ليس فقط الجغرافية السياسية للشعب الكوردي تتحكم بمقدرات هذه الامة العريقة بل ان هناك جمود فكري واضح وضيق نظر بين سياسة الحكومات المحيطة بكوردستان في قرائتها للواقع الكوردي خاصة انها لا تزال في متاهة السياسات التي كانت تتبع ومنذ سنوات نهاية العهد العثماني وبداية الثورة التركية التحررية التي قادها "مصطفى كمال" ابان الحرب العالمية الاولى و التي كانت في بداياتها على الاقل تحمل افكارا تغازل طموحات المثقفين الاكراد وقادتهم "انظر رسائل الشيخ محمد البرزنجي الى قادة تركيا الجديدة" وتعزف على اوتار عواطفهم بتقديم الوعود وبيع الاحلام التي ما برح رجال الثورة ان تراجعوا من كل وعودهم لا بل دخلوا في سياسة عمياء للتتريك ليس فقط تجاه الشعب الكوردي فقط لا بل شمل جميع شعوب شبه الجزيرة الاناظولية في اعتبار الهوية الوطنية حكرا على القومية التركية دون سواها واعتبار جميع الشعوب الاخرى اتراك قسرا. هكذا كان الكورد في قسم كوردستان الواقعة في تركيا , اما القسم الواقع في المنطقة العربية فقد تفهم في واقع الحال الحركة القومية العربية على الاقل الطموحات العادلة للشعب الكوردي " اول الامر كذلك" ولكنها حال ما اعتلت السلطة غيرت مواقفها وتنكرت حيال نظرتها الى الحركة التحررية القومية الكوردية وبطشت بها خاصة في العراق" راجع حركة ايلول بقيادة القائد التاريخي الخالد الملا مصطفى البرزاني ورفاقه الابرار" وتحت حكومات متتالية.

بقت ايران تغازل دوما الوتر العاطفي الحساس للكرد وذلك بوجود قرابة عرقية بين الفرس والكورد الى درجة ان العديد من المنظرين الفرس اعتبروا الكورد جزء من القومية الفارسية" انظر الى التوجهات القومية للسياسي المخضرم مهدي بازركان في اعتباره كل من يتحدث بالفارسية فارسيا". بقى ان نعلم ان رجال وقادة الحركة القومية الكوردية وخاصة في العراق مروا بعدة مراحل تطورية في تكوينهم ونضوجهم الفكري والاجتماعي. ان ما نراه اليوم على الساحة الكوردستانية نتيجة مباشرة للتراكمية التي جمعتها تلك الحركات التحررية في بودقة فكرية انطلقت من كوردستان العراق لوجود ترابط عضوي في المسار التطوري للحركة الكوردية في العراق من ناحية ومن ناحية اخرى لتوفر الشروط الؤاتية للتطور الفكري بين الجماهير كتوفر الاساليب الثقافية وخاصة لغة الكتابة والنشر الكوردية واقرار وجود الكورد كقومية لها كيانها الثقافي المستقل داخل الوطن العراقي منذ تاسيس الدولة العراقية في 23 في آب عام 1921 وكانت الدساتير المتكررة تنص على هذا المبدا الاساسي للتركيبة العرقية للشعب العراقي.

