أعدت فضائية عربية برنامجاً لتكريم عظماء من التاريخ الإسلامي، كان الحجاج بن يوسف الثقفي (فَطسَ 95 هـ) واحداً من المكرمين. والدعوة وجهت إلى ثلاثة متحدثين، مع وضد ومحايد، وكنت أنا الضد. على أن يسجل الحوار بالقاهرة (مارس 2004)، وقد رتب موعد السفر والتسجيل ومكان الاستضافة، لكن لأسباب أجهلها تأجل البرنامج بالكامل. وافقتهم أن يكون الحجاج عظيماً، فالعظمة لا تعني الخير فحسب، إنما يجوز القول: بلاء عظيم، وذنب عظيم، وشر عظيم، والثلاثة تجتمع في الحجاج وخلفائه. فكرت بمحنة مَنْ أختير أن يكون مدافعاً عن البلاء العظيم، فسيجهد نفسه في البحث عن حسنات لصاحبه. فمن أين تقتبس حسنات للحجاج واخباريو المذاهب ومؤرخوها كافة، وفي مقدمتهم الشافعيون ثم الحنبليون، متفقون على لوغه بالدماء، ناهيك عن الشيعة والحنفيين. وليس من العجب إذا أمر صدام حسين بتأليف كتاب يعيد الاعتبار للشخص مثل الحجاج، صدر في منتصف الثمانينيات.
يتضح عبث الحجاج بأرواح الناس ومعاشهم من أخباره مع فقيه ومتكلم عصره الحسن البصري ، وكان الأخير نموذج الفقيه المسالم، بينما كان الأول نموذج السلطان الجائر، الأول لا يملك غير لسانه وما حفظه من السلف لحفظ الدماء والأعراض، بينما لا يملك الثاني غير سفك الدماء وإهانة الأعراض. فمن عادة الفقيه الرباني الزهد حتى في الماء وكسرة الخبز اليابسة فكيف بدفئ الجواري وملذات الدنيا الأخرى، يمشي على الماء ويصدقه الاتباع لو فرش سجادة الصلاة في الهواء. مثل هذا الفقيه مثل رابعة العدوية، يوم تخيلها أحد المتصوفين الشعراء وهي تحمل في يديها النقيضين الماء والنار، ففي الماء تطفي جهنم وفي النار تحرق بساتين الجنة، حتى يكون عشقها لا خوفاً من نار ولا طمعاً في جنة. تمنى المحبون أن يكون مثل هذا الكلام لعلي بن أبي طالب فسار على ألسنتهم (عبدتك لا خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك) بما لم يأت في "نهج البلاغة" الذي هولت فيه النار بأكثر من خمسين كلمة. الحسن البصري من هؤلاء الحالمين، لكن خشيته كانت فزعاً من الموت وعذاباً من النار وشوقاً للجنة، جعله الحلم والخوف معاً رقيقا إلى درجة أنه يبكي كلما ذكرت له كلمة عذاب ويرى في الموت راحة رغم ذعره منه، ويقال كان يكثر من إنشاد ما يشير إلى الرعب من الموت:
ليس من مات واستراح بميت
إنما الميت ميت الأحياء
قال أبو نعيم الأصبهاني في الحسن البصري "حليف الخوف والحزن، أليف الهم والشجن، عديم النوم والوسن". يرتعب من الموت وما يأتي بعد الموت، حتى قيل: "كان إذا أقبل فكأنه من دفن حميمه، وإذا جلس فكأنه أمر بضرب عنقه، وإذا ذكرت النار فكأنها لم تخلق إلا له". كان البصري مسالما لا يرى في الدين غير تجنب أذى الآخرين وأذى النفس، جمع مجلسه في مسجد البصرة الفقهاء الموالي ورهبان النصارى، فقيل إنه يشبه المسيح جمالا ورقة، لولا عثرته التي حنت أنفه قليلاً. شكل هو وصاحبه في الأسر والانحدار - الاثنان ينحدارن من دست ميسان (العمارة حالياً)- مفسر الأحلام محمد بن سيرين ثنائي فقه وعلم البصرة، قال عنهما أستاذهما الصحابي أنس بن مالك: "إني لأغبط أهل البصرة بهذين الشيخين". تجنب مجلس الحسن البصري الشاعر الأعمى بشار بن برد، لكثرة نصائحه له من تمرد ومجون وربما قول مثل:
