منذ أن ظهر السيستاني الى العلن وهو يحصد إعجاب الناس وإكبارهم، لا الناس البسطاء الذين تعودوا الامتثال الى المرجعية كسلطة مطلقة لاتقبل الدحض،بل الكثير من المثقفين والمتطلعين الى العقلانية كبديل عن التهور والتعصبات التي سادت العراق وأضرمت فيه اوار الحروب والفتن. راهن الكثيرون على ان السيد السيستاني سيكون إمثولة لرجال الدين في العالم الاسلامي اليوم أو غدا، بما لعب من دور كان صمام أمان إزاء نزعات الانفلات في التدين الشعبي وأمية التخلف التي يقود زمامها بعض رجال الدين في العالم الاسلامي،اولئك الذين أقاموا محاكم تفتيش وصلت حد إصدار الفتاوى بقتل الاطفال بحجة انهم كفرة،أوغيرهم الذين استبدلوا الدين بسلطة سياسية وجاه وإمتيازات إقتصادية. السيستاني داعية جاهد من أجل حقن دماء العراقيين، وعدم التفريط بها، والنظر ببعد وروية الى مستقبل العملية السياسية في ظل الاحتلال،وهو يدرك جيدا تعب العراقيين من الحروب والمجازر، وما كان أكبره عندما منع ثأر الشيعة من قتلتة أبنائهم والالتجاء الى القانون قبل العودة الى البداوة. ولعل الاختبار الاكبر عند زعيم المرجعية الشيعية في العراق،تحدد في مفهومه لسلطة رجل الدين التي رأى فيما رأى فيه،موجها ومرشدا روحيا لامقررا في السياسة أو زعيم ميليشيات او قائدا يخلط بين الدين والسلطة الدنيوية.
لسنا بصدد إعادة مابثه السيستاني من فكر تنويري حول مفهومه للسلطة وضرورة فصلها عن الدين،فتلك أمور تداولها الناس كثيرا، حتى ظن بعض العراقيين ان عهد محمد عبدة وعلي عبد الرازق والاجتهاد التنويري قد حل على أرضهم.
غير ان الذي يبعث على الاستغراب تحرك السيستاني الاخير لتأليف قائمة إنتخابية تنزل بإسمه في أكبر مفترق طرق يمر بها العراق. فها هو هذا الرجل الجليل قد تخلى عن أهم شرط من الشروط التي وضعها للمرجعية الدينية، وهي تعليم الناس الاعتماد على أنفسهم في إختيار من يمثلهم، دون ان يتدخل الدين ليضفي على السياسة قدسية تمنع الناس من تعلم شرط الحرية في الانتخاب. فمن يستطيع من الشيعة المؤمنين اليوم ان يفكر بعقله لتقّصي ومعرفة تفصيلات ما تحويه القائمة التي وضعها السيستاني وختمها بمهره الديني.
العملية الانتخابية المقبلة ستكون التمرين الاول للعراقيين على النطق بعد سنوات طويلة من تكميم الافواه، وأول مهامها ان نجحت ولو على نحو نسبي، تحويل الدولة من سلطة العقيدة المطلقة والحاكم الآمر المطاع الى دولة خدمات يتقاسمها العراقيون بالتساوي، وتحويل الحاكم من ظل الله على أرضه الى موظف يؤدي واجبه ويرحل، ويحاسب وفق قوانين الارض قبل السماء.
لقد نقض السيستاني وعده الاول في فصل الدين عن السياسة،كي لايتلوث المقدس بأدران السياسة، وكي لاتتحول السياسية بإسم المقدس الى ديكتاتورية لايأتيها الباطل من خلفها وأمامها،كما فهمنا من كلامه. كيف يحدث هذا؟ وما الذي تضمره قائمة المرجعية الشيعية من خطورة تنذر بتحولها الى قنبلة موقوتة تقسّم العراق الى دويلات متناحرة وتشعل الفتنة المستعرة بين الطوائف والقوميات؟
لانعرف ماالذي جمع أحمد الجلبي بسلامة الخفاجي بالشهرستاني بحزب الدعوة وحزب الحكيم وغيره من الاحزاب والشخصيات التي تؤلف قائمة السيستاني. العروة التي تشدهم هي شيعيتهم، وذاك حق لايناقش الناس فيه، ولكنه يأتي الان في سياق آخر عندما يتحول الى شيفرة وعنوان تكتلات وإنقسامات طائفية وقومية بالمقابل. هاهم الاكراد يجيبون بقائمتهم الكردية، والسنة ان نزلوا بقائمة سيكون أمامهم الاخوان وهيئة علماء المسلمين الذين سيفكرون في آخر المطاف بتكتل يزيد من لحمة قضيتهم ويحولها الى عصبوية عقائدية.
إحتمى العراقيون من وطنيتهم بالطائفة والقبيلة، وإستجاروا بعد ضياع حقوقهم في العهد السابق بقرابات ملفقة، وهاهو صدام حسين يدفع مستقبلهم نحو ماخطط له وسهر عليه الليالي. فالحفاة الذين علّمهم كيف يرتدون النعال، حسب توصيفه العراقيين، لابد ان يعودوا الى المربع الصفر، الى دويلات وملل ونحل تستطيع بمرور الوقت ان تبرهن على أمر واحد وهو ان زعيما مثل صدام حسين هو الذي يصنع الاوطان الموحدة،حتى وان كانت مزرعة لمافياته، ولن يكون لهذا الوطن من بديل سوى ديكتاتورية قد تسود فيها الاكثرية، ولكنها مثل دكتاتورية البروليتاريا، تستمد قدسيتها من شرعية المبدأ الذي لايقبل الدحض.
قبلت الجماهير في الدول الاشتراكية زعماء عاطلين عن المواهب، وقتلة ومجرمين، لانهم يمثلون المبدأ ذاته، حلم الاكثرية المسحوقة بأن تسود وتصل الى جنتها الموعودة، ولكن تلك الجماهير سُحقت تحت أقدام البيروقراطيين الذين صنعوا الأوطان والاحلام على مقاسهم.
سيتعلم العراقيون مرات ومرات أن يهتفوا الهتاف الاول الذي تعلموا ترديده على مسامع صدام حسين: بالروح بالدم. مع تغيير بسيط وهو: نعم.. نعم.. للمرجعية. تلك ال"نعم" المطلقة التي جلبها معهم من عاش في إيران طويلا.
من حق الجلبي أو الخفاجي أو الشهرستناني أو ممثل أي حزب في قائمة السيستاني ان يعقد تحالفات مهما كانت صيغتها،ولكن ليس من حقهم الاستعانة بسلطة المقدس،. فهم يعرفون أنهم يحتمون بقانون الامتثال والطاعة الجاهلة لا الديمقراطية الحقة.فما أسهلها عليهم، وما أصعبها على السيستاني.