أسامة العيسة من القدس: تحظى المتصوفة رابعة بنت إسماعيل العدوية، بشهرة كبيرة، وأصبحت رمزا، للعشق الإلهي، ويطلق عليها شهيدة هذا العشق، وصورت أفلام ومسلسلات حول تلك التي انتقلت من أسلوب حياة متهتك، إلى آخر منذور إلى الله، الذي لم يكن لغيره مكانا في قلبها ومشاعرها.
وجمع عنها أبيات شعرية، ما زالت تشكل مع أشعار أخرى لكبار المتصوفة، مرجعا لفهم بعض جوانب الصوفية.
و

مدخل قبر رابعة العدوية
استوحى كثير من الشعراء والأدباء سيرتها، في أعمالهم الأدبية.
وتكاد سيرة رابعة معروفة، ويطلق عليها (أم الخير)، فهي ولدت في البصرة وكانت مولاة آل عتيك بنفس المدينة، وتختلط السيرة بأساطير وكرامات، مثل تلك التي لصقت برموز الصوفية، ومن أشعارها المعروفة على نطاق واسع:
أحبك حبين حب الهوى وحبًّا لأنك أهلٌ لذاكا
فأمَّا الذي هو حبُّ الهوى فشُغلِي بذكرك عمَّن سواكا
وأمَّا الذي أنت أهلٌ له فكشفُك لي الحُجبَ حتَّى أراكا
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي ولكن لك الحمد في ذا وذاكا
وهي التي خاطبت الذات الإلهية:
عرفت الهوى مذ عرفت هواك وأغلقت قلبى عمن عداك
وقمت أناجيك يا من ترى خفايا القلوب ولسنا نراك
قبر رابعة العدوية
وعلى هذا المنوال، عبرت بشعرها عن حالة العشق الإلهي، وأدى إلى تقلبات لديها وجعلها قلقة دائما ونقل عن خادمتها عبدة بنت أبي شوّال قولها " كانت لرابعة أحوال شتى: فمرة يغلب عليها الحب، ومرة يغلب عليها اليأس، وتارة يغلب عليها البسط، ومرة يغلب عليها الخوف".
وقادها سعيها للتحقق في هذا العشق، إلى القدس، أولى القبلتين، وعاصمة الأنبياء والأديان، وعاشت، مثيرة جدلا بين معاصريها، لم ينته حتى الان، وفي القدس ماتت وكان عمرها 40 عاما.
وفي مكان ما على جبل الزيتون (الطور)، المطل على مدينة القدس، من جهة الشرق، ترقد رابعة الان، في قبر يكاد يكون منسيا، لا يسترعي الانتباه، ولا يعرف الكثير من الفلسطينيين، بان رفات أم الخير، شهيدة العشق الإلهي، يرقد بينهم.


الاسعدية
يقع قبر رابعة العدوية في ما يشبه الحوش، يكاد يكون غريبا، من حيث تعدد استخداماته، وهو مكون من مبان متلاصقة، يطلق عليه اسم الزاوية الاسعدية، التي كانت مركزا للصوفيين في منطقة القدس، وتنسب إلى مفتى الإمبراطورية العثمانية (اسعد أفندي بن سعد الدين حسن حيان التبريزي).
وأمر اسعد التبريزي، الذي وصف بأنه من أعلام عصره، ببنائها، خلال زيارة له إلى القدس، وتشرف على الزاوية عائلة مقدسية عريقة هي عائلة العلمي، ويوجد في المكان قبر جد العائلة الشيخ محمد بن عمر العلمي، الذي تولى الإشراف على الزاوية، وتوفي عام 1628م، وتولت ذريته من بعده هذه المهمة، وتعتبر ذلك تشريفا له، وحافظت على ذلك طوال عقود، مثلما فعلت عائلات مقدسية أخرى حافظت على الأدوار التي أسندت لأجدادها في تاريخ المدينة المقدسة.
ويتردد أن مؤسس الزاوية الشيخ محمد، هو من سلالة النبي محمد، من خلال حسن بن فاطمة، وانه جاء إلى القدس من جبل العلم في المغرب.
وفي يوما ما اعتبرت الزاوية الاسعدية أعظم زوايا الصوفيين في القدس، الذين كانت لهم زوايا أخرى متعددة، ما زالت موجودة، ولكن ضعف الطرق الصوفية في فلسطين، لا تجعل الأضواء مسلطة عليها.
وفي سنوات سابقة كانت تشهد هذه الزوايا جلسات للذكر مساء كل خميس، ورقص للدراويش، وموسيقى دينية، وقراءة أوراد القران، ومدائح لله ورسوله.
ويذكر الدكتور توفيق كنعان في كتابه الذي صدر عام 1927 بالإنجليزية، عن دار نشر لوزاك في لندن وحمل عنوان (الأولياء والمزارات في فلسطين) بعض مهام هذه الزوايا.
يقول كنعان بان من أهم الأوراد التي تتلى في هذه الزوايا "ورد المحيا الذي ينفذ في الأيام العشرة الأخيرة من رمضان".
ويشير إلى أن الهدف الأساسي من هذه الزوايا كان إطعام الفقراء وإيوائهم، وهو الأمر غير الموجود حاليا.
والان عندما يدخل الزائر من باب الزاوية الاسعدية يجد أمامه باحة صغيرة، تؤدي إلى مسجد، وبجانب باب المسجد يوجد باب يؤدي إلى مسكن عائلة العلمي.
وبالإضافة إلى المسجد والزاوية، يوجد في المكان (كنيسة الصعود) وهي كنيسة صغيرة، ذات أهمية بالغة لدى الطوائف المسيحية، باعتبارها، في مكانها على قمة جبل الزيتون، المكان المفترض الذي صعد فيه السيد المسيح إلى السماء.
وتتولى الحفاظ على الكنيسة عائلة فلسطينية، ترتب كل ما يتعلق بها، وتفسح المجال للطوائف المسيحية المختلفة كل حسب تقويمه، للاحتفال بعيد الصعود.