النار مشرقة والأرض مظلمة
والنار معبودة مذ كانت النار
كان رد بشار على نصائح الحسن بالقول:
فأصبن من طرف الحديث
لذاذة وخرجن قلسا
لو تعرضهن لي ياقس
كنت أنت قسا
لو سمع الإسلاميون من متشددي اليوم مقالة الحسن البصري، التي رواها أحد علماء الحديث: "ديناً وسوطاً لا ديناً سقوطاً ولا ذاهباً فروطاً"، لخففوا من تشددهم وقسوتهم على الدين والدنيا. فمهما فعلوا لم ولن يصلوا إلى مستوى تدين البصري وإخلاصه لله وطمعه في الجنة وفزعه من النار. فالدين إذا تحول سوط يساق به البشر انقطعت علاقته بالله، وخلا من رحمته وسعته، ولا يُسقط الدين أكثر من الإفراط فيه. اسمع بعد كل انفجار يُقتل فيه الأطفال والشوخ والأبرياء تهديداً بالإنقطاع عن إسلام يمثله هؤلاء الذين يصرون على نسخ آية "لا إكراه في الدين"، وسبعين آية رحمة ومحبة مثلها بآية السيف. إلا أن السوط الذي حذر البصري منه تحول إلى قنابل قتل مَنْ تشاء ومَنْ لا تشاء، توزع الموت في كل مكان، والناس لا تملك غير الصدود عن دين مثل هذا، يحجب عنهم السهولة واقتران الله بالرحمة والمحبة. ولمكانة الحسن البصري في الدين قال رجل قبل موته لمفسر الأحلام ابن سيرين: "رأيت طائراً أخذ حصاة من المسجد، فقال: إن صدقت رؤياك مات الحسن، فمات بعد ذلك".
من سوء طالع هذا الفقيه الحالم أنه عاش أكثر من عشرين سنة من حياته مذعوراً من الحجاج بن يوسف الثقفي، مدركاً أن مثل قسوة الحجاج وكثرة سفكه للدماء لا يأتي إلا من طفولة معلولة قيل: "إنه رفض الرضاعة من ثدي أمه وشرب من دم جدي ذبح لهذه الغاية، وقيل ولد بلا خرم في مؤخرته فثقب له خرمه. كانت والدته مزواجة، حالها ربما حال حكام دمويين معاصرين حكموا العراق واليمن، فقد تزوجت الحرث بن كلدة الطبيب ثم المغيرة بن شعبة ثم يوسف الثقفي، وقد طلقها المغيرة لأنها الطعام يبات بين أسنانها، فتتخلل صباحاً، طلقها، فقال لها: "وال لئن كان هذا غذاء يومك لقد شرهت، وإن كان من عشاء أمسك لقد أنتنتِ". وقص القصاصون قصة عشقها لفاتن نساء المدينة، نصر بن حجاج بن علاط، وقيل إنها أم أبي الحجاج، وقد نقل إلى عمر بن الخطاب شعرا قالته في عشيقها:
هل من سبيل إلى خمر فأشربها
أم من سبيل إلى نصر بن حجاج
ربما دعت رغبتها في ابن حجاج أن تسمي وليدها بالحجاج، طرد عمر هذا الفاتن خوفا من فتنة النساء فيه في أيام انشغال الرجال خارج المدينة بالفتوحات، التي أوغلت الدين في السياسة وجعلته مقروناً بالغنيمة والغزو، والتسابق على الجواري من آل ساسان ورومان. فلا يتأخر مَنْ رفض قسوة الحجاج أن يتقول على أمه بمثل ما تقدم، وهو بعيد الحدوث، لأن أم الحجاج كانت تقطن الطائف لا المدينة، إضافة إلى ضعف القصة وشكيمة آل ثقيف القبلية.
