطية، ومنظمات المجتمع المدني، وأضافت اللجنة ضرورة تركيز الجهود على المواطنين أنفسهم، لأن أي تطوير ديمقراطي في المؤسسات وفي الممارسة يتوقف على مسئولية هؤلاء المواطنين ودورهم.

وحول كيفية تحقيق التوازن بين التكلفة والمخاطرة جراء البرامج الأميركية لنشر الديمقراطية، يفرق معدو الدراسة بين ثلاث حالات يجب على الكونغرس والإدارة أخذها محل اعتبار، وهي:

أولا: حالة التكلفة المنخفضة والمخاطر الأقل: وهنا توجه الجهود لدول بها أطر ديمقراطية قائمة فعليا وداخل قوي يؤيد الدمقرطة، لكن هذه الدول تحتاج دفع الجهود الإصلاحية من خلال برامج أميركية ودولية. وهذه الحالة قد عرفتها دول البلطيق ووسط أوروبا وبعض الدول في أميركا اللاتينية وآسيا وقليل من الدول الأفريقية. إن مثل هذه الحالات لابد أن تعطيها الولايات المتحدة الأولوية في برامج تعزيز الديمقراطية.

ثانيا: حالة التكلفة المتوسطة والمخاطر المتوسطة: وهذه حالة يتم فيها استخدام البرامج للمساعدة في تحقيق الاستقرار والديمقراطية خاصة بعد أن تمر البلد بمرحلة من عدم الاستقرار. إذ يمكن في إطار جهود إعادة المصالحة بناء هياكل ومؤسسات ديمقراطية خلال فترة التحول. وبالطبع فإنه من غير المؤكد ما إذا كانت ستنجح مثل هذه الجهود أم لا وما إذا كانت الديمقراطية ستجد لها أرضية للثبات، لكن ضروري توجيه الجهود في مثل هذه الحالات خاصةً وأنها عرفت إيجابيات مختلفة في حالات مثل: يوغوسلافيا وتيمور الشرقية.

ثالثا: حالة التكلفة المرتفعة والمخاطر الأكبر: وهذه الحالة على وجه خاص هي ما تثير مناظرة ساخنة داخل الولايات المتحدة بين صناع القرار والخبراء. وترتبط هذه الحالة بنمطين هما، أولا: وجود نظم استبدادية ترتبط بعلاقات متميزة ومصالح متبادلة مع الولايات المتحدة وخاصة في الحرب ضد الإرهاب. وثانيا: فرض تغيير النظام وإحلال الديمقراطية عبر التدخل العسكري.

وفي النمط الأول ثمة مخاطر تتعلق بإمكانية وصول المتطرفين إلى السلطة، لكن ذلك أيضا يجعل أميركا تخسر حرب العقول والقلوب وخاصة في البلدان الإسلامية حيث يسعى الإرهابيون لكسب أعضاء جدد. والسائد هنا أن أميركا عليها أن تمارس الضغوط على الأنظمة الحاكمة لإحداث إصلاح حقيقي والعمل على نشر الثقافة الليبرالية حتى لا يحل الإسلاميون في السلطة.

أما في النمط الثاني، فقد كان التدخل العسكري يهدف إلى تطبيق النظام الدستوري كما حدث في جرينادا عام 1983 وبنما عام 1989، بينما الحالات الأحدث مثل احتلال العراق وأفغانستان، فقد كان الهدف الأول هو تغيير النظام وإحلال الديمقراطية كان هدفا ثانويا، سرعان ما تحول إلى هدف مركزي. بيد أن صعوبات التحول في هاتين الحالتين تذكرنا بحالات تدخل عسكري فاشلة في بلدان أخرى مثل الصومال ولبنان وفيتنام.

وهذه الأمور تثير التساؤل حول هل أن هذه البلدان بها بنية ثقافية ومؤسساتية لإعمال الديمقراطية عبر التدخل العسكري؟.

ويرى البعض أن أقل قدر من الديمقراطية كان ممكنا في مثل هذه الحالات، فيما يرى البعض الآخر أن أميركا تحتاج إلى تعزيز الديمقراطية في أفغانستان والعراق باعتبارهما نماذج لتنمية الشرق الأوسط، وأنه لابد من العمل جديا لإحداث هذا التغيير. لكن هذا الرأي الأخير يقابل أيضا بنقد آخر على شكل تساؤل أشد تعقيدا، هو: وهل من ضمانات لاستكمال التجربة حتى إذا نجحت أميركا في تحويل البلد إلى طريق الإصلاح الديمقراطي؟!