دويلة الأرمن في القدس
صمدت رغم الأنواء السياسية التي لم تنته

مخطوطات أرمنية
أسامة العيسة من القدس: لا أحد يتذكر الأرمن الفلسطينيين في القدس، إلا عندما يعلن عن انطلاقة عملية سلام، عندها يبرزون كرقم صعب، بسبب وجود حارة الأرمن أو حي الأرمن في البلدة القديمة بالقدس، الذي يشكل سدس مساحة هذه البلدة ولموقعه الجغرافي المميز داخلها. وخلاف ذلك، يتم تجاهل وجود الأرمن ودورهم البارز الثقافي والاجتماعي والحياتي والسياسي، من خلال تجمعهم في القدس، الذي يشكل ما يشبه دويلة صغيرة صمدت طوال قرون رغم أنواء السياسة التي لم تنته حتى الان، وامتدادهم في باقي الأراضي الفلسطينية.

اول مطبعة وثاني مكتبة

الأرمن هم سكان أراضي أرمينيا الجبلية الأصليين، وفيها يقع جبل ارارات المذكور في الكتاب المقدس، حيث استقرت سفينة نوح، حسبما ورد في سفر التكوين.ويعود وجود الأرمن في الأرض المقدسة إلى عصور المسيحية الأولى، والى ما قبل اعتناق ملك أرمينيا تيريداد الثالث المسيحية عام 301م، حينما أعلن أن الديانة المسيحية هي دين الدولة، لتكون أرمينيا بذلك أول دولة تعتنق المسيحية.

وتوجد دلائل تاريخية مسجلة تشير إلى انه في عام 154م، انهمك مطارنة الأرمن، بالتعاون مع مطارنة الروم الأرثوذكس في القدس والإسكندرية في تحديد الأماكن المقدسة، التي كان لها صلة مباشرة بنشاطات المسيح، وفي تشييد المباني الضخمة للحفاظ على كنوز المسيحية الأولى.

ومفخرة الأرمن في القدس هي دير مار يعقوب، الذي تعتبر كنيسته، وفقا للتسلسل الزمني، أول كنيسة في التاريخ، وكان مار يعقوب المطران الأول لتلك الكنيسة وهو يدعى في الإنجيل الأخ الروحي للمسيح.ويقع دير مار يعقوب، الذي يشكل معقل الأرمن في القدس، على جبل صهيون، ومساحته 300 فدان، أي ما يعادل السدس من مساحة البلدة القديمة داخل السور، ويضم داخله، كاتدرائية مار يعقوب، ومواقع تاريخية وبنايات هامة مثل دير المخلص المسمى (منزل قيافا)، ودير رئيس الملائكة (منزل الكاهن الأكبر حنّان)، ومعبد القديس تيودورس، وقاعة البطريركية، ومقر ومكاتب البطريركية، والمعهد اللاهوتي الذي تأسس في عام 1843، ومدرسة القديس تاركمانشاتش، ومكتبة كولبنكيان، ومتحف مارديكيان، وغيرها، كما تملك البطريركية اضخم ثاني مكتبة أرمنية للمخطوطات في العالم، واقدم مطبعة في القدس، التي تأسست عام 1833م.

ملعون ابن ملعون

والبطريرك الأرمني الأول في القدس كان يدعى أبرا هام، أعلن عنه رسميا عام 638م حتى وفاته عام 669م، وهو البطريرك الذي حصل على مرسوم اعتراف رسمي من الخليفة المسلم العربي عمر بن الخطاب لدى تسلم الأخير المدينة، لتأخذ الطابع العربي.وعدد هذا المرسوم حقوق وامتيازات الكنيسة الأرمنية في الأراضي المقدسة حرصا على حمايتها وسلامتها، وهو يختلف عن ما اصطلح عليه العهدة العمرية التي وضع فيها عمر بن الخطاب أسس التعامل بين المسيحيين والمسلمين، ومنح فيها الأرستقراطية القرشية المنتصرة امتيازات في القدس.

