بوخارست العجوز التي تزيّنت وتعطرت لاستقبال قمة الناتو
لاس فيغاس أوروبا أو مأوى للمتشردين والكلاب الضالة!


سليمان بوصوفه من بوخارست: قمة الناتو التي عُقدت في العاصمة الرومانية بوخارست بين 2 و 4 من هذا الشهر لم تكن بردا وسلاما على السلطات الرومانية التي عملت كل ما في وسعها لإخفاء الوجه الحقيقي للعاصمة العجوز بحيث زيّنتها بالمساحيق وألبستها ثوب ديمقراطية الغرب، ورغم ذلك فإن بصمات الدكتاتور تشاوسيسكو لاتزال بادية على شوارعها وأزقتها بل على عقلية سكانها الذين لا يتوانون عن سرد أوضاعهم المزرية التي عاشوها إبان الحكم الشيوعي وقصص نفاذ المواد الغذائية الضرورية من المحلات التجارية وسنواتهم مع الجوع الذي لم يضرب بطونهم فحسب وإنما أفقدهم عقولهم حتى ثاروا ضد الأب الروحي للتجربة الشيوعية في رومانيا.

*تحذيرات للصحافيين والأجانب

عندما تقرأ كتاب time out in Europe أو أي دليل سياحي عن بوخارست فإن أول ما تقع عينك عليه هي التحذيرات من استغلال غباء السواح والأجانب من طرف بعض الرومانيين منذ أن تبدأ رحلتهم عند وصولهم إلى مطار henri coanda ( عالم ومهندس طائرات روماني،1886-1972)

الكتاب يحذر من تضخيم سائقي سيارات التاكسي لتكاليف النقل وقد وضعت السلطات خطا هاتفيا ساخنا تحت تصرف السواح للاحتجاج. فأغلب سائقي السيارات الصفراء في بوخارست سيحاولون ابتزازك وإرغامك مثلا، على دفع 150 دولارا بدل 15 دولارا وهو المبلغ الحقيقي الذي يترتب عن تكاليف نقلك من المطار إلى الفندق وسط العاصمة وهذا ما حدث فعلا لدى وصولنا هناك.

التحذير الأهم في الكتاب يدعو إلى الحذر من بطش الكلاب الضالة التي تجوب شوارع العاصمة ومحطات الباصات والقطارات، فالكتاب يضع تحت تصرفك عناوين المستشفيات التي تزودك بحقنة ضد داء الكلب إذا أخذتَ نصيبك من العضات!

كنتُ أتوقع أن يُحذّر الأجانب من شخصية دراكولا الذي اشتهرت به رومانيا ولا يزال القصر الأسطوري Bran Castle في مدينة BRASOV متحفا أثريا ومزارا عالميا للسواح، إلا أن تلك الشخصية الأسطورية لم تكن إلا نظاما شيوعيا تفنّن في امتصاص دماء شعبه.

*بوش وبوتين قادمان...أغلقوا المدينة

السلطات الرومانية قامت بإجلاء الآلاف من المتسولين والمتشردين من العاصمة ووضعتهم في مراكز إيواء في الضواحي وحذرتهم من محاولة العودة قبل انقضاء القمة لأن محاولتهم ستكلفهم السجن.

من المطار إلى وسط العاصمة تسير السيارات عبر طريق رئيسة تغص بالدعايات للقمة وكأن السكان مدعوون إلى اقتناء هذه الملصقات التي انتشرت في كل ركن من المدينة، فيما يصطف أكثر من خمسة آلاف شرطي على جانبي الطريق وأمام الفنادق التي تأوي الضيوف وحول محلات الماكدونالدز الأميركية.

التلفزيون الرسمي حذر السكان من الوقوف على شرفات منازلهم أو أمام النوافذ أكثر من دقيقة لأن القناصة المنتشرين على أسطح المباني العالية يمكن أن يشكّوا في تصرفاتهم ويحدث مالايحمد عقباه.

بلوعات ومجاري المياه أُحكم إغلاقها بالشمع الأحمر، وأغلب المطاعم والأماكن التي تستقطب التجمعات الكبرى أُغلقت كما سُدت أكبر شوارع العاصمة ما اضطر المئات من السكان إلى الهروب خارج العاصمة.

*الشيوعية، تشاوسيسكو والعمر المهدور

إيسفين، سائق تاكسي في الستين من عمره تولى نقلنا خلال أسبوع إقامتنا، قال إنه لم يشهد مثل هذه الإجراءات الأمنية طوال حياته، وتأسف على ضياع عمره في حياة رأى أنها كانت رتيبة وكئيبة.... نظر إلى المرآة العاكسة في سيارته dacia وقال بتأثر: لقد تخرجتُ مهندسا في الميكانيك، وقضيت ربيع عمري بين المنزل والشغل، وعندما أعود مساءً أفتح التلفاز وأنصت على مدى ساعتين إلى خطاب تشاوسيسكو أو أحد جهابذة الحزب الشيوعي، وعند الثامنة مساء ينقطع البث وينتقل إلى التقاط تلفزيون صوفيا المركزي إلى غاية منتصف الليل، ينظر خلفه ويضيف: أنتم تعلمون جيدا أن نظام بلغاريا الشيوعي كانت نسخة طبق الأصل لنظام تشاوسيسكو.. ثم يبتسم ويقول بنبرة استهزاء: أنتم شباب لا تعلمون شيئا عن محنتنا، فتحتم أعينكم على الديمقراطية وعلى ثقافة العولمة...استمتعوا بهذه الحرية التي مُنحت لكم.

