ما أن اخرج صديقي السوري محفظته حتى قاطعته بحدة وثقة "أنا من سيدفع الحساب" نظر إلى بسخرية ومكر قائلا"إيمان دخلك لما يسمحوا لك بالسواقة في بلدك راح أخليك تدفعي"..
كانت مزحة بريئة وعابرة ولكن كان لها الأثر الكبير في نفسي، فمن هؤلاء الذين يقصدهم بقوله؟
ظللت في تلك الليلة أمشي لفترة طويلة، أتنفس بعمق ذلك الهواء النقي الذي حرمت منه نساء بلادي، إنه يا سادة يا كرام هواء الحرية.
تلك الحرية المفقودة التي يريدها البعض مقننة وضمن أطر أو ما قد يطلق عليه مفكرونا المحليين الحرية المنضبطة!!
تعج بلادي بقصص فتيات منسيات مطحونات نفسيا بين قيود المجتمع وأغلال الدين الجديد وكلهن بلا استثناء لا يملكن أدنى ما تتمتع به نساء العالم من حولهن .
أعرف فتيات في بلادي لا يطأن سور المنزل إلا ضمن تلك الحرية المنضبطة المزعومة فيفقدن حقهن في التعليم والحياة، ويصبحن فيما بعد أسيرات زوج قاس لا يعرف من الرحمة أو العدل إلا مسمياتها.
فماذا كانت المحصلة من تلك الثقافة الاجتماعية المأزومة وهل الحرية في معناها الفلسفي تعني الانفلات والخروج عن ضوابط الأخلاق العامة المتعارف عليها، أم أنها خلقت داخلنا كفطرة غريزية ؟ وهل هناك فرق بين حرية الرجل الشرقي وحرية المرأة الشرقية؟
لماذا احتجزت المرأة في بلادنا باسم الدين حتى باتت بلا هوية و إنما مجرد تابع مأمور قد يحالفه الحظ في التحليق وقد يحرمها ذات الحظ من حقها في الحياة .
و هل سنظل أسرى لفتاوى تحتجز المرأة في أقفاص الفضيلة بحجج واهية ثبت عدم صحتها عبر مصادر أخرى نتهمها بالزندقة والخروج عن الملة ليس لشيء سوى أنها لا ترضي تضخمنا وغرورنا وجهلنا! و أما آن لذلك القفص الوهمي أن يتحطم؟
"نحتاج لعشر سيدات فقط يحترفن قول لا لتصبحن أحرارا" كلمة قالها صديق في مكالمة عابرة اختصرت كل ما نحتاج إليه، بحسب ذلك الصديق " ليس بالضرورة أن يكن على قدر عال من الثقافة يقرأن لهيغل وماركس ونتشه، لا بل لديهن الشجاعة الكافية ليرفضن الأقنعة الاجتماعية" هنا توقفت كثيرا وتفكرت في فتيات القرى البدويات اللواتي يقدن سياراتهن ليتدبرن أمور معيشتهن رغم انه من المعلوم لدى الجميع بان القيادة في السعودية محرمة على النساء وسواء كان التحريم دينيا بحسب تفسير بعض "تحول بعدها إلى تابو اجتماعي" أو حكوميا بقرار بعض آخر فستظل شجاعتهن المصطنعة ليست ترفا يحسدن عليه،إذا فهل البداوة القحة تسمح بعادات عفوية دوافعها مادية، لا تسمح بها حياة المدنية المزيفة ؟ هذا إن كنً مازلن يمارسن فطرتهن البدوية بعد صدور قرار حكومي العام الفائت يمنع النساء قانونيا من القيادة في القرى.
أختلف في الرأي مع صديقي الحالم فهل تفيد شجاعة وهمية يمارسها البعض من النساء وهل الثقافة عبء تنؤ به عقولنا ؟
ما نحتاج إليه فعلا هو نساء مثقفات قادرات على تحمل تبعات آرائهن التي قد تقلب موازين المجتمع، نحتاج إلى نساء يثُرن على رداء الحياء والفضيلة المزيفة، نحتاج إلى سعودة حقيقية للمستقبل ونظرة تختلف كلية عن مفهوم القبيلة العتيد .