وهناك ما يشير إلى أن الأمور لم تكن دائما على النحو الذي يراد لها، مع تعاقب الحكام المسلمين على البلاد، ويمكن استنتاج ذلك ببساطة من مرسوم صدر عن السلطان المملوكي الظاهر ابي سعيد محمد وهو منقوش على حجر ما زال موجودا في المدخل الرئيس لدير مار يعقوب يجدد فيه حقوق الأرمن ويختمه بالقول quot;ملعون ابن ملعون وعليه لعنة الله تعالى من احدث ضمانا أو جدد مظلمةquot;.

وعموما فان الأوامر العليا الكثيرة التي صدرت لصالح الأرمن نظر إليها أنها جاءت لتدعيم وتقوية مركز البطريركية وكونت المبدا الأساسي في احترام هذه العهود من قبل أرباب الفتوحات على التوالي، إلا أن ذلك لم يكن باليسر المتوقع، وحافظت البطريركية، على مر العصور والأجيال، برئاسة بطاركة أكفاء وموهوبين، على العقارات الأرمنية، وحولت الحي الأرمني في القدس، إلى مركز ثقافي هام، ومركز للأبحاث يخدم الأرمن وطلاب العلوم من غير الأرمن.

أما المرسوم الأخير والاهم، فكان قد اعد على شكل بيان كتابي من قبل السلطان العثماني عبد المجيد عام 1852م، أعلن فيه مبادئ ما يعرف حتى الان بالاستتكو، أي الوضع الراهن في الأماكن المقدسة، لتحديد، وتنظيم، وصيانة الحقوق والملكية في الأماكن المقدسة، وفيه لكل طائفة من الطوائف الثلاث، بشكل لا يقبل التغيير، تلك الحقوق التي منحت على وجه الحصر للروم الأرثوذكس، والأرمن، والكاثوليك (الرهبنة الفرنسيسكانية).

وتشترك البطريركية الأرمنية مع الطائفتين الاخرتين في تحمل المسؤولية، متمتعين بامتياز خاص كونهم حراسا للاماكن المقدسة في كنيسة القيامة، وبستان الجسمانية، وقبر مريم العذراء، وكنيسة المهد في بيت لحم، وأماكن أخرى.وواجهت البطريركية الأرمنية مصاعب عديدة خلال القرن العشرين، فإليها لجا في أثناء وأعقاب الحرب العالمية الأولى خلال الأعوام 1915-1923م، الأرمن الذين نجوا من المجازر التي تعرضوا لها على يد العثمانيين، واحتضنت أخوية مار يعقوب الآلاف من اللاجئين والأيتام المشردين.

ومن يدخل الحي الأرمني اليوم، يجد بان ظلال هذه المجازر حاضرة حتى الان، وعلى طول الطرقات علقت رسوم لخرائط توضح مواقع المجازر، أما المتحف الأرمني فيحفل بصور عائلات أرمنية ذهبت ضحية تلك المجازر.

وكان على البطريركية الأرمنية أيضا، أن تكون على موعد جديد مع الألم خلال عام 1948، بسبب وقوعها بين مواقع الثوار الفلسطينيين، والحي اليهودي في القدس، وتعرضت لقصف العصابات الصهيونية آنذاك، ورغم سقوط آلاف القذائف المتنوعة على الكاتدرائية إلا أنها لم تصب بأذى وكذلك نجا أبناء الطائفة الأرمنية التي لجاوا إلى الكاتدرائية.

