أسامة العيسة من القدس: لا توحي أجواء مدينة القدس المعبقة بالماضي، بتاريخ المدينة الدموي، الذي لا يليق بمدينة صغيرة مقدسة من الأديان التوحيدية الثلاثة، ولكن الواقع أن هذه المدينة كانت مسرحا لأحداث ومؤامرات كان لها تأثيرها الإقليمي والدولي، طوال قرون من تاريخها. وخلال المائة العام الأخيرة، وقعت فيها عدة عمليات اغتيال، معظمه معروف، ولكن بعضها لم يحظى بالتحقيق الكافي حتى الان.

وما يجمع بين هذه الاغتيالات، كما لاحظت صحيفة يديعوت احرنوت الإسرائيلية في تقرير لها عنها فانه في مدينة القدس quot;ترتكب الاغتيالات السياسية بصرف النظر عن الدين أو العرق أو الجنسيةquot;.

أرثوذكسي ومثلي
وقد يكون مفاجئا أن أول عملية اغتيال ترصدها الصحيفة الإسرائيلية، وقعت على خلفية ميول صاحبها الجنسية، وان كان ذلك غير مؤكد، وهو الأديب اليهودي الدكتور يعقوب إسرائيل ديهان الذي اغتيل في حزيران (يونيو) عام 1924 في شارع يافا، غرب القدس.

كان ديهان في ذلك المساء يسير في شارع يافا متجها إلى الكنيس اليهودي، بينما كان رجل آخر ينتظره خلف أحد المباني، أطلق عليه ثلاث طلقات أردت ديهان قتيلا.

الدكتور ديهان كان يحمل الدكتوراه في القانون، وهو شاعر وصحافي، ولد ونشا في هولندا، ومن غلاة الأرثوذكس اليهودي، ولكنه أيضا، وهنا المفارقة من مثلي الجنس.

واصدر رواية تتضمن مشاهد مثلية في هولندا قبل هجرته إلى فلسطين، وبعد ما أثارته هذه الرواية من نقمة عليه، حاول وأعوانه شراء كامل الطبعة الأولى من الرواية، وله أيضا قصائد مشابهة ذات مواضيع لوطية.

وكان لديهان جانب آخر، فقد تبنى قضايا اليهود الأرثوذكس مدافعا عن تمثيلهم في المجتمع اليهودي الذي اخذ بالتكون في ظل الانتداب البريطاني، وأيضا كتب وعمل ضد الحركات الصهيونية، التي كانت تسعى للسيطرة على المؤسسات اليهودية والتحكم فيها، وعندما اغتيل كان على وشك السفر إلى لندن، للقاء مسؤوليين بريطانيين، في محاولة لإحباط خطط المنظمات الصهيونية العاملة في فلسطين آنذاك على الشؤون اليهودية.

ويمكن أن يكون ذلك سببا كافيا لهذه المنظمات لاغتياله، وهو عادة ما يذهب إليه قسم من المؤرخين، الذين يحملون منظمة الهاغناة مسؤولية الاغتيال، ولكن هذه المنظمة أنكرت دائما مسؤوليتها عن ذلك، وألصقت التهمة بالعرب بدعوى انهم قتلوا ديهان لاستيائهم من اتصالاته المشبوهة مع الصبية العرب، ولكن هذا الادعاء لم يؤيده أي شيء من الحقيقة.

وبعد كل هذه السنوات الطويلة على اغتياله، ما زال ملف ديهان مفتوحا، فبعض اليهود الأرثوذكس
ينظرون إليه كشهيد، وباسمه تنظم الكثير من الأنشطة الخيرية، وأيضا فان بعض المجموعات المثلية في امستردام، تستخدم أجزاء من قصائده اللوطية.

الوسيط الضحية
يعتبر اغتيال الوسيط الدولي الكونت برنادوت، عام 1948، أحد اشهر الاغتيالات التي وقعت في فلسطين، والتي تحمل اكثر من مغزى، وكتب عنها الكثير، وفي الوقت ذاته اكثر الاغتيالات وضوحا من حيث الجهة التي نفذتها، وهي عصابة ارجون الصهيونية بقيادة مناحيم بيغن، أحد رؤساء الحكومات الإسرائيلية لاحقا، والسبب أيضا معروفا.

