أحد أهم أسباب الإرهاب المستشري في العالم الآن هو زج الدين بالسياسة ومحاولة الذين اختطفوا الإسلام أن يفرضوا إرادتهم الغاشمة على العالم بالقوة. وقد بدأت هذه الحركة بصورة سلمية أي ما يسمى بالإسلام السياسي المعتدل وتطور تدريجياً إلى تبني العنف حتى تحول إلى الإرهاب. ونتيجة لهذا التداخل بين المقدس والمدنس، صار رجال الدين يجهدون ويطالبون في تبوئ السلطة السياسية كما جاء صراحة في مقال لفضيلة الشيخ مازن السهلاني الموسومة (السياسة وعلماء الدين) المنشورة في صحيفة عراق الغد الإلكترونية يوم 8/12/2004. ونظراً لأهمية الأفكار التي وردت فيها وخطورة دعوة الكاتب الصريحة لزج علماء الدين بالسياسة، شأنهم شأن أصحاب أي اختصاص آخر، كما يقول، والالتباس الممكن حصوله عند القراء بسبب ذلك، رأيت من المفيد أن أدلو بدلوي آملاً من الشيخ أن يسع صدره للرأي الآخر وذلك خدمة للحقيقة ومنعاً لابتلاء العراق بديكتاتورية دينية بعد أن تحرر تواً من الديكتاتورية القومية، خاصة ونحن على مشارف انتخابات نأمل منها أن تكون حرة ونزيهة بعيدة عن تأثيرات الفتاوى الدينية لتزكية هذه الفئة السياسية على تلك إضافة إلى تهديدات الإرهابيين بإفشال التجربة الرائدة.
بدءً، لا أحد "يصر.. على رفض قاطع أن يكون لعلماء الدين أي دور في الممارسات السياسية" كما جاء في مقال الشيخ. ولكننا نصر على عدم خلط الدين بالسياسة. وهناك فرق كبير بين الدين وعلماء الدين. فكما قال السيد حسين الخميني (حفيد الإمام الخميني) أن (السياسة تفسد الدين والدين يفسد السياسة). ومن مصلحة الجانبين الفصل بينهما. (راجع مقالنا: (العراق الجديد بين العلمانية والإسلاموية).
فالدين ثابت (حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة) ودستوره القرآن الكريم ثابت إلى يوم القيامة أيضاً، أما السياسة فمتغيرة مع الزمان والمكان. الدستور الديني من الله أنزله على النبي محمد (ص) عن طريق الوحي الذي انقطع عن البشر منذ وفاة الرسول. بينما الدستور المدني من صنع البشر يغيرونه حسب ما تمليه الظروف. الدين مقدس والسياسة مثل الحرب، كر وفر ومؤامرات مستمرة في السعي وراء المصالح وإلحاق الهزيمة بالخصم. الدين يركز على المبادئ المثالية والاخلاقية، بينما السياسة تركز على المبادئ الواقعية العملية حسب ما تمليه المصالح حتى ولو تعارضت مع المثاليات. ولهذا السبب نجح معاوية لأنه كان رجل سياسة وداهية في شؤون الدنيا وخبيراً بالفطرة في تدبير الدسائس والمؤامرات، بينما فشل الإمام علي في السياسة لأنه التزم التزاماًُ مطلقاً بالمبادئ الخلقية النبيلة والمثالية السامية وطلق الدنيا ولم يشترها بعفطة عنز. نعم السياسة تهتم بشؤون الناس الدنيوية، بينما يهتم الدين بشؤونهم في الآخرة، لذا فوظيفة رجل الدين تقديم الإرشاد والنصائح للإنسان وإذا ما خالف العبد فعقابه عند الله يوم الحساب، (إنما الدين النصيحة).
