تقديم عبدالقادر الجنابي: ليس سركون بولص وحده، بل كل من عرفني أو احتك بي، يعلم كم أنا مهووس بدقة الترجمة. ويتذكر سركون بولص المخابرة التلفونية المزعجة جدا التي تلقاها من مترجم سيء، لأن سركون لم يتسن له الوقت لمراجعة مخطوطة شعر مترجم قام بها هذا المترجم، فتركها عندي لكي أسلمها. خلاصة المخابرة التي استغرقت ساعة أن المترجم كان يرغي ويزبد خوفا من أني أقرأ المخطوطة واكتشفُ كوارث هذا المترجم الذي ستكون لنا جولة مع أعماله، قريبا.

هكذا أنا... حتى لو كانت القصيدة مترجمة من لغة أجهلها كليا، أستطيع بواسطة حاسة شم كلبية، أن أعرف إذا فيها خطأ أم لا. وفي حال أنا الذي سيتحمل نشرها، سابذل جهدا للتأكد من أنها ترجمة صحيحة.ومن هنا ارفقَ سركون بولص ترجمتَه (عن الانجليزية) لقصيدة الشاعر البرازيلي كارلوس دروميند دي أندراده، بالملاحظة التالية:

quot;يوم ما من نوفمبر 97
أيهِ عبد القادر
لو اتّبع الشعراء نصائح دي اندراده في هذه القصيدة لكفّ معظمهم عن الكتابة ولاختفى الشاعر العربي عن الوجود؛ لا شك انك ستدقق فيها، وتراجعها على الأصل. حاول أن تفعل ذلك بيد خفيفة ولا تتعب نفسك كثيرا ذلك أن المعنى هو المرام في النهاية؛ كل ترجمة، في النهاية، ما هي إلا خيانة وفيّة. فعلُ حبّ من جانب عاشق لا علم للحبيب بوجوده!
مع حبّي
سركون في كولونيا الباردةquot;

نعم عزيزي سركون، الترجمة حقا، quot;فعلُ حب من جانب عاشقٍ لاعلم للحبيب بوجودهquot;.. وهنا تكمن مسؤولية الشعراء الحقيقيين تجاه الآخر... الذي غالبا ما تجد فيه quot;الأناquot; خلاصها.مع ذلك،قمت، quot;بيد خفيفةquot; (على عكس ما قمنا به في ترجمة قصائد رامبو)، بمقارنة الترجمة مع النص الأصلي، (مع صديقي الفنان باولو فاز) ولم يكن هناك سوىتعديلين او ثلاثة، واعلمتك بها وقتها تلفونيا....لو لم يكن هدف نشر هذه القصيدة في انثولوجيا تخصني أشتغلت عليها سنوات عنوانها quot;في حد الشعر: قصائد حول الفن الشعريquot;، لما قمت بهذا.

يعتبر كارلوس دروميند دي أندراده (1902- 1987) واحدا من أهم شعراء الموجة الحديثة التي عرفتها البرازيل في ثلاثينات القرن الماضي. امتهن الصيدلة، والصحافة. أصدر عددا كبيرا من الدواواين. ترتسم البساطة، اللذاعة واللوعة في شعره مرآة ينعكس بشفافية على سطحها العالم المحيط من دون أي ملاحظة زائدة. شيء من التشاؤم يسود استقصاءاته الشعرية. هناك مصير أمام العالم على الجميع قبوله.. لكن الشاعر يبحث عن مخرج يعيد لفرديته قدرتها على تحريك هذا المصير الثابت نحو أمداء مضيئة، نحو فتح النوافذ.. الأبواب.. غير أنه سرعان ما يكتشف أن quot;المفتاح في يده، ويريد أن يفتح الباب... لكن ليس هناك من بابquot;. الشعور بغياب العدالة، الطفولة التي تمنح ذكرياتها بعض العزاء، الضرورة لمواجهة ما يحدث في الواقع من ظلم.. كل هذه الثيمات تترابط في قصائده. ما دور الشاعر الذي لا سلاح له سوى الكلمات؟ لنترك دي اندراد يخبرنا بنفسه في قصيدته الفذة هذه التي لانظير لها في شعرنا لا في قديمه ولا في حديثه، وهي واحدة من خمسين قصيدة في نفس الموضوع، بعضها لكبار المترجمين،سننشرها تباعا في quot;إيلافquot;:

كارلوس دروميند دي أندراده
البحث عن الشِعر

ترجمها سركون بولص

لا تكتب شِعراً عمّا يحدث.
ما من شيء، في حضرة الشِعر، يولدُ أو يموت.
مقارنةً به، ما الحياة إلاّ شمس خامدة
لا دفء فيها ولا نور.
الصداقات، أعياد الميلاد، الأمور الشخصيّة، لا تهمّ.
لا تكتب شِعراً بالجسد،
فذلك الجسد الممتاز، الكامل، المنعَّم يعترض على السيَلان الغنائي.
غضبك، تشنّجات لذّاتك أو ألملك في الظلام، لا تعني شيئاً.
لا تتبجّح بإظهار أحاسيسك
التي تستفيد من الإلتباس وتقوم برحلة طويلة.
ما تفكر أو تشعر به، لم يقارب أن يكون شعراً بعد.

لا تغنِّ مفاتن مدينتك، دعها وشأنها.
الأغنية ليست حركة الآلات، أو سرّ البيوت.
إنّها ليست موسيقى سُمعت بشكل عابر، ولا ضجيج
البحر في الشوارع التي تحاذي حواف الزبَد.
الأغنية ليست الطبيعة
أو بشراً في مجتمع.
لا المطر ولا الليل يعنيان لها شيئاً،
أو التعب أو الأمل.
فالشِعر: إنّك لا تناله من الأشياء،
يحذف كلا الموضوع والمادة.

لا تفعل الدراما، لا تستثر،
لا تتحرَّ. لا تضيّع الوقت في قول الأكاذيب.
لا تقلق.
إنّ يختك العاجيّ، حذاءكَ الماسيّ،
ترّهاتك وتطيّراتك، وهياكل العائلة العظمية
تختفي كلّها في منعطف الزمان، فهي لا تسوى شيئاً.

لا تبتعث
طفولتك المدفونة المليئة بالشجن.
لا تتأرجح بين المرآة
وذاكرتك المتلاشية.
ما يتلاشى لم يكن شِعراً
ما ينكسر، لم يكن من البلّور.

إخترق، خفيةً، ملكوت الكلمات.
هنا تضطجع القصائد بانتظار أن تُكتب.
إنّها مشلولة، لكنّها غير يائسة.
كلّ شيء هادئ وطريّ على السطح الذي لم يُلمَس.
إنّها، هنا، وحيدة وخرساء، في حالة القاموس.
قَبْل أنْ تكتبها، عليك أنْ تعيش مع قصائدك،
إذا كانت غامضة، عليك باالصبر. إذا استثارتك، كن هادئ الأعصاب.
إنتظر أن تتجسّد كلّ واحدة وتستهلك نفسها في سلطان اللغة
وسلطان الصمت.
لا تجبر القصيدة على الخروج من الصراط.
لا تلتقط من الأرض القصيدة التي ضاعت.
لا تُطْرِ القصيدة. إقبلْ بها
كما أنّها ستقبل شكلها الخاص، نهائيّاً وثابتاً في الفضاء

إقترب وتأمّل الكلمات.
لكلّ منها
ألفُ وجه سرّي تحت وجهها الحيادي
وتسألك، دون أن تأبه بالجواب
الذي ستعطيه، سواءً كان بائساً أو مرعباً:
هل جئتَ بالمفتاح؟

إنتبه:
إنّ الكلمات، محرومةً من اللحن والمعنى
قد لاذت بالليل.
إنّها تتقلّب وهي ما زالت فاترةً ومشبّعة بالنوم
في نهر صعب، وتستحيل إلى احتقار.