نحتاج إلى نساء لا تتهافت قلوبهن الغضة إلى صوت يصدح بالنصيحة عبر شريط كاسيت أو كتيب يحمل في طياته نبرة تمييزيه تخترق آذاننا منذ عقود.
هاتفتني منذ مدة امرأة ساخطة تحتج بشدة على من ينادون بتحرير المرأة السعودية من القيود الاجتماعية وقالت لي بنبرة استفزازية (لم تثر بي سوى مشاعر الشفقة) " تريدون الحرية وتنادون بحقوق الإنسان وهي موجودة في الكتاب وسنة محمد ولن تجدوها سوى هنا"، ثم انطلقت بشعاراتيه تقليدية " إن كنتم تسعون لأمركتنا فأمريكا التي تحلمون بها لا تطبق حقوق الإنسان، هناك فقط تجدون الدعارة والفسوق" أغلقت الهاتف وتركتني غارقة في إحباطاتي.
تلك " المرأة النموذج " هي نتاج شديد الوضوح لثقافة الكاسيت الهابطة ولا اقصد هنا بتلك الثقافة شعبان عبد الرحيم لا بل ثقافة الاجترار الصوتي الذي سئمناه وضجت به أسماعنا حتى اخترقت طبلتنا ولم نعد مقتنعين به فهل تعي البقية ذلك ؟ ربما ! حتى إشعار آخر!
قد يأتي من يقول بان علينا تقبل آراء الآخرين مادمنا ندعو لحرية الرأي وفي تلك المقولة مغالطة فادحة، فذلك الرأي لا يمثله فرد قد نختلف معه وننسى ذلك الخلاف ما أن يختفي من أمامنا، بل هي ثقافة عامة يمارسها الآخرون من حولنا بلا وعي منهم وبلا إدراك لتبعاتها فهل يعقل أن ترتضي امرأة حرة كريمة أن تكون تابعا مأمورا دون أن تمنح نفسها الحق في التساؤل لم ؟
وهل من المفترض أن نتقبل آراء ليست مبنية على وعي حقيقي لماهية ما يقال، وهل اجترار آراء الآخرين و اعتناقها عبر شريط كاسيت مؤدلج وتكرارها بشكل سمج يعد رأيا يعتد به .


***
في مطار الملك خالد الدولي بالرياض كنت أنتظر كغيري في صالة المطار ليفاجئنا الميكرفون بان رحلة المدينة ستتأخر لأجل غير مسمى، أصبت بالخيبة فرُحت أعبث بهاتفي لأزيح عن نفسي عناء الترقب الممل وأثناء تحدثي مع صديقة فإذا بامرأة كانت تجلس أمامي برفقة زوجها تتقدم نحوي بشكل مفاجئ، جلست بجانبي وحالما طالبتني بان استمع إليها، عرفت في داخلي مقصدها و بكل بساطة اعتذرت لانشغالي بالهاتف لكنً ذلك لم يثنها عن رفع عقيرتها قائلة"أتعتقدين بان ما تفعلينه صواب، ألا تعرفين بأنك ستموتين وتحاسبين على إغرائك للرجال بهذا الشكل الفج " صدمت من منطقها وبادرتها بنبرة هادئة "أرجوك لا داعي للفضائح نحن في مطار عام " لم تتوقف عن قذفي بالسباب وأنا بين مكذب ومصدق "أتعلمين بأنك ستحترقين في نار جهنم " كررتها مرارا وتركتني في حيرتي ، وسط أنظار الرجال الشامتة والمستمعة بما قد تعارف مجتمعنا على تسميته (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).