من جانب آخر، نقول نعم، من حق علماء الدين أورجال الدين ممارسة العمل السياسي على شرط أن لا يضفوا القداسة الدينية على مواقفهم السياسية. لأن إضفاء رجل الدين-السياسي القداسة على برنامجه السياسي وعلى نفسه يمنعنا من توجيه أي نقد له لأنه مقدس، والويل لمن ينتقد رجل الدين فجزاءه القتل تعذيباً في الدنيا والجهنم وبئس المصير في الآخرة. وهذه إيران أصدرت الحكم بالإعدام على المفكر الإيراني، هاشم آغاجاري لأنه ألقى محاضرة في جامعة طهران، انتقد فيها الفساد المستشري بين الحكام من رجال الدين وقارنهم بالقسسة أيام سيطرة الكنيسة الكاثوليكية على الحكم في أوربا. كما ألغى مجلس حماية الدستور ترشيح 2700 من الإصلاحيين ومنعهم من المشاركة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة لأنهم لا يؤمنون بحكم ولاية الفقيه. فهل هذا هو العراق الذي نحلم به تحت حكم رجال الدين أو علمائه بعد أن تحرر من حكم صدام البغيض؟
يقول حكيم «السلطة تفسد، والسلطة المطلقة هي مفسدة مطلقة». لذلك لا يمكن حماية الناس من فساد الحكام إلا في النظام الديمقراطي. وهذا لا يعني أنه لا يحصل فساد في الأنظمة الديمقراطية، ولكن الديمقراطية تسمح بوجود معارضة حرة تحاسب الحكومة، وصحافة حرة تراقب نشاطات السياسيين وتفضح الفاسدين منهم. بينما لا يمكن حصول هذا النقد والمراقبة في الأنظمة الإسلامية أو أي نظام شمولي مستبد. كذلك تلغى حرية التعبير تحت ظل السلطة الدينية ويحصل التخلف والنفاق والانتهازية كما هي الحال في الأنظمة المستبدة حيث يعتبر أي نقد للحكومة مغامرة انتحارية.
في الأنظمة الديمقراطية يحق للمواطنين أن ينتقدوا ويحاسبوا الحكام وحتى رجمهم بالطماطة والبيض الفاسد. لهذا نحن نحلم أن يكون النظام في العراق الجديد ديمقراطياً وحراً خاضعاً لحكم القوانين العادلة نستطيع في ظله نقد الحكام. وعليه، إذا ما أراد رجل الدين أو عالم الدين أن يمارس السياسة في العراق، فبكل رحابة صدر، على شرط أن يقبل أن نعامله كما نعامل أي سياسي غير ديني. ولكن في هذه الحالة، سيفقد رجل الدين هالته المقدسة واحترامه خاصة إذا ما ضرب بالبيض والطماطم، الأمر الذي لا نتمناه لرجل الدين. أرجو أن لا يتسرع الكاتب فيرد عليَّ بمقولة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أنه طلب ذات يوم من الرعية محاسبته إذا أخطأ. فقام له أعرابي قائلاً: (لو وجدنا فيك اعوجاجاً لقومناه بحد سيوفنا) فتلقى عمر ذلك بكل سرور. هذا مجرد قول وربما حصل في فترة الخلافة الراشدة فقط، أما ما تلا ذلك فكان ظلم متواصل إلى سقوط الدولة العثمانية في أوائل القرن الماضي على أيدي قوات الحلفاء. أما تجارب الأنظمة الإسلامية الحديثة، مثل إمارة الطالبان والسودان وإيران فحدث عن البحر ولا حرج.
قد يلجأ النظام الإسلامي إلى تبني بعض المؤسسات الديمقراطية الغربية مثل البرلمان والانتخابات الدورية...الخ كما هي الحال في إيران. إلا إن هذه المؤسسات للديكور فقط. ففي المثال الإيراني، ليس هناك أي دور عملي لرئيس الجمهورية المنتخب ولا للبرلمان المنتخب، وإنما القرار بيد مرشد الدولة الإسلامية ومجلس حماية الدستور غير المنتخبين، بذريعة الحكم للأعلم وليس للمنتخب من الشعب الذي يتهم بأنه جاهل لا يعرف مصالحه وأن علماء الدين أعرف منهم بذلك.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، حول دور عالم الدين في السياسة، أرجو أن يسمح لي فضيلة الشيخ مازن السهلاني أن أذكر ممارسة الإمام روح الله الخمبني، وكيفية قيادته للحرب العراقية-الإيرانية حيث اعتمد على زج الجماهير وبينهم أطفال بدافع الحماس الديني وطلب الشهادة، على شكل موجات بشرية في جبهات الحرب ولم يكن بمستطاع أي مواطن وحتى القادة العسكريين في إيران أن ينتقدوا الإمام الخميني على خطته، لأنه يعتبر معصوماً من الخطأ، فأي نقد له كان بمثابة نقد إلى الله سبحانه وتعالى، ويعاقب أشد العقاب ولم يسلم من ذلك حتى أية الله حسين علي منتظري الذي كان نائباً له حين طالبه بوقف الحرب في الوقت المناسب.