قدم ابن كثير صاحب "البداية والنهاية"، وصفاً دقيقاً لأحوال الحجاج من ولادته وحتى إمرته على العراق، بقوله: "كان اسمه كليباً، ثم سمي الحجاج، وعند ولادته لم يرتضع أياماً، ثم سقي دم جدي، فارتضع، وكان كثير قتل النفوس، ويتشبه بزياد بن أبيه، وبالجملة كان الحجاج نقمة على أهل العراق، وما بقيت حرمة إلا وقد هتكها، وكان مبذراً في الدماء والأموال، حيث لم يترك في بيت المال سوى ثلاثمائة درهم". وموبقاته ضد سكان العراق الأصليين"كان يسم أيدي النبط بالمشرط والنّيل"، وفي هذا قال الأشهب الكوفي في القاضي نوح بن درّاج:
يا أهل بغداد قد قامت قيامتكم
مذ صار قاضيكم نوح بن درَّاج
لو كان حياً له الحجاج ما سلمت
صحيحة يده من وسم حجاج
جاء في الروايات: أن أول عمل مارسه الحجاج هو مساعدة والده في تعليم الصبيان، على طريقة صبي الملا أو مراقب الصف في المدرسة الحديثة، فتعلم الدرس الأول في العذاب، ثم عمل شرطيا تحت قيادة روح بن زنباغ الجذامي، ومن هذا الباب دخل في خدمة آل مروان وضرب في سبيلهم الكعبة بالمنجنيق وحرك الحجر الأسود من مكانه بعد اعتصام عبد الله بن الزبير فيها، فهو يؤمن أن طاعة الله برضاء الخليفة، لا صون الكعبة أو الحجر. فهو القائل للخليفة:
إذا أنا لم أتبع رضاك وأتقي
أذاك فيومي لا تزول كواكبه
وما لامرئ بعد الخليفة جنة
تقية من الأمر الذي هو كاسبه
فقف بيَّ على حد الرضا لا أجوزه
مدى الدهر حتى يرجع الدر حالبه
بعد قتل الأخير وصلب جثته على حائط الكعبة، حتى تعرت العظام من اللحم وبانت كأنها قبر معلق في الهواء، نظرت أسماء بنت أبي بكر الصديق إلى عظام ولدها المنخورة يتسلق فوقها الدود، فبعثت خبراً للحجاج أن ينزل هذه العظام وقد أسمته بمبير آل ثقيف. شهدت أسماء قتل ولدها وهي عمياء في المائة من عمرها، ومن سفاهة الحجاج أنه خطبها طمعاً بمسالفة الرسول، فهي أخت عائشة الكبرى. ولخالد بن يزيد بن معاوية(ت90هـ) مقامة مع الحجاج في شأن آل الزبير، فقد كتب رسالة يعترض فيها على زواج خالد من رملة بنت الزبير بن العوام، فقال لحاجب الحجاج الذي حمل إليه الرسالة: "لولا إنك رسول لا يعاقب لقطعتك أرباً أرباً ثم طرحتك على باب صاحبك، قل له ما كنت أرى أن الأمور بلغت إلى أن أشاورك في خطبة النساء"! رملة التي أحبها خالد رغم ما بين الأمويين والزبيريين من نزاع، قال فيها:
تجول خلاخيل النساء ولا أرى
لرملةَ خلخالاً يجول ولا قُلبا
اقٍلوا على اللوم فيها فأنني
تخيرتها منهم زبيريةً قَلبا
أحبُ بني العوام طُراً لحبها
ومن حُبها أحببت أخوالها كلبا
فإن تُسلمي نُسلم وإن تتنصري
يخطُّ رجال بين أعينهم صُلبا
فتح الحجاج ديوانا جديدا بالعراق دعاه بديوان العذاب، يعرف رئيسه بصاحب العذاب، وقيل لقب صاحب شرطته العذاب، واستحدث سجونا خاصة بالنساء، وكان "يخبر عن نفسه أن أكبر لذاته سفك الدماء، فعرف بتبذيره الدماء والأموال معاً، وارتكاب أمور لا يقدم عليها أحد" لبشاعتها. أحصي في سجونه ثلاثة وثلاثون ألف عراقي "لم يحبسوا بدم أو تبعة أو دين". أما المقتلون صبراً والهالكون في السجون فقدرهم المسعودي والديار بكري بمائة وسبعين ألفاً، وثلاثين ألف امرأة. كانت سجونه بلا سقوف، يأكل المسجونون الطعام مدافاً بالأوساخ. ومن غرائبه كان إذا سمع نواحاً على ضحية من ضحاياه أمر بهدم الدار التي يناح فيها على أهلها، ولكثرة ما قتل قيل: "لم تجف الدماء من قتلاه". لكل هذا وصف أحد المؤرخين ليلة موت الحجاج بالليلة المباركة، وآخر ذكرها بعرس العراق. ومن همس الحسن البصري عن الحجاج في آذان أهل الثقة والخائفين مثله: "مازال النفاق مقموعاً حتى عمم هذا عمامة وقلد سيفاً". وعندما سُئل عن ولي نعمة الحجاج عبد الملك بن مروان قال: "ما أقول في رجل، الحجاج سيئة من سيئاته". هذا، ومَنْ يريد التحري عن قساوة الحجاج ليقرأ خطبته المشهورة التي فتح بها بوابات جهنم عند الجاحظ في "البيان والتبيين"، والباقلاني في "إعجاز القرآن"، وابن قتيبة في "عيون الأخبار" .
