الذئب الجريح أخفي،
عواء وحدته،
في عرى الصحراء.
وفي كاف الجنون،
أطلق سراح الروح.

أحمد الفيتوري من بنغازي: الظلمة مسبار الطريق؛ الخيط الأسود موغل في عتمة التراب، ما من شيء غير اللاشيء، كل ما يبدو العدم، الفراغ المضيء حيث كبد السماء، حيث كسف الله الشمس.
لم يكن ثمة أفق كنا أفق أنفسنا، والسكوت هو السيف البتار الذي يؤجج دماء هواجسنا. لِمَا تكثرُ الجزر في بحر الرمال و لا تأمن من خوف و لا تطعم من جوع؟، ولكن هل جزر البحر الأبيض المتوسط النادرة تمنح ذلك؟. ما بين بحر الماء المتوسط وبين بحر الرمال المتوسط وشائج.
كذا كانت تقول النفوس؛ النفوس المنهكة من الاسترخاء ووفرة الطعام وندرة الخوف من الطريق.
هناك أوجلة تسبح في مخيال التاريخ؛ واحة للنسيان وواحة السراب لقوافل ضيعها الضوء الساطع، ضيعها وضوح مخبول، تلكم القوافل تقتات بفكرة الجنون : أن ثمة جزيرة في بحر الرمال الليبية تدعى واحة أوجلة؛ حيث عيون الرمل تدمع بماء عذب وعيون النخل تدمع بثمر حلو، في مخيال رجال القافلة يجري الماء الزلال معجونا بثمر نخل يظلل أحلاما عطشي، ومن الخضرة والماء يتشكل وجه حسناء يفلق السماء فتنبثق رمانة الصباح.
أوجلة الكذبة التي تكثف السراب وتحيله لصدق يدغدغ النفوس اليائسة، أوجلة أمل مسكوب في تاريخ هيرودوت والناجين من غدر بحر الرمل الليبي. في هذا المنفي يكمن الوجود؛ غضب السفاح غرسياني من غيث الصغير من يزود المجاهدين زاده؛ من يدس زاده في زوادة حشاه ويخرج عن معتقل العقيلة، المعتقل الصحراوي الذي جمع فيه الجنرال غرسياني كل القبائل الليبية كي يقطع عن المجاهدين زادهم. غضب غرسياني فحكم بنفي غيث إلي أوجلة، كان غيث يبتسم وغرسياني يزداد غيضا.غيض الجنرال مبرر لأن ابتسامة غيث غير مبررة. لكن ما لم يكن الجنرال يعرفه أنه حكم علي غيث بالعودة لمنزله، غيث من أوجلة والمنفي أوجلة.


حينها كان الفضيل بوعمر، قرب سوسة علي شاطئ المتوسط، يقطع الطريق عن الجنرال كي يفلت الشيخ عمر المختار من كان نائبه الفضيل بوعمر. فلت الشيخ، وتمكن الجنرال من نائبه جثة كانت متراسا مكنت الشيخ من الانفلات. عرف الجنرال أن الفضيل بوعمر، نائب عمر المختار شيخ المتمردين علي سلطة ايطاليا، من أوجلة المنفي الذي يكمن فيه الوجود، لهذا قرر نفي المتمرد الفضيل بوعمر عن أوجلة، قطع رأسه وعلقه في ميدان البركة بمدينة بنغازي، وتركت الجثة لبحر الماء الأجاج الأبيض المتوسط، دفن في الماء، فدفنه في رمال بحر أوجلة يقال: يعيده حيا.
الطريق سكين يشق لحم الرمال ما بين اجدابيا علي البحر المتوسط وأوجلة علي بحر الرمال. متاهة تذهل البصيرة قبل أن تعمي البصر. والمفازة تظهر مفاتنها نهود بيضاء نافرة وأرداف سيوف تقطعها، ما بينهما فجوة الهيولي، هنا حيث يكون للاشيء معنى: أن لا معنى لشيء، ففي هذه المفازة تكون الحياة التجسيد الجارح للعدم. ما بين اجدابيا علي البحر المتوسط وأوجلة الجزيرة الأقدم في الصحراء الكبرى؛ الصراط المستقيم الذي هو خيط مشيم من نطفة العدم الأولي حتى انقطاع كهرباء الروح : لهذا تقول أوجلة ما من خلود فما جاء من العدم يمخر عبابه. كنا نقطع الطريق ما يجرح نفوسنا المستكينة للسراب أكثر حقائق الصحراء تجليا،محمد المفتي الكاتب يوغل في المفارقة، التي تجسدها التقنية حين تعصر روح الطبيعة، فيكون العصير هذا دون أفق حيثما وليت البصر. هنا في هذا الفناء تنبثق الحياة كالروح صاعدة للسماء، كأن الحياة هنا لا ساعة الميلاد بل ساعة الموت، هنا في هذه المفازة كأن أوجلة براح الروح المفارقة، في أوجلة تستظل الحياة لحظة النهاية، كذا يكون عطية الأوجلي يفكر وهو يسهب في شرح : هذا المكان يدعي ثديان الخادم، انظر انهما ثديان أسمران لجسد أبيض بض.
النخلة لم تسكن الجبل.
أرادت أن تكون؛
اليقظ،
في الصحراء النائمة.
النخلة تنتزع كيانها من جذر الأرض كي تسكن السماء، تهز أوجلة جذعها فيتساقط الثمر، ويكون نواة يندس في الأرض، ومن حرارة الروح يمتص رحيق الكون ؛ الماء المتخبئ في مسارب وعروق الأرض. الأوجلي إن شاقه الوجد وعبث به العشق كما عبث بي شق، جذع أنثي الصحراء اللعوب، عصير النخلة ndash; ما نسميه اللاقبي -، روحها حلو مركز، إن مست الشمس العصير أذهب روح شاربه، النخلة مانحة الجسد الظل والثمر تمنح الروح خمرا تذهل الروح.

