حافظ الأسد... قصة السياسي الأكثر دهاء (1-4)
من بيوت الحجر إلى ناشط طلابي متكلم!
زيد بنيامين من دبي:
بعد عمر إمتد على مدى 70 عامًا، 30 منها في الحكم رئيسًا لسوريا... وخلال 18 ساعة من العمل اليومي... إستسلم ذلك الابن القادم من عائلة عملت في فلاحة الأرض أمام ذبحة قلبية كانت الثانية خلال حياته... وذلك أثناء حديث هاتفي مع الرئيس اللبناني السابق (اميل لحود)... منهياً بذلك فصلاً مهمًا في التاريخ السوري ربما ما زال يثير الكثير من الجدل، وتمتد آثاره حتى يومنا هذا. كان الرجل خلال هذه الرحلة قد نجا من العديد من محاولات الإغتيال، كما نجا من العديد من محاولات الإبعاد عن السلطة، ولم يبتعد عن القسوة في بعض المراحل من أجل الحفاظ عليها في بلد يعيش في منطقة مضطربة...
الاسد كان قليل السفر إلى خارج سوريا، كما كان قليل الخروج في سوريا نفسها واقتصر ظهوره على المناسبات الدينية كعيدي الفطر والاضحى .. منزله كان في مقابل مكتبه الرئاسي وهناك كان يدير احد اهم الرجالات الذين مروا على سوريا واكثرهم دهاء في امور بلده وعلاقاتها مع الخارج، وكان يعرف تحديدًا متى يرخي الحبل ومتى يشده..
سوريا كانت بلدًا مراهقًا قبل مجيء حافظ الاسد الى الحكم في دمشق، ربما لو قلنا مراهقًا سياسيًا.. فعاصمة الأمويين عرفت في هذه المرحلة من التاريخ بكثرة انقلاباتها المتتالية خصوصًا بعد الاستقلال عن فرنسا في عام 1946 .. وكان عمر حافظ الاسد وقت الاستقلال تحديدًا، 16 عامًا، ويعيش في بيئة فقيرة وبلد بلا اي ملامح من التطور الحضاري،والشعب يعيش في فوضى لا يعرف صورة غده...
ولد الاسد في عائلة فقيرة وكان التاسع من بين 11 طفلاً في السادس من اكتوبر عام 1930 ، كانت عائلته بالكاد تعرف بين سكان تلك القرية المنسية في القرداحة وهي القرية التي عاش فيها والواقعة في جبال الانصارية والتي نشأت جيولوجيًا اثناء تكوين ساحل البحر الابيض المتوسط ..
كانت تلك الجبال كفيلة بحماية عائلته وقريته التي انتمت الى الاقلية العلوية التي تعد احدى اقسام الطائفة الشيعية في بلاد غالبية سكانها من السنة، لكنها كانت مجهولة ومهملة طوال 400 عام من الحكم العثماني السني لذلك الجزء من الارض ..
وتشير بعض المصادر انه اثناء ولادة حافظ الاسد، فإن تلك القرية كانت مكونة من 100 منزل ولم يكن فيها اي مسجد او سوق او حتى مكان يتجمع فيه ابناء القرية فيما يقول (باتريك سيل) في كتابه (اسد سوريا .. معضلة الشرق الاوسط) ان القرداحة كانت عبارة عن طريق يقع في نهايته مكب للاوساخ.
تزوج الوالد مرتين خلال حياته .. وقرر اسكان زوجتيه كل على حدة في غرفتين منفصلتين في ذلك البيت الصغير المبني بالحجر في القرداحة ... فيما كان العالم العربي قد خرج توًا من الاحتلال العثماني الى احتلال فرنسي او بريطاني بعد ان نجح الغربيون في الحصول على ثقة العرب لينقلبوا عليهم في الواقع ويرث الاحتلال احتلالاً اخر.
كان الشعب السوري شعبًا يعشق الحديث عن السياسة .. وكان صدى اتفاقية سايس بيكو قد تحولت الى تراث يتناقله السوريون خصوصًا والعرب عمومًا حيث نجح البريطانيون والفرنسيون في تقسيم اراضي العرب فيما بينهم وكان هذا الموضوع فيما بعد الحديث المفضل للاسد امام جميع ضيوفه من الغربيين..