بيد أن الحجاج لم يغمض عن فضل فقيه البصرة الحسن البصري، قال بما يشبه التوعد: "أخطب الناس صاحب العمامة السوداء بين أخصاص البصرة، إذا شاء خطب وإذا شاء سكت". والعمامة السوداء عمامة علوية أسمها السحاب، سميت بذلك تفاؤلاً بالاستسقاء ، عم بها النبي علياً بن أبي طالب، فقال الناس أتى علي بالسحاب، وبعد التعارض المذهبي قالوا عن بعض فرق التشيع إنهم يسلمون على علي وهو في السحاب، ويقصدون الغيوم لا العمامة، وقدماء الصابئة اعتقدوا بالسحاب بيوتا للملائكة، ولا زال العوام يفسرون الرعد أنه عراك بين الملائكة.
عاش فقيه البصرة مواقف القلق والخوف في كل يوم يمر به من أيام ولاية الحجاج على العراق. فبعد جرأة هذا الوالي على الفقيه الجليل سعيد بن جبير، والمتكلم معبد الجهني وعلماء آخرين ما يمنعه من الفتك به. في كل المواقف كانت لمحة بصر تفرق بين عنقه وسيف الحجاج. قال مرة مناجياً: "يا سامع دعوتي ويا عدتي في ملتي، ويا كاشف كربتي وشدتي ويا راحمي مولي نعمتي، كفني شره وشر كل ذي شر، وعافني من الحجاج وحزبه وأشياعه وجنده، وصرف عني بقدرتك ما يحاوله وكف عني أذاه وشره، ولا تجعل علي سبيلا يا رب العالمين".
وحصل أن نقل إلى الحجاج ما تمتم به الحسن البصري خلال افتتاح قصر الخضراء في واسط لبعض الحاضرين قوله: "قد نظرنا يا أخبث الأخبثين وأفسق الفاسقين فأما أهل السماء فمقتوك وأما أهل الأرض فأغروك، أبى الله للميثاق الذي أخذه على أهل العلم ليبينه للناس ولا يكتمونه". حينها وبخ الحجاج خاصته من أهل الشام لسكوتهم عما حصل واصفا الحسن البصري بالقول: "ليقومن عبيد من عبيد البصرة ويتكلم فيما يتكلم ولا يكون عند أحد منكم تغيير ولا نكير"، ثم نادى: عليَّ به؟ وأمر بالنطع والسيف، لكن الحسن لم يملك جرأة سعيد بن جبير حتى يقول للحجاج ما قاله سعيد بوجهه: "عجبت من جرأتك على الله وصبر الله عليك"!
وهذا ما يقوله اليوم أهل العراق بعد أن صبر الله خمسة وثلاثين سنةً يأتي الفرج من خارج الحدود، من مكان ينعت بدار كفر وحرب بينما الأرض التي عاث فيها مَنْ عاث ظلماً وفساداً وسفكاً للدماء تصبح دار إيمان وهجرة عند المتعالين بالقسوة على "لا إكراه في الدين"؟!
لم تفارق صورة ابن جبير عين الحجاج، بعد أن قطع صاحب عذابه رجليه، فمات وهو يهلوس بعبارة ندم متأخرة: "مالي ولسعيد بن جبير"؟ أقول: يخطأ مَنْ يعتقد أن القسوة هي ذروة الشجاعة بدلاً من ذروة الجبن المستتر في الروح، ففي موقف من المواقف التي تتفق عليها الروايات أيضا رغم التشرذم المذهبي، عندما باغتت مجموعة صغيرة من الخوارج دار الحجاج في الكوفة، يقال أنه لاذَ في زاوية من زوايا الدار، وقد خلدت هذه المناسبة بشعر، استشهدت فيه أم البنين ابنة عبد العزيز بن مروان زوجة ابن عمها الوليد بن عبد الملك عندما دخل الحجاج يلقي عليها السلام بطلب منها لتحجبه ببابها منتظراً وقتاً طويلاً.