تلك المرأة "النموذج الآخر" لنسائنا اللواتي يمارسن الحسبة كجزء من واجباتهن اليومية الاعتيادية كالطبخ ورعاية الأبناء فهي الوظيفة التي منحها إياها أولياء الله الصالحين في بلادنا . لم يكن في مظهري ما ينم عن الفتنة على الإطلاق ولم ارتدي يوما عباءتي السوداء إلا كممارسة تقليدية من ضمن ما يتوجب علي احترامه في مجتمعي، ما أثار تلك المرأة الحانقة هو تواجدي بلا محرم يرافقني ويحرسني من أعين الدخلاء الطامعين . تلك الفكرة التي عششت في رؤوس نسائنا خلال عقود ومازالت . في داخل تلك المرأة وبحسب تكوينها الاجتماعي فان وجود امرأة دون محرم كارثة أخلاقية لا تغتفر!
هنا يتنافى مبدأ عام وهو احترام حريات الآخرين مادامت لا تمس حرية الطرف الآخر على الإطلاق، ولكن هذه المرأة تشعر بان حريتها مهددة وربما مسلوبة مادامت هناك امرأة أخرى تمارس حريتها هكذا بكل بساطة وأمام ناظريها.
"ولذا عليك أن تراجع خزانة ثيابك، وتسريحة شعرك، وقاموس كلماتك، وتبدو عاديا، وبائس المظهر قدر الإمكان، كي تضمن حياتك، فهي قد تغفر لك كل شئ، كل شئ عدا اختلافك . وهل الحرية في النهاية سوى حقك في أن تكون مختلفا! (أحلام مستغانمي "فوضى الحواس)

ما أردت إيصاله حقيقة من إيراد هذا المثال البسيط - والذي قد يتكرر مع الجميع في وطن يظن أغلبيته بأنهم رقباء الله على الأرض في الحكم على النيات والأفعال- بأننا أمام أزمة ثقافية متضخمة تتمثل في أشكال مختلفة وأنماط متعددة منبعها أيدلوجي بحت لا علاقة له لا بدين أو تشريع .
تلك الأزمة الثقافية لا تقتصر فقط على نمط حياتي معين بل تمتد لتشمل مظهرا عاما يلتزم به الأفراد نساءا ورجالا، فهناك فرق شاسع بين أن تكون ملتحيا أو حليقا وبين أن تكون المرأة منقبة أو محجبة في كلا الظاهرتين يمتد المظهر ليصبح جزءا من الثقافة العامة فكيف نفسر إذا تنقب امرأة سعودية داخل الوطن ولكنها تنزعه ما أن تغادر الحدود وكيف نفسر ارتداء رجل لثوب قصير يستبدله ببنطال وقميص حالما يخرج من إطار المجتمع العام .
" إن للتقوى مردودا اجتماعيا بالنسبة للفرد، يفوز الرجل التقي بعطف ورضى العشيرة، فيكسب مزيدا من الجاه ويتسع مجال تأثيره في المجتمع وهذا يعني توسيع مجال التصرف"
(عبد الله العروي "مفهوم الحرية ص 21")

أيضا فان من خصائص تلك الثقافة المأزومة محتواها الهش والمتناقض، فكيف لنا أن نتخلى عن أمور نعتبرها في الداخل فريضة دينية دون أدنى شعور بالخجل وفي ذات الوقت نمارس الحسبة التي يرى رجال الدين لدينا بأنها فريضة على كل مسلم فباليد أولا وبالقول تارة وبالقلب في حالات العجز عن استخدام الوسائل السابقة، فلا عجب إذا أن نرى موظفين حكوميين يمارسون هذا الدور في المجتمع على مدار الساعة، ويتقاضون من خلاله الأجر والعطايا، مما فاقم من تأزيم المشهد الاجتماعي الذي لا يفرق في موقفه هذا بين مسلم أو مسيحي ! .
إن تناقض المفاهيم الثقافية لأي مجتمع قد تكون المحرك الرئيس لإحداث تغيير هائل في جذور تلك الثقافة، هذا ما أثبتته لنا وقائع التاريخ، ومجريات الحراك السياسي قد تكون الدافع و المحفز لإحداث هذا التغيير، لا نراهن على ذلك ولكن الزمن كفيل بالإجابة.

صحفية سعودية
[email protected]