تنتظر كلمة سيّد المدينة والسلاح كي تعيش
بيروت عسكر يملاًون الشوارع ... quot;على مين؟quot;

إيلي الحاج من بيروت: quot;العسكر أكثر من المدنيين في الشوارع quot;، قال الصحافي الصديق الذي رافقني هذا الصباح في جولة على بعض مناطق بيروت، quot; لكن العصافير تزقزق بقوة quot; ، أضاف. كان الوقت باكراً هذا الصباح الربيعي عندما انطلقنا من quot; بيروت الشرقية quot; وهي تسمية من زمن الحرب الأهلية السابقة 1975- 1990 عادت إلى التداول لمجرد تكرار اسم quot; بيروت الغربية quot; التي شهدت الحوادث الأمنية مدى أسبوع مضى . بوصولنا إلى أول وسط المدينة بدت لنا الطريق مقطوعة على جسر فؤاد شهاب الذي يصل بين البيروتيين ، كانوا يسمونه quot;الرينغquot;، وأحياناً كثيرة كان يتحوّل المعبر الوحيد بين شقي العاصمة اللبنانية وأحياناً كثيرة كان يتحوّل ميداناً واسعاً لممارسة القنص.

الوفد العربي يكمل مهمته وموسى متفائل :الا ترون ابتسامتي !

تحدثنا عن العصافير والناس والقناصة والمئات بل ربما الآلاف الذين قضوا في هذه البقعة وهم يحاولون الإنتقال بين ضفة وأخرى، تلك الأيام كان الناس يتبعون توجيهات مذيع في quot; إذاعة لبنان quot; الرسمية والوحيدة قبل أن يمتلئ أثير لبنان بإذاعات من شتى الإتجاهات والميول . الشرطي الواقف عند إشارة السير أشار إلينا بالنزول إلى ساحة الشهداء في اتجاه البحر وكنا نتطلع إلى أطراف المخيم الواسع الذي أقامه أنصار quot;حزب اللهquot; وحلفاؤه في ساحة رياض الصلح ويمنع على المصورين والناس تصويره . من المخيم خرج شبان وأقفلوا الجسر في الإتجاهين بإطارات وحجارة وعوائق . quot;لن يفتحوه قبل أن يلقي السيد حسن نصرالله كلمة متلفزة اليوم يعلن فيها إنتهاء العمليات الحربيةquot;، قال رفيقي ، اليساري السابق الشيعي الحريري الهوى اليوم . كان الجسر ضيقاً في ما مضى وسّعه الرئيس رفيق الحريري وربطه بأنفاق وطرق واسعة بين quot;البيروتيينquot;.

quot;سالكة وآمنةquot; عبارة شهيرة للمذيع الراحل شريف الأخوي استذكرناها بينما كنا نعبر أول حاجز للجيش اللبناني. نظر إلينا الجنود بلا اكتراث ولم يقولوا شيئاً بل أومأ إلينا أحدهم بيده كي نتابع. هذه الساحة هنا تعبق بالذكريات والرموز ، فبين مخيم إعتصام quot;حزب اللهquot; وحلفائه وضريح الرئيس الحريري ورفاقه طريق رفع عليها الجيش حاجزاً عاليا بالأسلاك الشائكة . هنا ساحة 8 آذار وهنا ساحة 14 آذار وبينهما ارتفع جدار أشواك وشكوك وأوهام تلطخ أخيراً بالدم.

مهرولات على كورنيش المنارة
نعبر قبالة الرموز وقبالتها : المسجد الكبير الملاصق لكاتدرائية المدينة ، تمثال الشهداء الذين أعدمهم العثمانيون، صورة كبيرة للوزير الراحل بيار الجميّل على المقر المركزي لحزب الكتائب ثم نلتف يساراً فتطالعنا صورة كبيرة للنائب والصحافي الراحل جبران تويني على مبنى جريدة quot;النهارquot; وبعده تمثال برونزي للكاتب الصحافي سمير قصير تحت شجرة وارفة في الساحة التي تحمل إسمه ... تذكرنا سمير ومقاله quot;عسكر على مين؟quot;.
-quot;هذه الأيام؟ على نسائهم في البيوتquot;.