النخيلة القصيرة القامة،
قالت للريح:
المرأة الممشوقة القوام،مثلي؛
تهفها خفة الروح،
تثقلها سلافة القلب.
فاستكيني، عند محاذاة ظلها.


ضاع هيرودوت عن نفسه في زيارته الأولي لقورينا؛ أثينا الليبية، بعض سكان ليبيا من ليسوا إغريقا، ذكروا له أنهم يعيشون في بحر الرمال بعد مدينة هسْبرِيدس، حوالي 200فرسخ أو أقل قليلا، تهجاء له أحدهم اسم جزيرتهم فكانت أوجلة. خط ذلك في الكتاب الرابع من تاريخه وهو يدور بكامله عن ليبيا، لكن ما لم يصدقه هيرودوت : يوجد جبل من حجر ملح بعد عشرة أيام من السير، والناس يسكنون عنده. منازلهم مشيدة من قوالب الملح هذا!. لأن سكان هذه المنطقة من ليبيا محرومة كليا من الأمطار بنوا منازلهم من الملح. لا تبقي الجدران وهي من الملح قائمة لو كان ثمة أمطار أليس كذلك؟.هل هيرودوت سأل نفسه الضائعة هذا السؤال أم كتبه وهو المذهول.
قبل ذلكم كانت أنهار تلعب هناك، مصادرها جبل الهروج أو الجبل البركاني الأسود، وقد يكون جبل تيبستي حيث سلسلة أكاكوس ما سيكون مصدر أساطير رواها إبراهيم الكوني في رواياته. جفت هاتيك الأنهار، التي سلطت الشمس عليها سياطها اثر غيرة اجتاحت الشمس، بعد أن فضلت الأرض القمر، القمر الذي يتغنج في كماء أوجلة رفقة نجوم خليعة تعرض مفاتنها كل ليلة علي السابلة.
حكيم الأوجلي والصغير أحمد المفتي، اصطادا الكثير من الحلازين والأسماك الحجرية من مجرى هاتيك الأنهار التي جفت مآقيها. هذه قوقعة بحرية قال أحمد، رد عليه حكيم أظن أنها نهرية. لو تقدما قليلا تاركين أوجلة شمالهم لدخلوا في الغابة المتحجرة عند سفح الهروج.
لكن عليكما الحذر ثمة واحة غير موجودة ستظهر لكما لا تظنان بوجودها، لقد حدث أن خرجت هذه الواحة المسكونة لمن ظن أنه فالح؛ سمع لغطا وهمهمات ولم ير أحدا، لم يكتشف اثر قدم في رملها حتى كلّ من الفحص. لكنها حديقة غناء بالنخل المثقل بالثمر مما ندر مثل الصعيدي والدقلة، شرب من مائها العذب الغزير. عندئذ فطن لحيلة اقتطع الجريد من النخل وكل ما سار مسافة غرس جريدة، ظن انه حدد الطريق إلي تلك الواحة غير الموجودة، نام قرير النفس، فاق الصبح محاطا بالجريد ما غرست يداه. هكذا تيقن أنها الواحة الممتنعة علي الجميع، إلا من تاه وضل الطريق فسماها : واح صبرو. التي قد تكون أوجلة غير المرئية؛ هاتيك تدل القوافل إلي أوجلة التي تهواها الجمال، وتهيم بها كل قوافل الصحارى الكبرى.

