لم يتأخر العراقيون عن تأييد الملكية لو عثروا بحكيم مثل فيصل الأول

الشريف على بن الحسين هو كما تعلمون البقية الباقية من العائلة المالكة، التي حكمت العراق من 23 آب 1921 حتى 14 تموز 1958، ولم يسمع به ولا بحديث له في السياسة إلا بعد 1991. وكان بعيداً عن مجالس الحنين إلى ذلك العهد التي كان يعقدها بلندن وزراء ورجال وتجار. فربما قدر هو ومَنْ حوله أن صلة القرابة بالملك فيصل الثاني لا تكفي إقناع العراقيين لوراثة عرش العراق، كذلك لا يكفي الشهران من عمره العراقي أن يحتوي تفاصيل المشهد. لكن عند بداية نهاية نظام البعث بعد آب 1990، أخذ الجميع يجرب حظه في جمهورية رابعة أو ملكية ثانية. فأسس أهل الدعوة الأخيرة ما عرف بالملكية الدستورية، وأتذكر أني سألت خالد التميمي في إحدى المناظرات بين الجمهوريين والملكيين بالقول: أنتم أحضرتم الملكية ولكن أين الملك؟ وعندها لم أكن سمعت باسم الشريف علي، فقال بحدة: موجود هو ابن خالة الملك. عندها قلبت ناظري في أمر الملوك وولاة العهود، ولم أجد ملكاً تولى عهد أو عرش ابن خالته، ويبدو أن أشراف الأردن فكروا بالمنطق نفسه فأخذ كل منهم يدعي وصلاً بعهد فيصل الثاني. وأغرب الغرائب أن الداعية إلى ولاية الشريف رعد وعرابه المسكين لم يجد حجة يقنع فيها الملأ العراقي في أمر مولاه وصلته بالعراق غير صلة المطبخ، فقال عبر إحدى شاشات التلفزيون لا يُعد في مطبخ الشريف رعد غير الطعام العراقي.

عموماً، لم يحتج أحد على تصدي الشريف علي لعرش العراق، وإقامة مأتم كل مساء 14 تموز لندب ما حل بالعائلة المالكة، وهو مصاب جليل، لا يغفر لفاعله، ولكن المصاب الأكبر أن تستخدم ذكرى الملك الطيب والشاب الوسيم والخلوق، وذكرى العائلة التي لم تؤذ العراقيين بقدر ما حاولت خدمتهم، في الدعاية السياسية. ولم أتوصل إلى هذه النتيجة المفجعة، بأن إعلان الحزن في ذلك اليوم كان لغرض غير الحزن والتأبين، إلا بعد أن سمعت الشريف على بن الحسين وهو يتحدث عن مساوئ الاحتلال ومساوئ الحكومة العراقية، ومحاسن صمود الفلوجة، وتصدي جيش المهدي، أي أنه كان حريصاً على التوازن بين سنُّة وشيعة من على شاشة فضائية الشرقية، التي لم تقو التخلي عن أخلاق صاحبها، فكل حلمه كان الاقتراب من عدي درجةً وإضحاكه، في مشهد رآه القاصي والداني.

إن انتقاد حكومة ومجلس وطني، ورئيس دولة ورئيس وزراء أمر مفرح وبهيج وواعد بأفق ديمقراطي، ولكن أن يظهر على لسان الشريف علي وبهذه السذاجة من أجل دغدغة عواطف العراقيين القادمين على الانتخابات أمر فيه نظر، وهو لا يقل تقززاً من استخدام ذكرى الملك لتحقيق مأرب شخصي. فالشريف علي عمل مع الأمريكان، وكان مسؤول الإعلام في المؤتمر الوطني الموحد، برئاسة الدكتور أحمد الجلبي، وكان له مكتب أنيق، وببابه سكرتيرة تحجبه وحرس شخصي يقف عند الباب، والكل يستلمون رواتبهم من الميزانية الأمريكية، وله خط مباشر مع قيادة المؤتمر، ويراعي أن تظهر صورته على الصفحة الأولى من جريدة "المؤتمر"، ويعترض على نشر صورة الزعيم عبد الكريم قاسم، التي كثيراً ما يعانده في نشرها محب الزعيم رئيس التحرير حسن العلوي. وأثارَ الشريف حفيظة الكثيرين عندما صرح قائلاً: نحن نجهز الأمريكان بالمعلومات فيما يخص أسلحة الدمار الشامل، وخطط إسقاط النظام. وكان من المتحمسين للحرب، ومن الأوائل الذي وصلوا بحماية الدبابات الأمريكية، وأنه أستأجر طائرة لنقل ما يفترض أن يكونوا من أنصاره، حتى ينزل مطار بغداد محمولاً على الأكتاف إلى المقبرة الملكية، لكن عند الهبوط تشتت الشمل. فماذا حصل حتى ينتقد الشريف الحكومة العراقية الانتقالية ويتهمها أنها جاءت على ظهر دبابة أمريكية، فنحن نعلم أن الدبابات البريطانية والاسترالية والأسبانية لم تحمل أي من المعارضة أو الأنصار.