جاء في الخبر، الذي نقله أكثر من مؤرخ، أن خشيت أم البنين على زوجها الخليفة من إنفراد الحجاج به، فبعثت إليه: "والله لأن يخلو بك ملك الموت أحب إليَّ من أن يخلو بك الحجاج بن يوسف، وقد قتل أحباء الله، واهل طاعته ظلماً وعدواناً". حينها قال الحجاج للوليد: "يا أمير المؤمنين المرأة ريحانة وليست بقهرمانة لا تطلعهنَّ على أمرك ولا تطمعهنَّ في سرك، ولا تستعملهنَّ بأكثر من زينتهنَّ، ولا تكوننَّ لمجالستهنَّ بلزوم فإن مجالستهنَّ صغار وذلة". أعلم الوليد أم البنين بما جرى بينه وبين الحجاج، فطلبت أن يسلم عليها، كما تقدم الحديث، فقالت له: "أما ما أشرت به على أمير المؤمنين من قطع لذاته وبلوغ أوطاره من نسائه، لإإن يكن إنما ينفرجنَّ عن مثل أمير المؤمنين فغير مجيبك إلى ذلك، وأن كن إنما ينفرجنّض عن مثل ما أنفرجت به أُمك البظراء، من ضعف الغريزة، وقُبح المنظر في الخلق والخُلق يا لُكع (الوسخ الأحمق)، فما أحقه أن يقتدى بقولك، قاتل الله الذي يقول وسِنان غزالة الحرورية (زوجة شبيب) بين كفيك (ينسب ابن كثير هذه الأبيات للجعد بن درهم):
أسد عليَّ وفي الحروب نعامة
ربداء تنفر عن صفير الصافر
هلا برزت إلى غزالة في الوغى
أم قلبك في جناحي طائر
صدعت غزالة قلبه بفوارسٍ
تركت نواظره كأمس الدابر
أمرت أم البنين جارية لها فأخرجته، فلما دخل على الوليد قال: ما كنتَ فيه يا أبا محمد؟: قال: والله يا أمير المؤمنين ما سكتت حتى كان بطن الأرض أحبَّ إليَّ من ظهرها". وأم البنين رفضت هدايا بعثها من اليمن إلى دار الخلافة محمد بن يوسف الثقفي أخو الحجاج، وقالت :"قد غصبها من أموال الناس. فسأله الوليد فقال: معاذ الله! فأحلفه الوليد بين الركن والمقام خمسين يميناً أنه ما ظلم أحداً ولا غصبه، حتى قبلتها أم البنين". وهي أخت عمر بن عبد العزيز الذي ظل يلح على الوليد بعزل الحجاج من العراق، وكانت النتيجة أن عُزل ابن عبد العزيز عن إمارة المدينة لأنه كتب للوليد "بظلم الحجاج وسفكه الدماء وما يفعل بأهل العراق وخوفه من عواقبه". وكان يقول في قساة دولته: "الحجاج بالعراق! وأخوه محمد باليمن! وعثمان بن حيان بالحجاز! والوليد بالشام، وقرة بن شريك بمصر، أمتلأت بلاد الله جوراً". وقال في الحجاج: "لو جاءت كل أمة بخبيثها وجئنا بالحجاج لغلبناهم"!
ظل الرعب يطارد الحسن البصري بعد موت الحجاج، خشية من سنة قد تستمر، وبهذا كان يقول: "اللهم أنت قتلته، فقطع سنُّته".