برنادوت هو ابن شقيق الملك غوستاف الخامس، ترأس الصليب الأحمر السويدي، واكتسب سمعة طيبة داخل القارة الأوروبية أهلته لأن يقوم بمهمة نقل عرض الاستسلام الألماني إلى الحلفاء عام 1945، وشارك في عمليات تبادل الأسرى في الحرب العالمية الثانية، كان كل هذا سببا لان ترسله الأمم المتحدة مبعوثا لها إلى فلسطين للتوسط بين اليهود والعرب.

وتمكن من تحقيق الهدنة الأولى في حزيران (يونيو) 1948 بين الأطراف المتحارية، وهي الهدنة التي استفادت منها العصابات الصهيونية كثيرا، واقنع هذه الأطراف بالتفاوض في رودس فيما بعد، وقدم برنادوت مقترحات لحل القضية، من بينها بقاء القدس بيد العرب، مع إعطاء اليهود استقلالا ذاتيا في شؤونهم الدينية، وضم منطقة النقب إلى حدود الدولة العربية.


وكانت هذه المقترحات السبب في إقدام العصابات الصهيونية على اغتياله يوم 17 أيلول (سبتمبر) 1948 في ميدان هابالماه سانت بالقدس الغربية

وفي عام 1995، قدمت دولة إسرائيل اعتذارا رسميا إلى الحكومة السويدية عن اغتيال برنادوت الذي مات وعمره 53 عاماً.

عبد الله الاول
توجد اوجه شبه كبيرة بين حادث اغتيال الملك عبد الله الأول على عتبات المسجد الأقصى في القدس عام 1951، واغتيال برنادوت، أهمها أن الحادثين، وقعا على خلفية حرب فلسطين عام 1948، وإذا كان متطرفون صهاينة هم من اغتالوا برنادوت، لأسباب سياسية، فان مجموعة فلسطينية نفذت اغتيال الملك الأردني لأسباب سياسية أيضا، رأت انه مسؤولا عما آلت إليه الحرب.

وجرى ذلك عندما أطلق الشاب المقدسي مصطفى عشو، النار على الملك الأردني الذي كان يستعد للدخول لأداء صلاة الجمعة وبرفقته حفيده المحبب الحسين بن طلال، أربع طلقات أصابت الملك عبد الله الأول في رأسه وصدره فادت إلى مقتله على الفور، بينما نجا الحفيد بأعجوبة واصبح فيما بعد ملكا على الأردن.

كان عبد الله الأول وصل إلى الضفة الغربية من مملكته، بعد أربعة أيام من اغتيال الزعيم اللبناني رياض الصلح في عمان على يد أعضاء من الحزب القومي السوري، انتقاما لإعدام أمين عام الحزب انطون سعادة.

وقبل وصوله إلى الضفة الغربية تلقى إنذارات، ولكنه أصر على المجيء، ومن المفارقات أن فتوى طلبها الملك عبد الله من الشيخ المرافق له سهلت للقاتل تنفيذ مهمته بسهولة، حيث سال عبد الله الأول إذا كانت الصلاة تجوز وهو لابس حذائه، فافتاه الشيخ بالقول quot;جاف على جاف يجوزquot; فانحنى حراس الملك ومرافقيه لخلع أحذيتهم، فيما بقي الملك واقفا هدفا سهلا للقاتل، الذي تحيط بشخصيته الغموض، فهو شاب بسيط، كان انضم لفرقة التدمير في القدس التي شاركت في القتال ضد العصابات الصهيونية، وروى كثيرون انه في يوم الاغتيال كان يحمل المسدس، وهو متجه، عبر شوارع القدس القديمة، إلى المسجد الأقصى ويخبر الناس، بين المزاح والجد انه متجه لاغتيال الملك الأردني.

وقاد التحقيق إلى الجنرال عبد الله التل قائد معركة القدس الذي انشق ولجأ إلى مصر، والدكتور موسى العلمي الذي اعدم مع آخرين.

ويتفق مختلفون ومؤيدون للملك الأردني، على الغموض الذي أحاط باغتياله، مثل الأب إبراهيم عياد الذي اعتقل على ذمة القضية وبرأته المحكمة، وقال في شهادة لكاتب هذه السطور بان تحقيقا جديا في اغتيال الملك الأردني لم يجرى، ومثل أنور الخطيب رجل الملك المخلص، ومحافظ القدس والوزير في اكثر من وزارة أردنية، الذي كتب في مذكراته متهما المخابرات البريطانية بعدم التحقيق الجدي في حادث الاغتيال، طارحا، مثل عياد أسئلة كثيرة، أهمها من الذي كان له مصلحة في اغتيال عبد الله الأول؟ وكيف نفذت العملية بتلك السهولة؟.