الفرنسيون وجدوا في العلويين... حلفاء محتملين... ولذلك قرروا ان يفتحوا عددًا من المدارس الفرنسية في قرية القرادحة .. ولم تقتصر مثل هذه (المكارم الاستعمارية) على الطائفة العلوية بل جميع الطوائف الصغيرة التي شكلت ذلك البلد وكان حافظ من بين الاوائل الذين درسوا هناك بالطبع .. في عام 1944 انتقل ذلك المراهق الصغير الى اللاذقية ليكون اول فرد من عائلته يقوم بزيارة تلك المدينة الواقعة على الساحل .. كان الغرض من تلك الزيارة اكمال دراسته الثانوية لكنه بدل ذلك وجد نفسه وسط جو سياسي مشحون خلقه ابناء المدينة تسبب في ادخاله السجن وهو فتى يافع لم يتجاوز من العمر الاربعة عشر عامًا...
تم إلقاء القبض على حافظ الاسد ومجموعة من زملائه بعد ان دخلوا في مناقشات جمعت تيارات سياسية متعددة .. فمن تلك المجموعة من كان ينتمي الى الشيوعيين ومنهم من كان ينتمي الى التيار القومي العربي .. ومنهم من كان اسلاميًا... وكان هذا الحديث السياسي يزداد حدة خصوصًا مع نيل سوريا الاستقلال بعد عامين فقط من وصول الاسد الى اللاذقية..
وخلال هذه المرحلة إنضم الاسد الى حزب البعث العربي الذي شكل حديثًا والذي كان يدعو الى بعث المجد والانجازات العربية القديمة .. كان الاسد نشطًا في دراسته الثانوية .. فاختير رئيسًا للجنة شؤون الطلبة وخلال ترؤسه لهذه اللجنة كان الاسد يسمح للطلبة المنتمين الى الاحزاب القومية بتنظيم تظاهرات في المدرسة ضد بقية الاحزاب وضد الحكومة وهو الحق الذي لم يمنحه للطلبة المنتمين الى بقية الاحزاب .. وتقول بعض المصادر ان الاسد ارتقى الى مراتب اهم من ذلك حينما وصل الى رئيس لاتحاد الطلبة في سوريا...
انهى الاسد دراسته الثانوية عام 1951 وكان عمره انذاك 21 عامًا، كان الرجل قد تخرج سياسيًا قبل ان يكون قد انهى مرحلة الدراسة هذه، وكان شغفه بالسياسة وكواليسها قد تعاظم حتى انه تأخر في دراسته بسبب ذلك... لكن بقي الفقر هو الصوت الاعلى في حياته والمؤثر في خياراته ومن هناك كان القرار هو الهروب من الفقر بالانضمام الى الجيش، تاركًا حلمه بالانضمام الى كلية الطب في الجامعة اليسوعية في العاصمة اللبنانية بيروت لضيق ذات اليد.
انضم الاسد الى كلية القوة الجوية في حمص عام 1951 .. كان الاستقلال قد ترك له اثرًا على الجيش.. حيث سمح لابناء الطبقات الفقيرة بالدخول إليه وكانت اجور الدراسة اقل بكثير مما كانت عليه الحال قبل الاستقلال.. كان العلويون عمومًا حالهم كبقية الاقليات في هذه المنطقة التي بدأت تتشكل،إذ يريدون ان يصلوا الى مراتب افضل سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا من خلال الجيش.
بعد فترة قصيرة من الانضمام الى الجيش .. ظهر المد الناصري في مصر خصوصًا مع بداية النصف الثاني من عقد الخمسينات.. استمر الاسد في الدراسة حتى عام 1955 حينما تخرج من دراسته للطيران العسكري ملازمًا...
في عام 1958 كانت سوريا ومصر على موعد مع الوحدة وتشكيل الجمهورية العربية المتحدة .. تلك الوحدة التي جاءت في عصر تعددت فيه التحالفات من اجل تشكيل سور ضد المد الشيوعي سواء ما كان منها بدفع غربي او ما كان تحديًا للغرب نفسه.. فكانت الفكرة تشكيل تحالف عربي خالص من هذا النوع للوقوف ضد اي مد من اي نوع كان... لكن تلك الدولة لم تستمر سوى ثلاث سنوات لتنهار عام 1961 بسبب عبد الناصر نفسه الذي فرض سياساته على السوريين والذين باتوا مواطنين من الدرجة الثانية في الجمهورية الوليدة.
المصادر:
صحيفة النيويورك تايمز
كتاب اسد سوريا، معضلة الشرق الاوسط.. لباتريك سيل
مجلة التايم الاميركية
في الحلقة الثانية:
حينما اصبحت القاهرة... طريقًا لوصول حزب البعث الى السلطة