ومن إيذاء الحجاج بن يوسف الثقفي للعراق والعراقيين محاولته في تجفيف الأهوار لزيادة الخراج في ولايته شكا العراقيون من خراب الأرض وهول الضريبة، فحرم عليهم ذبح البقر، لتدفع خراجاً، فقال أحدهم:
شكونا إليه خراب السواد
فحرم فينا لحوم البقر
فكنا كمن قال من قبلنا
أريهما السهى وتريني القمر
أما مؤيدو الحجاج ومؤيدو خلفائه فعدوا تحريم ذبح البقر وتجفيف الأهوار خططاً لتنمية اقتصادية. ترى كيف يكون الحجاج مصلحاً اقتصادياً يسعى لخير العراقيين وهو القائل لهم: "والله لو أمرتكم أن تخرجوا من هذا الباب فخرجتم من هذا حلت لي دماؤكم، ولا أجد أحداً يقرأ عليَّ قراءة ابن أم عبد، ويعني عبد الله بن مسعود، إلا ضربت عنقه، ولأحكنها من المصحف ولو بضلع خنزير". وأشتهر بنعته لهم يا أهل العراق يا أهل الشقاق والنفاق، أبتلى العراقيون بمثل هذه العبارة، فلمحبون ينسبونها للحجاج والمبغضون ينسبونها لعلي بن أبي طالب، لكنها لا لهذا ولا لذاك بل هي لعبد الله بن الزبير يوم وصله خبر مقتل أخيه مصعب بالكوفة. كان الحجاج مؤمناً ومتديناً بطريقته، فلم يعرف عنه أنه صاحب ملاهٍ وقيان وشراب، وتدينه لا يقل عن إرهابيي اليوم، القتل من أجل الجنة، والدماء من أجل الله، كان يقرأ القرآن كثيراً، قال ابن فرعون: "كنتُ إذا سمعتُ الحجَّاج يقرأ علمتُ أنه طالما درس كتاب الله". ورغم توسع ابن كثير في ذكر أخبار عذاب الحجاج وسفكه للدماء إلا أنه يذكر له: "كان يقرأ القرآن كل ليلة".
كانت حرب ابن الأشعث (81 – 83هـ) فرصة أهل العراق بالخلاص من الحجاج، فهي أخطر الحروب التي خاضها، وكاد أمره ينتهي في معركة دير الجماجم بالقرب من بابل، فربما للاسم متعلق بمنطقة الجمجمة أو الجميجمة الحالية، ويحكى أن هوائها أكثر ليونة وبرودة من الأماكن المحيطة بها، ولا تخلو تسميتها من رؤية جماجم القدماء في مقابرها الأثرية، حيث كانت بابل صرة الدنيا.
لقد قدر مستشارو الخليفة عبد الملك بن مروان الموقف، فأشاروا عليه بالتالي: "إن كان يرضي أهل العراق أن يُنزع عنهم الحجاج، فإن نزع الحجاج أيسر من حرب أهل العراق، فانزعه عنهم تُخلص لك طاعتهم، وتحقن به دماءنا ودماءهم". فأخذ الخليفة برأيي مستشاريه، وبعث مَنْ يشرف على عزل الحجاج مع مساواة العراقيين بأهل الشام في العطاء، وكانت هذه إحدى أسباب الخلاف، إضافة إلى دموية الحجاج، وأن يتولى عبد الرحمن الأشعث الأرض التي يختارها من العراق لتكون له مادام حياً. فبعث لتنفيذ هذه المهمة أخاه محمد بن مروان وولده عبد الله بن عبد الملك بجنودهما، وإن قبل أهل العراق بعزل الحجاج كان محمد بن مروان والياً عليهم.
أما الحجاج فلم يأت "أمر قط كان أشد عليه، ولا أغيظ له، ولا أوجع لقلبه منه" فكتب إلى عبد الملك: "والله لئن أعطيت أهل العراق نزعي لا يلبثون إلا قليلاً حتى يخالفوك، ويسيروا إليك، ولا يزيدهم ذلك إلا جرأة عليك، ألم تسمع بوثوب أهل العراق مع الأشتر على ابن عفان، فلما سألهم ما يريدون قالوا: نزع سعيد بن العاص، فلما نزعه لم تتم لهم السنة، حتى ساروا إليه فقتلوه، إن الحديد بالحديد يُفلح". غير أن عبد الملك لم يأخذ بتحذيرات الحجاج، فمضى بالأمر من أجل "العافية من الحرب". مَنْ يدري فربما استخدم الحجاج الطابور الخامس سنُّة بما حصل بصفين من أجل قبول التحكيم، فرفض العراقيون ما تقدم من حل معقول. ولما عرض مبعوثا الخليفة رسالة الخليفة على العراقيين، وأعطاهم ابن الأشعث الخيار بعد أن حثهم على القبول وهم أعزاء أقوياء رفضوا العرض، وجددوا خلع عبد الملك من الخلافة. لقد أوهمهم الطلب بضعف الخصم، وحينها قال المبعوثان للحجاج: "شأنك بعسكرك وجندك فأعمل برأيك، فإنا قد أمِرنا أن نسمع لك ونطيع". وظل الحجاج خمسة عشر عاماً أخرى.