بينما لا نرى ذلك التطور في الاجزاء الاخرى لا بل قد نجد ان الحكومة السورية اكدت عروبة الدولة في تسمية الجمهورية ومحت حتى حق المواطنة للكورد واعتبرتهم في اكثر الاحيان من النازحين واللاجئين القادمين من الشمال لا يحق لهم الحصول على الجنسية السورية في حين نرى ان تركيا اكدت في دستور البلاد "اناياسا" وجود قومية احادية التركيب والانتماء تركية صرفة ومطلقة. وعدا ذلك هو من باب الغير مسموح به والممنوع وقد التقط الحركات القومية العنصرية هذا المبدا ليعاقبوا به كل من يتجرأ ويعلن انتماءه الحقيقي ان كان كورديا او عربيا او ارمنيا او احد اكثر من 150 اقلية عرقية وطائفية تتواجد اليوم في تركيبة دولة تركيا الحديثة. لذا تبقى التجربة الكوردية في العراق رائدة في الوقت الحاضر وتقع عليها مسؤلية تاريخية في اتخاذها القرارات الصائبة والحكيمة. تلك القرارات ستاخذ بيد الكورد الى افاق جديدة في القرن الجديد. ان المعطيات الجديدة على الساحة العالمية والتغيرات التي سوف تاتي بها رياح التغير الهابة من كل الاتجاهات سيغير التركيبة السياسية والاجتماعية والاقتصادية للمنطقة باكملها، ففي جهة الغر ب هناك زحف واضح للحدود الشرقية للاتحاد الاوربي باتجاه الشرق الذي لا ريب وفي المستقبل والمنظور القريب جدا سنرى يافطة زرقاء ب الاثنى عشرة نجمة صفراء عند بوابة الحدودية المسماه باسم نبينا "ابراهيم الخليل" على الحدود العراقية- التركية ترحب بالقادمين الى الاتحاد الاوربي، حيث حتمية الانتماء التركي الى الاتحاد الاوربي بات من الامور الواضحة والتي تجري الاعداد له على قدم وساق ويبقى الوقت المناسب لاعلانها قد تطول بعضا ما نتيجة للتغيرات في السياسة التركية والعالمية والاوربية. التركية في نظرتها الى الامور بمبادئ جديدة تؤمن بحقوق الانسان وما يسمى بحقوق "الاقليات" ولا ريب ان القانون الاساسي للاتحاد الاوربي والدستور قد سن وعرض على دول الاتحاد لاتخاذ موقف مشترك حولها في دولهم وبرلماناتهم الوطنية.

ان التجربة التاريخية تؤكد نظرة تركيا للامور من منضار "التاجر" وقد يغير التاجر، وكما هو معهود منه، توجهاته 180 درجة حين يعيد النظر في حسابات الربح والخسارة والمردود الاقتصادي وربما يقع على الكورد مسؤلية ايجاد الاسلوب الامثل للتعامل والتعاون ولا ريب ان المردود العام سيكون في منفعة العامة ليس تركيا لوحدها فقط بل للدولة العراقية من شمالها الكوردستاني الى ابلتها على سواحل الخليج وكافة دول المنطقة. هناك صراع تاريخي طويل ومستمر في معظم مستويات السلطة ودوائر القرار في تركيا بين تلك التوجهات الاوربية والتوجهات الامبراطورية الاستعمارية وذو الصبغة العسكرية والتي كانت على الاكثر قومية سلبية متحجرة منعزلة ازدادت شراستها بعد تنامي الوعي القومي الكوردي خلال العقود الثلاث الاخيرة الى درجة وصلت الى سدة الحكم في الفترة الانتخابية الماضية"اعتلاء حزب الحركة القومية وائتلافها في الحكومة" ولا ريب ان العديد من دعات تلك الافكار لا يزالون في صوامعهم يحلمون ولا يرون ان رياح التغير قادمة. لا يمكن بالطبع اهمال مجريات الامور في حوض التواجد التركي وانعكاساتها بصورة عامة على الحياة السياسية في تركيا خاصة بعد انهيار جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة. وبالتاكيد قدم كل ذلك دفعا جديدا لروح الفكر القومي المتطرف في تلك البلاد وانعكس مباشرة في داخل تركيا وبدرجات متفاوته. وادى كذلك انهيار سلطة الحكم البعثي الفاشي في العراق الى توجيه انظار هؤلاء الى الوجود التوركماني في العراق وتفعيل دورهم بما يخدم ومع الاسف توجهات هذا الخط القومي السلبي الذي يتناسى تماما ان الوجود التاريخي لتركمان العراق مرتبط بالوطنية العراقية وهي هويتهم وانتمائهم الوحيد ومن ثم ارتباطهم بوثاق الحوار الحظاري الذي امتد اكثر من دهر من الزمان"الف عام ونيف" مع الشعبين الكوردي والعربي والكلدو اشوري وشعوب وطوائف المنطقة باسرها. ان سواد الفكر الاتحادي والمطالبة بانظمام تركيا الى الاتحاد الاوربي سيؤدي بالنتيجة الى فناء كافة التوجهات القومية السلبية المحلية الظيقة التركية حيث نرى سيادة مبادئ الاتحاد في حرية التنقل للموارد البشرية والمالية والاقتصادية بفتح الحدود على مصراعيها ورفع القيود تماما والتوجه الى توحيد القوانين والعملة الاوربية الموحدة ورفع الحاجز اللغوي الثقافي بين شعوب الاتحاد الاوربي واخيرا الدستور المشترك عامل مؤثر ونهائي لزوال الفكر القومي السلبي ليحل محله الفكر الانساني المتنور واحترام حقوق الانسان وهناك كذلك خطط كثيرة مستقبلية لتوحيد الجيش وخطوات توحيدية اخرى.