شهيد إسرائيلي للسلام
في 10 شباط (فبراير) عام 1983، وقع حادث اغتيال في القدس الغربية، كان له دلالته إسرائيليا، ففي ذلك اليوم، نظمت حركة السلام الان تظاهرة، دعت فيها وزير الدفاع الإسرائيلي ارئيل شارون للاستقالة، وتطبيق توصيات لجنة كهان التي أدانت شارون بأدوار معينة في مجزرة صبرا وشاتيلا.
وعندما انتهت المسيرة خارج رئاسة مجلس الوزراء الإسرائيلي، ألقي أحد نشطاء اليمين قنبلة يدوية أدت إلى مقتل رجل وإصابة تسعة بجروح.

واسم الرجل القتيل هو اميل غرونزويغ، أما الذي ألقى القنبلة، فهو جون افروشمي، الذي قال انه رمى قنبلة على الجمع، لقتل اكبر عدد ممن اعتبرهم quot;خانوا الوطن والامة وانضموا للمعسكر المعادي لإسرائيلquot;.

واشار افروشمي، خلال محاكمته، انه تأثر بتحريض المتطرفين اليمينيين، وانه لم يكن عضوا في أي تنظم، وعمل بشكل فردي، وصدر الحكم عليه بالسجن مدى الحياة، خفف فيما بعد إلى 27 عاما.
ورغم الحكم القضائي والمحكمة العلنية، بقي افروشمي شخصا غامضا بالنسبة للبعض، في حين لا يعرف اسمه الان معظم الإسرائيليين، وبقي مهما لباحثين يمكن أن يربطوا بين حادث الاغتيال الذي نفذه، باعتباره بروفة، لحادث اغتيال آخر وقع عام 1996، في تل أبيب وأودى بحياة اسحق رابين، رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك.

غاندي المتطرف
في يوم في 17 تشرين الأول (أكتوبر) وفي الساعة السابعة صباحا، توقف المصعد الذي يقله في الطابق الثامن من فندق حياة ريجنسي، على المنحدر الشمالي لجبل سكوبس، في القدس الشرقية.

وكان بانتظاره اثنان، خاطبه أحدهم واسمه حمدي قرعان، بلقبه ثم أطلق رصاصتين من مسدس كاتم للصوت، في صدره ووجه، وبهذا قتل وزير السياحة الإسرائيلي آنذاك رحبعام زئيفي، الشخصية الإسرائيلية المتطرفة والذي يعرف بلقب (غاندي).

كان غاندي عائدا إلى غرفته في الفندق بعد أن تناول الإفطار، ولم يكن يدري بان خلية من الجبهة الشعبية في انتظاره، لتنفذ عملية انتقامية لمقتل امينها العام أبو علي مصطفى الذي اغتالته طائرات إسرائيلية بقصف مكتبه في مدينة رام الله، قبل ذلك بأربعين يوما.


وقتل غاندي، المروج لفكرة تهجير لما تبقى من الفلسطينيين من أرضهم، في اليوم التالي لتقديم استقالته من الحكومة الإسرائيلية، احتجاجا على موقف الحكومة من اعتداءات نفذها مستوطنون في مدينة الخليل ضد الأحياء العربية هناك، ولكن عندما لفظ أنفاسه الأخيرة لم تكن استقالته سارية المفعول.
وبعد يومين من الاغتيال، كان لإسرائيل رواية عن تفاصيل ما حدث، في حين انه لا توجد حتى الان رواية رسمية لما يعتبر أهم عملية اغتيال تنفذها فصائل المقاومة الفلسطينية وتطال ارفع مسؤول إسرائيلي.

وبقية الحكاية معروفة للقراء، والتي شهدت آخر فصولها في شهر آذار (مارس) 2006، عندما حاصرت قوات الاحتلال وهدمت سجن أريحا واعتقلت احمد سعدات الأمين العام للجبهة الشعبية ورفاقه المتهمين بالاغتيال.

وإذا كانت الشخصيات التي تم اغتيالها في القدس، مشهورة، أو اشتهرت بعد اغتيالها، فان الأكثر إثارة هو شخصيات منفذي الاغتيال، الذين هم أشخاص عاديين جدا، آخر ما يمكن أن يخطر ببال أحد بأنهم قادرين على تنفيذ عمليات اغتيال مزلزلة.