أم الخير
تستقطب كنيسة الصعود الصغيرة أعداد كبيرة من السياح والأجانب، بعكس قبر رابعة العدوية، الذي يقع في مكان أسفل الزاوية الاسعدية.
ولزيارة قبر العدوية، لا بد من الدخول إلى الزاوية الاسعدية، والاستئذان من عائلة العلمي، قرعت جرس المنزل، وأعطتني إحدى نساء العائلة مفاتيح القبر، معتذرة من عدم وجود احد من الرجال أو الأولاد لمرافقتي.
أخذت المفاتيح المتعددة، وقصدت قبر شهيدة العشق الإلهي، والذي يدخل إليه بطرقة ضيقة نسبيا، تفضي إلى باب صغير منخفض، يعلوه قوسا حجريا.
ويؤدي هذا الباب إلى غرفة كبيرة تستخدم للصلاة، مفروشة بالسجاد، وفيها محراب، وفجوات في الجدران يستخدمها البعض، على الأغلب، للصلاة بشكل فردي ومنعزل، حيث الخشوع، الذي يشجع عليه أجواء المكان.
وعموما فان عمارة المكان تشبه عمارة باقي الأضرحة والمزارات المتعددة في فلسطين، ولكنها متسعة لأنها كانت تستقطب المجموعات الصوفية.
ويوجد في الغرفة الكبيرة ذات المحراب، بئر ماء، هناك أحاديث عديدة عن مذاقه الجيد، ويتوسطها درج صغير، يتكون من اثنتي عشر درجة محفورة في الصخر الصلب، يؤدي إلى ما يشبه المغارة أو الكهف، أو الغرفة الصغيرة، وفيها يقع قبر رابعة العدوية، الذي يرتفع أكثر من متر عن الأرض، وحوله أمكنة للصلاة والجلوس والخشوع، ومنها ما يمكن اعتباره غرفة صغيرة جدا، يقال أنها كانت تقيم فيها صلاتها وابتهالاتها ومناجاتها للذات الإلهية.
ويجلل القبر الذي يرتفع عن الأرض ويشبه القبور التي تغص بها المقامات في فلسطين، رداء اخضر، كتبت عليه آيات قرآنية.
وضريح رابعة هذا استقطب اهتماما كبيرا من الباحثين الأجانب، الذين زاروا الأراضي المقدسة في السابق، وبعضهم قدم اسما غير صحيح لها مثل (راحبا) و(رحبيت).
والمثير، في ضريح رابعة، انه مثل كثير من المزارات والمقامات في فلسطين، مقدس من أتباع الديانات الثلاث: المسلمون يقدسونه لكونه قبر رابعة أم الخير، والمسيحيون يقدسونه باعتباره قبر قديسة تدعى (بيلاجيا) كان اسمها في السابق مارجريتا وتوفيت عام 457م، أما اليهود فيعتبرون أن التي ترقد في الضريح النبية خلدا، وهي إحدى نساء العهد القديم.
والأشد إثارة انه يمكن أن تكون قصص النساء الثلاث متشابهة من حيث أن كل واحدة عاشت فترة ضياع ثم التوبة والانقطاع إلى الإله.
وأسرعت بالخروج كي لا أزعج رابعة التي ترقد في ضريحها، بعيدا عن رغبات أتباع الديانات المختلفة، متذكرا ما ينسب إليها من آبيات تخاطب فيها الذات الإلهية:
راحتي يا إخوتي في خلوتي وحبيبي دائماً في حضرتي
لم أجد لي عن هواه عوضا وهواه في البرايا محنتي
حيثما كنت أشاهد حسنه فهو محرابي، إليه قبلتي