وحسب التقليد الأرمني على من يعتنق المسيحية أن يحج إلى القدس على الأقل مرة واحدة في حياته، وعلى مر العصور حج إلى الأرض المقدسة الكثير من مشاهير ملوك الأرمن، والملكات، ورجال الدولة، والأمراء، واناس من جميع الأوساط الاجتماعية، حاملين معهم هدايا تذكارية، تركت بصمة مميزة في نقل الحضارة الأرمنية إلى المقدس، ولقد أوى دير مار يعقوب، الآلاف من الحجاج حتى حرب حزيران (يونيو) 1967، عندما تغير كل شيء، مع بدء حقبة الاحتلال الإسرائيلي المستمر منذ أربعين عاما، وبدلا من قدوم الأرمن إلى القدس، تغير الاتجاه، حيث يعاني الأرمن الان من نزيف الهجرة من القدس إلى الخارج، طلبا للأمان والاستقرار.

اول كنيسة

يفخر الأرمن بان كاتدرائية مار يعقوب التي تقع داخل الدير الذي يحمل نفس الاسم، مثل باقي البنايات والعقارات الأرمنية، هي أول كنيسة بنيت في التاريخ.وبإمكان الزائر مشاهدة نقوش صلبان أرمنية صغيرة الحجم على جدران الكنائس، نقشها الحجاج لدى زيارتهم الأماكن المقدسة، وكل مجموعة من هذه الصلبان كانت تمثل عدد أفراد عائلة الحاج، واعتبر الأرمن زيارة الحج إلى القدس بمثابة شرف عظيم يكفل للحاج منزلة اجتماعية مميزة.

وتعتبر إحدى اجمل الكنائس في الأرض المقدسة، وبداخلها ضريح المطران الأول للكنيسة المسيحية مار يعقوب، المعروف باخو سيدنا المسيح، ومار يعقوب الرسول، اخو يوحنا الإنجيلي، والمعروفين بأبناء زبدي.

عند دخول الكاتدرائية، يشاهد الزائر الجدران الزرقاء والبيضاء القديمة، وقناديل الزيت المصنوعة من الفضة، والمدلاة من قبة مقنطرة عالية، وكذلك شموع مضيئة على المذبح، وهي المصدر الوحيد للضوء، والكاتدرائية بخصائصها المعتقة تفتن زائريها.

وفي الجهة اليسرى من المدخل توجد ثلاثة معابد صغيرة، الأول منها والأقرب إلى المدخل، يحوي ضريح القديس ماكاريوس مطران القدس في القرن الرابع، أما المعبد الثالث فيحوي راس القديس يعقوب الرسول منذ القرن الأول الميلادي، بعد أن قطع رأسه الملك هيرودس اجريبا الأول نحو عام 44م.
وداخل المذبح الرئيسي كرسيان اسقفيان، أحدهما يشمل مظلة، هو الكرسي الرسولي الرمزي لمار يعقوب (الأخ الروحي للمسيح)، والمطران الأول في القدس، أما الكرسي الثاني فهو الكرسي البطريركي ويشغله البطريرك.

وحافظ الكنيسة الأرمنية في طقوسها وصلواتها وتراتيلها الدينية، على تقاليد عهود المسيحية الأولى ويرجع تاريخ التراتيل والصلوات إلى ما قبل العهد البيزنطي، وهي تحمل المستمع إلى أجواء روحية مقدسة، وتضفي شعورا بالرهبة والخشوع.

ويطلب من الزوار احترام قدسية المكان والتصرف وفقا لحرمته، والاحتشام في الملابس وهذا يعني quot;عدم ارتداء ثيابا بأكتاف عارية، أو تنانير وبنطلونات قصيرةquot;، والمحافظة على الهدوء وعدم التجول في الكنيسة أثناء تلاوة الصلوات، وعدم وضع اليدين في الجيب، وإغلاق الجهاز الخلوي، والامتناع عن الأكل والشرب.

ومن المعالم الأرمنية المهمة في الحي الأرمني أيضا متحف ماريديكيان، الذي يضم مخطوطات وصورا واثارا أرمنية.ويجلس على كرسي البطريركية الأرمنية الان، توركوم مانوكيان الثاني، الذي انتخب لهذا المنصب الدائم عام 1990م، وهو البطريرك الأرمني التاسع والستين في القدس والأرض المقدسة.

الصور بعدسة ايلاف