يُشير بإصبعه إلى الخارج : هذا شارع النصر (فيكتوري) وهذا قوس النصر إنه يشبه ذلك المبنى الباريسي الذي يقف شامخا عند جادة الشانزيلزيه.

بعد ذلك مررنا أمام مبنى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي فضحك (إيسفين) وقال بخبث : من على هذه الشرفة أنزلنا تشاوسيسكو وأرسلناه إلى مزبلة التاريخ، لقد كان آخر خطاب له في 21 ديسمبر 1989

*القمة والمبنى الإداري الضخم

يتوسط بوخارست مبنى إداري هو ثاني أضخم مبنى في العالم بعد البنتاغون الأميركي، ويضم البرلمان ووزارات عدة منها الدفاع والداخلية ومتحفا ومكتبة، ويعتبر رمزا للنفوذ الذي مارسه الشيوعيون طوال عقود، ليس بعيدا من المبنى تجد عمارات نصف مهدومة تعيش داخلها أسر مشردة، أحد الصحافيين الرومانيين قال معلقا: لا تستغربوا من هذه المناظر، أنا من منطقة على الحدود مع ملدوفيا، تصوروا أن قرى بأكملها هناك لا تعرف الكهرباء فما بالكم بالراديو والتلفزيون.

الحياة في رومانيا بطيئة جدا، وجوه شاحبة تنتظر الباصات القديمة الملوثة للجو بالدخان الكثيف المنبعث منها، لم أر دراجة هوائية واحدة هنا! عمارات قديمة تغطيها إعلانات لسراويل الجينز ومأكولات الماكدونالز، هذا ما يعرفه الرومانيون عن الغرب، إضافة إلى البرامج والأفلام الاميركية المدبلجة.

الأجانب اشتكوا من تعاسة الخدمات، تنظيم القمة لم يبلغ حتى أدنى المستويات، خدمات النقل والأكل دون المستوى تعود إلى عشرات السنين إلى الوراء، السكان لا يتحدثون اللغات الأجنبية رغم أن الإنكليزية هي اللغة الثانية في البلد.

الرشوة تضرب بأطنابها في جسد الاقتصاد المنهك، السلطات تنتظر سخاء بروكسل ومعونات واشنطن، بعد مشاركتها في حربي أفغانستان والعراق، السكان بعد انضمام بلدهم إلى الإتحاد الأوروبي هاجروا بمئات الآلاف إلى الجنات الحلم، برلين،لندن،روما، مدريد..لكنهم سرعان ما اكتشفوا أن القروش التي جمعوها لا تكفيهم ولاتملأ أحلامهم الكبيرة، وتبقى عملتهم المتداولة lei بعيدة عن ثقل اليورو.

*القمار ونوادي الستريبتيز رغم التّديّن الظاهر

تعوض سلطات رومانيا عن ضعف اقتصادها بنوادي القمار المفتوحة أربعا وعشرين ساعة وبنوادي التعري التي تنتشر في العاصمة، حتى لاتكاد تمشي عشر خطوات حتى تجد مثل هذه الأندية، يقول موظف الاستعلامات في الفندق : لولا السياحة لمُتنا من الجوع هذه النوادي عادة ما يرتادها الأتراك بالدرجة الأولى ثم العرب من الشرق الأوسط والخليج وتأتي بعد ذلك جنسيات أخرى، إسرائيل، روسيا، ألمانيا وغيرها إننا نمثل لهم مدينة لاس فيغاس الأميركية.

هذا النوع من البزنس فتح المجال أمام عصابات استغلال القصر من الأطفال والنساء على مصراعيه، ولا تستغرب إذا كنت مستغرقا في النوم في غرفة الفندق ويدق عليك الباب موظف الأمن ويعرض عليك خدمات القصر. وهو ماتغض عليه الطرف السلطات.

رغم هذه المظاهر فإنه لا تخلو سيارة ولا يخلو مطعم أومحل تجاري من صور السيد المسيح والسيدة مريم العذراء، خصوصا وأن 87% من السكان يعتنقون المذهب الأورثوذوكسي، وكان أغلب سائقي الباصات التي تنقل الصحافيين إلى مقر انعقاد القمة يستمعون إلى التراتيل والصلوات التي تُنقل مباشرة من الكنيسة المركزية عبر أمواج الأثير، ومن المناظر التي لفتت انتباهي من على شرفة الفندق المطلة على إحدى الكنائس أنه لا تمر أمامها سيدة عجوز أو فتاة دون أن تقوم بحركة التثليث على صدرها.