ينهض في وجهك عمار أوجلة، وعمارها كما محيطها نهود رمال، هكذا مسجدها الكبير ينبثق كثيبا يجاور كثيب. في الداخل كما كهوف، مساربها تؤدي لبعضها وبابها ثقب كما ثقب مفتاح باب، في الداخل تُترع بالظلال والرطب من هواء ومما يثمر النخل، وكذا من جذوعه السقف والأبواب، في الخارج تندس عمارة أوجلة في حضن بعضها.
إنها مبان تدس السر وهي خبئاه، كما تندس أوجلة وتخبي مفاتنها عن كل شغوف؛ شغوف يبّست عفاريت وجنون العجاج ريقه، فذابت في ريقه ثمرة أوجلة الصبية التي تتخذ من الأحلام سريرا. تلكم أوجلة التي ذهبت ذات ليلة من ألف ليلة ولم تعد.
مرة فيما سلف من الزمان: قدماء ليبيا؛ عمَ العجاج مسكنهم. والعجاج يركب ريح الجنوب؛ القبلي، وهي مهاري لامحة ما مرت بزرع أو ضرع إلا جف من هول مرآها. يقول هيرودوت: قبائل تدججت بالسلاح والغضب. صرَ الليبيون علي محاربة القبلي ؛ اليوم ليس لريح الجنوب عاصم من حرب شعواء، لم تكللْ تلكم الحرب بالنصر، لكن كان علي جباه الرجال الذين ذهبوا في حربهم حتى الفناء، كان علي جباههم إكليل غار أو كما يقول هيرودوت. لكنه لم يذكر أن المحاربين كانوا قد تمترسوا ولبسوا دروع أوجلية.
فيما بعد حير سواح الصحراء الليبية متحف الصخور أو المساخيط ؛ كتاب مخطوط كتبه فرنسي مجهول الهوية، ويحمل تاريخ سنة 1685م، وظل مخطوطا في المكتبة الوطنية الفرنسية ذكر:.. بعد مسير متواصل لأيام ثمانية، الحملة وصلت؛ رأت المدينة المتحجرة، حيث مسخت جميع المخلوقات إلي حجر. في منطقة أوجلة هذه تصاب برشح الدهشة؛ أغرب الأشياء وأعجبها مطمورة هنا؛ أجساد بشر، أجساد حيوانات، أجساد شجر، مسخت حجارة و لا تزال تحتفظ بروح طبيعتها بهيئاتها وألوانها.
لم تكتفي فرنسا بشهادة شاهد من أهلها؛ ففي يناير من سنة 1707م كتب شارل لامار القنصل الفرنسي إلي وزيره حول هذه المدينة الحجرية:... حملني علي اتخاذ قرار بإيفاد نائب القنصل، الذي عينته لمدينة درنة مصحوبا برسالة من البك، إلي شيخ أوجلة التي تبعد ثلاثة أيام من درنة، ليرى ما إذا كان في إمكانه العثور علي جسد بشري متحجر، فذاك شيء سيكون جديرا باهتمامات جلالة الملك. كل الذين بلغوها أكدوا لي مشاهداتهم لعدد من الأجسام البشرية في أوضاع مختلفة، وكذلك قطعان الكباش برعاتها وكأنها حية، والرمال، السافي، تكشفها وتغطيها بحسب الرياح.
هذا ما جاء في كتاب: واحات الجنوب البرقي بين الأسطورة والتاريخ، للمؤرخ الليبي محمد مصطفي بازامه، الذي نقل ما ذكر أولئك وحسبه ذلك جهد.
أما سواح الصحراء الليبية من الليبيين ذاتهم، فقد شغفوا بالصحراء بعد اكتشافهم الحديث لها، لقد رأوها للمرة الأولي في أفلام وكتب وقوافل من سواح الغرب. وهذا كان حالي وحال الكاتبين الليبيين محمد المفتي وعطية الأوجلي من ترافقوا في رحلتنا إلي أوجلة هذه.

استرع نظري غابة من نخيل حديدي، عند المغرب تشع مصابيحها الكهربائية بألوان صاخبة، ظننتها أوجلة الممتنعة، فعلمونني أنها أوجلة حقول البترول أو ما دست هذه الجزيرة في جوفها من كنوز، تذكرت أن التأريخ القريب سجل أن محمد الساقزلي الوالي التركي لطرابلس غزا الواحة في القرن الثامن عشر وسلبها كنزها؛ ما أكثر من حمل أربعين جملا من الذهب. وأوجلة من تُسلب ذهبها الأسود، ليس لها طريق من قطران غير طريق قديم أكله السافي وفعل البشر. في عيد الكسوف، الذي يحدث في القرن مرة، غنمت بصيانة من دكانة العطار.
تجاهل أوجلة كي تغنم، فما يأتي من جنوب ويفرح قلب، كذا نصيحة الناصح.فما في الجبة غير القطران وحتى هذا زيت يضيء مصباح الآخرين كما النخلة العوجاء. الظلمة مسبار الطريق؛ الخيط الأسود موغل في عتمة التراب، ما من شيء غير اللاشيء، كل ما يبدو العدم، الفراغ المضيء حيث كبد السماء، حيث كسف الله الشمس وحجر السمك، حيث أوجلة.


va_ [email protected]

تصوير : أحمد الفيتوري