تلك الرؤية الموسعة للامور ستقودنا الى بناء مجتمع مرفه وسعيد في منطقة تعتبر اليوم من اغنى مناطق الشرق من ناحية الثروة الانسانية والطبيعية والفكرية والتاريخية. ان التطورات الاقتصادية التي سترافق حالة الاستقرار والامن في ربوع كوردستان ستنطلق بالمنطقة وشعوبها الى افاق مستقبلية مظيئة. اما الاتراك من ناحيتهم فسوف يغيرون حتما المسار الفكري الجامد الذي طغى على الفكر السياسي واعني العسكري الاستعماري التركي خلال اكثر من ثمانون عاما ونيف. وان الغريب ان التركي الذي يقبل اليوم بشروط الاتحاد الاوربي يجهل تماما ماهية تلك الشروط التي ستستوجب اجلا ام عاجلا على تركيا انهاء طغيان الفكر العسكري الاستعماري القديم على مجمل امور الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية والاقتصادية في تركيا ويبقى كل ذلك حديثا ورواية يرويه الناس لابنائهم من روايات تاريخ ماضي تليد . الفكر الداعي الى الحوار والتفاهم بين الشعوب سيؤثر عاجلا ام اجلا على مجمل مرافق الحياة العامة في تركيا كنتيجة مباشرة لسيادة روح القانون ودولة العدل والمساواة التي يقودها الفكر النير والحكيم لاتحاد الاوربي ودستورها العادل و الدائم ومبادئ حقوق الانسان والمساواه والعدالة الاجتماعية . ان انعكاسات تلك الافكار على مجمل الحياة السياسية الكوردية هي من الامور المهمة والعاجلة خاصة ومع الاسف الشديد ان الضروف ملائمة لبزوغ حركات كوردية قومية عنصرية منغلقة على الساحة الكوردستانية ستنعكس سلبا و قد تحرق الاخضر واليابس وتعيد المنطقة الى سنوات العنف والدمار والصراعات العرقية. ان للقيادة الكوردية الاثر الاكبر في كبح جماح تلك الحركات والدعوات المتطرفة وحتى الدينية الظلامية منها. ان التجربة النضالية للحركات السياسية الكوردية الطويلة لكافية لرسم استراتيجيات مستقبلية ترى في الحوار الحظاري اساسا واستراتيجية لصالح رفاه الشعب الكوردي بعد قرون من الظلم والاظطهاد والحرمان. لا شك ان الكادر العلمي والمثقف الكوردي الذي قضى العقود الماضية بين ظهراني شعوب قد تقدمت في اسلوب فكرها وحياتها في الغرب اضافة نوعية نادرة قد لا نجدها في شعوب المنطقة ولسبب بسيط جدا الا وهو غياب هيمنة الفكر الشمولي والسلطوي على اسلوب فكرهم وترعرعهم في مجتمعات ديمقراطية تعددية ترى في الانسان قيمة وهدفا نهائيا لكافة النشاطات الانسانية. فمرحى بالفكر الحكيم للاتحاد الاوربي ولينفتح كل الابواب على مصراعيها لكافة انواع رياح التغير الايجابية خدمة للانسان الشرقي المعذب.