نعم كان صدام حسين مجرماً وهو الذي بدأ الحرب في أيلول عام 1980 وعاث في الأرض فساداً واحتل أراض شاسعة من إيران. ولكن بعد عامين من بدء الحرب، استطاعت القوات الإيرانية أن تلحق الهزيمة بجيوش صدام وحررت معظم أراضيها المحتلة. وفي هذه الحالة وتلافياً لسفك المزيد من دماء الشعبين والخراب الشامل، كان من الحكمة أن يوافق الإمام الخميني على وقف الحرب حيث كان صدام أرسل الوسطاء لتحقيق ذلك. كما وقرر مجلس التعاون الخليجي تقديم مساعدة لإيران بمبالغ خيالية لإعادة إعمارها فيما لو وافقت على إيقاف الحرب عام 1982. ولكن مع ذلك أصر الخميني على مواصلة الحرب على أمل إسقاط النظام البعثي وإقامة نظام إسلامي في العراق يؤمن بحكم ولاية الفقيه أي حكم الخميني ومن يأتي من بعده. ولذلك استمرت الحرب إلى ست سنوات أخرى ولم تتوقف إلا في آب من عام 1988 وبعد الدمار الشامل وهلاك ما يقارب ثلاثة ملايين من الجانبين، عندها رضخ الخميني للأمر الواقع لوقف الحرب الذي كان أشد عليه من تناول السم وبعد خراب البصرة. ومع ذلك فالخميني غير قابل للمسائلة والويل لمن يتجرأ بتوجيه أدنى نقد له.
السياسة فن الممكن، ولكن رجل الدين أو عالم الدين لا يقبل بهذا المبدأ بل يعمل وفق المبدأ القائل (كل شيء أو لا شيء) والذي ينتهي دائماً بلا شيء. عالم الدين السياسي يريد أن يحكم في القرن الحادي والعشرين وفق سياسات كانت مطبقة قبل 15 قرناً، وهذا محكوم عليه بالفشل والكارثة. يعتقد هؤلاء أن الله يقف إلى جانبهم، الاعتقاد ذاته يحمله بن لادن والزرقاوي وحتى صدام حسين. ولهذا السبب نعتقد أن عالم الدين لا يصلح للسياسة، ولن نقول ليس من حقه ممارسة السياسة، بل إذا أراد أن يمارس السياسة فليتحول إلى رجل سياسة ولا يدعي احتكار الحقيقة أو يعطي لنفسه الحق في إلغاء الآخر باسم الله والدين وأن لا يكون فوق النقد والمساءلة.
إن زج الدين في السياسة له عواقب وخيمة على الدين نفسه وعلى رجال الدين وعلى الشعب والعالم. وقد أدرك هذه الحقيقة آية الله السيستاني الذي وقف ضد زج الدين بالسياسة وحكم ولاية الفقيه. وبعد سقوط النظام الفاشي وجه سماحته تحذيراً إلى رجال الدين ينصحهم بعدم قبول وظائف حكومية. فهل من اللائق مثلاً أن يقوم رجل دين معمم بوظيفة شرطي أمن أو مدير أمن أو استخبارات؟
ولكن رغم كل تأكيدات السيد، هناك بعض الفئات السياسية تحاول استغلال اسمه ومكانته الدينية المرموقة والمؤثرة في الجماهير الشيعية لأغراضهم السياسية الخاصة. فقبل أيام نشر خبر أن القائمة الفلانية حضت على مباركة السيد السيستاني. إن زج المقدس بالسياسة له مخاطر وخيمة على الديمقراطية الوليدة ومستقبل العراق.

روابط مقالات ذات علاقة بالموضوع:
1-الإرهاب الإسلامي وليد الإسلام السياسي المعتدل!
http://www.sotaliraq.com/newiraq/article_2004_04_22_1250.html

2-العراق الجديد بين العلمانية والإسلاموية
http://www.sotaliraq.com/f/article_2004_02_25_Dr_Abdulkhaliq_Hussein.html