لكل هذا كان اليوم الذي فطس فيه الحجاج يوم السعود والبشائر عند العراقيين، ولا شماتة في الموت. فهذا إبراهيم النخعي، أحد أركان مدرسة الرأي بالعراق، سجد لله وبكى فرحاً لموته، قال تلميذه حماد: "بشرتُ إبراهيم بموت الحجاج فسجد...ما كنت أرى أحداً يبكي من الفرح حتى رأيت إبراهيم يبكي من الفرح". وهو القائل: "كفى عمّي أن يعمى الرجلُ عن أمر الحجاج". مات النخعي مرتاحاً بعد سنة، أي 96هـ. أكثر من هذا قال أبو عمر الجرمي عن يونس النحوي: "أنا أذكر عرس العراق، فقيل له: وما عرس العراق؟ قال موت الحجاج سنة خمس وتسعين". وبعد أكثر من ثلاثة قرون على فطس الحجاج بن يوسف الثقفي يتنصل الشاعر أبو عبد الله الحسين المعروف بابن الحجاج (من شعراء العهد البويهي) من سمييه بالتوضيح الآتي:
ولست بكافر فيحل دمي
ولا الحجاج جدي من ثقيف
كان من المهام العاجلة بعد سقوط عهد الحجاج غير مأسوف عليه أن ينقذ ما يمكن إنقاذه، وأن يعالج خرابه، هذا ما فكر فيه والي العراق الجديد يزيد ابن المهلب، فقال: "إن العراق قد أخربها الحجاج، وأنا اليوم رجاء أهل العراق، ومتى أخذت الناس بالخراج، وعذبتهم عليه صرت مثل الحجاج أدخل على الناس الخراب، وأعيد عليهم تلك السجون التي قد عافاهم الله منها. ولما خرج يزيد بن المهلب بالعراق على الأمويين بايعه الناس على كتاب الله وسنة رسوله، وأن لا تعاد عليهم سيرة الفاسق الحجاج.
قال صاحب "العيون والحدائق": "لما هلك (الحجاج) بواسط قبر فيها، وعفي قبره، وأجري عليه الماء، إذ كان أصحابه يدركون مدى نقمة الناس عليه، فخافوا أن ينبش قبره، وان تحرق رمته". أما ضريح طرف زمانه الآخر الفقيه الحالم الحسن البصري فشاخص، مفتوح لكل الفرق والمذاهب،لم يتأثر بخرابات البصرة المتتالية. عاش الحجاج خمسة وخمسين (40-95هـ) سنةً فزهق فيها ما زهق من الأرواح، عدها الطبري بمائة وعشرين ألف روح، من غير المقتولين في الحروب، واستعمل أنواع العذاب في الخصوم والأبرياء، قتل بعد التعذيب من الشعراء أعشى همدان، رغم أنه قال مادحاً الحجاج وذاماً العراق وأهله في لحظة قتله بقصيدة طويلة منها:
أبى الله إلا أن يتم نوُره
ويُطفي نُور الفاسقين فيخمدا
ويُظهر أهل الحق في كل موطن
ويعدل وقع السيف من كل أصيدا
ويُنزل ذُلاً بالعراق وأهله
لِما نقضوا العهد الوثيق الموكَّدَ
لم يشفع له المدح عند لئيم مثل الحجاج فلا ينسى لهو تحريضه عليه وهو مع ابن الأشعث. ومن المفكرين قتل معبد الجهني، ومن الفقهاء سعيد بن جبير! فكم سيكون ضحاياه لو منحته الدنيا وعاش ما عاشه الحسن البصري (21-110هـ). وإن سمى العراقيون يوم موت الحجاج، كما أسلفنا، بعرس العراق وبكى فقهاؤهم من الفرح، قالت امرأة بصرية في موت البصري وابن سيرين وجرير والفرزدق: "كيف يفلح بلد مات فقيهاه وشاعراه في سنة".

[email protected]