عاشق بيروت الكبير سمير قتلوه في أحد شوارعها مثل هذه الأيام صباح 2 حزيران/ يونيو 2005، وبعده حاولوا قتلها. ترى لو كان حياً ماذا كان كتب عنها وعنهم اليوم ؟

الرموز تتكاثف، تتداخل، تتعدد وتتناقض. الجيش رمز الوطن وللعجز أيضاً . مخيم quot;المعارضة الوطنية اللبنانيةquot; المستمر منذ نحو سنة ونصف بلا جدوى حتى اليوم لعجز عن إسقاط حكومة الرئيس فؤاد السنيورة رمز لقدرة الحزب الشيعي على الصبر كما يردد أمينه العام. غير مستعجل quot;حزب اللهquot;، وإذا لم يسقط السنيورة غداً فبعد خمسين سنة . لا بد أن يرحل في نهاية المطاف وسيطلق أنصار الحزب وحركة quot;أمل quot; رشقات نارية غزيرة في الهواء مدى ساعات كما فعلوا أمس بعد تراجع الحكومة عن قراريها الشهيرين. قال رفيقي إن ثمن تلك الرشقات يكفي لإعادة إعمار الضاحية الجنوبية ورفع الحرمان عن عائلاتها. لكنها ذهبت في الهواء.

تذكرنا أن الجيش كان قد أنذر في اليوم السابق باستخدام القوة لمنع المظاهر المسلحة. ولكن ماذا يمكنه أن يفعل متى تطلق آلاف الرشاشات نيرانها في وقت واحد ومن كل الأحياء؟ وخصوصاً من الضاحية الجنوبية؟

في شارع باب إدريس أطلقنا ضحكتين ونحن ننتظر إشارة المرور الخضراء. كان يقول إنه حارب مع رفاقه آنذاك في quot;الحركة الوطنيةquot; مقاتلي حزب الكتائب في هذه المحلة مطلع الحرب الأهلية السابقة، لم يكن يتصوّر أن يوماً سيأتي يهرب فيه من مسلحين شيعة ويصبح الهمّ الرئيس لحزب الكتائب أن يعثر له على مكان يسكنه في quot;الشرقيةquot;.

رواد مقهى في الحمرا
كنا وصلنا إلى شارع quot;الستاركوquot; وكنت أعلق على كلامه بالقول إنه يبالغ في كل تشابيهه ، فأجابني إن قرار العيش بسلام في لبنان مع إستمرار quot;حزب اللهquot; في حمل السلاح مهما تكن مبرراته وذرائعه هو مبالغة فظيعة في التفاؤل. وإننا نضحك على أنفسنا عندما نأمل أن نعيش في هذه البلاد مثل بقية بني آدم .
دخلنا شارع كليمنصو. العسكر في كل مكان راجلون وفي الآليات، جيش وقوى أمن وفرق فرق ثم يقفل الشارع بحاجز . هنا منزل رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط. وثمة سهم يشير إلى اتجاه السير الموقت. استدرنا وعدنا إلى مدخل شارع الحمراء من قرب محطة quot;أخبار المستقبلquot; المقفلة والتي انتقلت موقتاً إلى ضاحية بيروت الشرقية. وكما في كليمنصو حشد من جنود الجيش بآلياتهم وأسلحتهم . الطريق شبه خالية والزقزقات كما في الشوارع الأخرى صاخبة قوية. بيروت ملأى بالجيش والعصافير وطرقها شبه خالية لأن التلاميذ ما زالوا نائمين فالمدارس لم تفتح ، ولا تزال تنتظر المطار وطرق العاصمة المقطوعة التي تنتظر خطاب سيد المدينة المسلّح السيد نصرالله كي تفتح.

quot;هل هذا خط بارليف؟quot; تساءلنا عندما عبرنا قرب مقر وزارة الداخلية في شارع الحمرا الذي زنره جدار عال من الأسلاك الشوكية . ثم رأينا أصحاب متاجر يفتحون أبوابها وباعة جرائد في أكشاكهم وسيارات مدنية ومشاة كأنه يوم عادي وهناك مقاه فتحت وجلس روادها يرتشفون القهوة ويقرأون الصحف . هل ننزل ؟ quot;لا، القوميون السوريون هنا يعرفونني ولا أريد أن ألتقيهم . ربما يظنون أنني مرتكب مجزرة حلباquot;.