وصل الشريف علي بغداد بمساعدة وعناية أمريكية فهو أحد فصائل المؤتمر الوطني، معولاً على إجراء استفتاء بين العراقيين، في أن يكون نظام الحكم جمهورياً أو ملكياً، وحاول من الوهلة الأولى، وهذا بفضل المستشارين غير الحكماء، أن يلعن صدام ولا يحمل بقية البعثيين وزر ما وصل إليه العراق وما سفك من الدماء، فقال بعظمة لسانه المسؤولية تقع على صدام، وان حزب البعث حزب عراقي وطني. وكانت تلك بادرة ساذجة للحصول على أنصار، ممَنْ لم تسع الأحزاب إلى ضمهم لشراهة شرهم. بعدها أخذ الشريف بالبحث عن بقايا صدى من العهد الملكي، فعثر بعدد قلل من وحشة مقر الملكية الدستورية ببغداد إلى حد ما، ووفر ستر الحال. لكن المفاجئ أن الشريف علي لم يمتلك الصوت الذي يحرج به الآخرين لقبوله في مجلس الحكم، فأخذ بالمزايدة على بقية الأعضاء بالوطنية. لكن لم يتظاهر أحد من أجل عضويته، ولم يطالب أحد بعضويته، ولم يبق أحد من ركاب الطائرة الملكية غير الشريف ومستشاريه. وبعد الإفلاس من عضوية مجلس الحكم أخذ يعلو صوت الشريف ضد الأمريكان، وضد الحكومة العراقية، ويقول: إنه احتلال! السؤال: أين كان الشريف ومستشاروه من الاحتلال، فهل سُيرت الجيوش من أجل تربع الشريف على عرش العراق، وما هذه النقلة التي تنقل مسؤول إعلام المؤتمر وموظف البنك إلى خليفة لنبوخذنصر وهارون الرشيد وفيصل الأول؟

تبدو بساطة الشريف علي مفضوحة إلى حد بعيد، فهو من جهة يقبل بعضوية المجلس الوطني، ومن جهة أخرى يعتبره مجلساً كارتونياً، على حد عبارته، مع أنه يضم خيرة ساسة العراق الحاليين، بداية من فؤاد معصوم ومروراً بمحمد بحر العلوم ونصير الجادرجي وحميد مجيد موسى وجواد المالكي وغيرهم. وكم يقاس تودد الشريف لتلك العضوية إذا علمنا أنه تنازل عن لقب الشريف في المخاطبات داخل المجلس بقرار صوت المجلس عليه! يبدو أن الوهم ركب الشريف علي وحاشيته في أن يتولى عرش العراق، فالملوك عادة لا ينتخبون في مجالس بلدية أو شعبية، ولا يشغلون وظائف أقل من الجلالة، فكيف يكون ملكاً مَنْ كان رئيساً لدائرة إعلام لا يعرف شيئاً فيها، وكيف يكون ملكاً مَنْ كان متحدثاً رسمياً باسم جهة ما؟ والأهم من هذا كيف يكون ملكاً مَنْ يتنكر لماضيه، ويدعي ما ليس له، ولا يجيد حتى دغدغة عواطف البسطاء باسم معاداة الاحتلال ومناصرة الحرية؟
كان الكثير من العراقيين سينادي بعودة الملكية لو وجد فيصلاً آخر، يسد الفراغ الكبير الذي تركه فيصل الأول بموته المبكر، فكان أباً لكل العراقيين ومتحملاً وزر تأسيس دولة لم يترك العثمانيون العثمانيون غير جادة خليل، وبناية السراي، أقترب من يهودها ومسيحييها وسنُّتها وشيعتها، فآزره محمد الصدر، ومحمد رضا الشبيبي، ويوسف غنيمة وساسون حسقيل وأكابر شيوخ العشائر، ولم يفت ضده آل كاشف الغطاء رغم طلب المتربصين بالدولة شراً. لقد تكشرت بعد غياب فيصل أنياب الضباط، وقبع خليفته غازي في عنفوان مراهقته السياسية، ثم أخذت أحجارها بالهدم بانقلاب بكر صدقي ونازية رشيد عالي الكيلاني، والطبيب النازي سامي شوكت، ووصل الحال أن يستقبل العراقيون سقوط التاج الملكي بفرح عارم، دون أن يمسوا جسد فيصل الثاني بسوء، فلم ينسوا له براءته وشبابه الواعد، وحصل ما حصل، فخسر العراق رجالاً لن يستغنى عنهم في يوم شدة.
كان العمل في المعارضة ستراً للعديد ممَنْ لم يحصلوا على درس في السياسة العراقية، وانتهى أن ينظر لهم كمشاريع تتحمل أوزار السياسة التي تجمع بين الحكمة ومراعاة الضمير. فالحكومة التي شتمها الشريف علي ووصفها بالفاشية والعمالة وقرنها بنظام صدام حسين، لأنها تطارد قُطاع الطرق وقطعة الرؤوس وباقري البطون، لم تأت من كوكب آخر بل كانت للشريف علي صلات بأقطابها، وهي تحاول التأسيس ليس بدغدغة ساذجة للعواطف مثلما يحاول الشريف وجماعات أخرى، ولو طلب الشريف منها التوسط عند (مجاهدي) الفلوجة لقبلت به ورحبت، لكنها لم تعثر على حل يخمد خناجر السلفيين والبعثيين غير المواجهة. ولو تسيد مقاتلو الفلوجة واللطيفية وجيش المهدي فهل سيرفعون الشريف علي درجة إلى العرش، وأن يغفروا له المساهمة في تجييش الجيوش ضد سلطتهم ومجدهم الدموي؟ وهل سيتركونه بداره حراً ورأسه فوق كتفيه مثلما تركته الحكومة العراقية شاتماً وثالباً عبر شاشة التلفزيون ومن بغداد؟

كانت تصريحات الشريف علي مناسبة مضرة بشخصه وبحركته، فالعراقيون تدربوا وتحصنوا من الدغدغة الساذجة، وربما لا يبقى للشريف عندهم أكثر من مقر وجريدة، ناهيك أن دساتير الملوك، العراق والأردن مثلاً، لا تقر وراثة ابن خالة الملك الملك.