وقع القوميون السوريون في خطأ تاريخي عندما استفزوا مشاعر السنة في لبنان بحرق محطة quot;المستقبلquot; ورفع علمهم وصور الرئيس السوري بشار الأسد عليها، ويعتبر قائدهم النائب بإرادة quot;حزب اللهquot; أسعد حردان شديد الإرتباط بالإستخبارات السورية ورمزاً من رموزها في لبنان.

كانت فعلة مسلحيه تعبيراً عن قصر نظر. وكان أحدهم أرسل إلي بالأنترنت لينكا يظهر عبر quot;اليوتيوبquot; فيلما عما حصل في حلبا فلم أفتحه . يصعب على إنسان طبيعي التفرج على مشاهد قتل عزّل، وحتى مذيع قناة quot;المنارquot; أشاح بنظره عن المشاهد المقززة التي عرضتها المحطة لإثارة الرأي العام ضد quot;تيار المستقبلquot;. وروى وزير الرياضة أحمد فتفت إن جمعاً من أهالي حلبا أراد قطع الطريق إحتجاجاً على اجتياح quot;حزب اللهquot; لبيروت الذي اعتبروه مهيناً للسنّة وإحراق تلفزيون quot;المستقبلquot; فأطلق مسلحون قوميون من مقرهم النار على الجمع وقتلوا اثنين وجرحوا آخرين. وعلى الأثر أقدم أهالي الضحيتين الغاضبون على الإنتقام فقتلوا نحو 11 من القوميين السوريين بعد أسر معظمهم . وبصرف النظر عن صحة الرواية أو عدمها يبقى فعلاً وحشياً عمل إعدام الأسرى، المسلحين أو المدنيين، وسواء ارتكبه في سورات غضب أنصار ل quot;المستقبلquot; في الشمال أو مسلحون من quot;حزب اللهquot; في حق أنصار للحزب التقدمي الإشتراكي في الشويفات أو إشتراكيون في حق أنصار أو مسلحين للحزب الشيعي في عاليه. وقد أمضى جنبلاط ليلة وهو يصيح على الهاتف في أنصاره الذين أسروا نحو 70 مسلحاً من quot;حزب اللهquot; مع آلياتهم في جرود جبل الشوف لئلا يقتلوهم بعدما استسلموا. والأهم من توزيع التبعات والإتهامات بالمسؤولية عما ارتكب أن وحشاً مخيفاً قد استيقظ في نفوس اللبنانيين. وأذكر أن مدير التحرير السابق لصحيفة quot;لوريان لوجورquot; الفرنسية العريقة جوزف سعادة ظهر منتصف التسعينات في برنامج برناربيفو على محطة quot;فرانس- 2quot; لمناقشة كتابه quot;ضحية أم جزار؟quot;، كتاب روى فيه كيف ارتكب شخصياً وهو الكادر المثقف مجزرة quot;السبت الأسودquot; بعد قتل ولديه عام 1975 . وعندما أدرك ضيفا البرنامج الآخرين أن الرواية ليست خيالية قفزا عن كرسييهما هلعاً. ولا يزال سعادة الذي بات عجوزاً يسأل من يسأله: quot;أنت ما رأيك؟ هل كنت ضحية أو جزاراً؟quot; .

تشابهت الشوارع وكنا نحكي عن روح الحقد الذي انبثق في النفوس وعاود الحياة ظاهراً على بعض الوجه. ونتطلع إلى أعلام هي أيضاً رموز انتصار تحقق، ووجوه قليلة لناس عاديين في الشوارع وجنود تكاد تغفيهم زقزقات العصافير في مدينة تراهن على النسيان كي يسامح أهلها والآتون إليها بعضهم بعضاً يوماً ما . بقية الشعوب يعيش الجيل فيها حرباً أهلية ونحن حربين . بعدما توقفنا ونظرنا مليا إلى البحر على كورنيش المنارة الخالي إلا من بعض حسناوات أبين التخلي عن هواية الهرولة استطعنا أن نحدد بالضبط شعورنا حيال هذه المدينة التي أدرنا لها ظهرينا: الشفقة!