إنني أعتقد أن موضوع (الإسلام والليبرالية) حيوي ومهم، خاصة في هذه الأيام عندما نتحدث عن الدين والحرية بشكل عام، والإسلام والحرية بشكل خاص، وكذلك الإسلام والليبرالية.
لماذا الليبرالية؟ الليبرالية لعدة أسباب، وهذه الاسباب هي التي ستقودنا في النهاية إلى نتائج عملية تمس حياتنا اليومية.
النقطة الأولى التي يجدر البدء بها في هذا السياق، تطرح مشروعية القراءة المختلفة، نحن لدينا فكرة معينة، وهي أن الإسلام أو القراءة الإسلامية هي قراءة واحدة، أو هذا ما يقوله البعض، قراءة محتكرة لنص معين لايأتيه الباطل من أمامه ولا من خلفه، ولكن الحقيقة وحتى تاريخيا إذا أعدنا النظر، نجد أن النص، والنص القرآني على وجه الخصوص، نص مفتوح، قرأته جماعات سياسية وجماعات ثقافية وتيارات فلسفية، كل وفق منهجه ومنطلقه، ولم يكفر بعضهم بعضا، ولم يخطئ بعضهم بعضا، إلا حين تدخل السياسة في الموضوع، ليصبح الدين ورقة سياسية، وتنهدم بعدها انفتاحية النص.
عندما أتحدث عن الإسلام والليبرالية فإنني أحاول أن أعطي شرعية إعادة قراءة النص وشرعية القراءة المختلفة، وهذا المجال هو ما أعتقد أنه سيفتح باب الحضارة.
أعتقد أننا نعيش، أو يجب أن نعيش عصر تدوين جديد، كي نعيد للنص نقاءه وانفتاحه، فالتدوين القديم كان متعلقا بمشاعر وقضايا تخص ذلك الوقت، ولقد عمل السلف ما بوسعه ولم يقصروا في ذلك، فقدموا أطروحاتهم واجتهاداتهم، ولكن هذه الاجتهادات لم تعد تصلح لنا، لأنها متعلقة بزمن غير هذا الزمن، ومكان غير هذا المكان.
النقطة الثانية، هناك حقيقة محورية في حياتنا ولا يمكننا نفيها، وهي أن الدين في الحياة العربية عموما، هو الجوهر وهو المحور الأساسي، سواء شئنا أم أبينا، وسواء كان الفرد إسلاميا أو علمانيا أو غير ذلك، فهذا الدين هو مرجعيتنا، ولكن يجب أن تكون هذه المرجعية قادرة على استيعاب العصر والواقع ومن خلال النص، إننا لا نتجاوز النص، بل نعيد فتحه إن صحت العبارة.
النقطة الثالثة، إننا نعيش اليوم في عالم متغير، يجب علينا أن ننخرط في هذا العالم، ويجب ان نتعاون معه ونمتزج به، الغريب انه بالرغم من مرور 100 أو 200 سنة على عصر النهضة، أجد ان الأسئلة المطروحة في ذلك الوقت هي نفسها المطروحة اليوم، بل على العكس، عندما أقرأ للكواكبي والطهاطاوي ومحمد عبده وخير الدين التونسي، أجد أن أطروحاتهم وللأسف الشديد متقدمة جدا على ما نطرحه في زمننا، فما هي مشكلة هذه الأمة؟ هناك أمم قامت وارتقت وتغيرت، وأمم تقدمت في علم الاقتصاد والسياسة والاجتماع، إلا نحن، ما زلنا نطرح نفس الأسئلة، مثل لماذا تقدم الغرب وتخلفنا، ما هي علاقة الدين بالدنيا، وغيرها من الثنائيات القاتلة، الشرق والغرب والأبيض والأسود، لا أمتلك جوابا كاملا للمأساة التي نعيشها، بينما جميع الأمم مختلفون عنا، فالكوريون مثلا عام 1952م كانوا من المتخلفين إذا ما قورنوا بالعالم العربي، ولكن انظروا إلى كوريا الآن وانظروا إلينا، انظروا إلى ألمانيا وإلى غيرها وغيرها، تصوروا أنه في عهد محمد علي، أرسلت اليابان إلى مصر وفدا لدراسة تجربة محمد علي في مصر واكتسابها، قارنوا اليوم بين الحالة المصرية واليابانية، فما العلة في هذا كله ؟!
نحن نعيش في عالم متغير لن ينتظرنا ولن يخضع لمطالبنا، نحن قد نعتقد في أنفسنا أننا نعيش في هذا العالم، ولكن بالنظر إلى الإحصائيات والأرقام، فحقيقة الأمر وإن آلمنا هذا الشيء وأشعرنا بالمرارة، إننا لا شيء في عالم اليوم، لا اقتصاديا ولا اجتماعيا ولا سياسيا، حياتنا الثقافية بالذات ساكنة، العقل العربي بالذات ساكن، إنه عقل غير قادر على التعامل مع المتغيرات أو استيعابها، لأنه خضع خضوعا كاملا للنصوص الجامدة، وبالتالي أسرنا نفسنا في هذه النصوص، رغم أن النصوص نفسها أمرتنا ألا نكون اسراها.
النقطة الخامسة، حين أقول ليبرالية، فإنني أتحدث عن مفهوم جوهري ومحوري، ألا وهي مسألة الحرية، الحرية كما يجب جزء لا يتجزأ من الدين، بل ولا يستقيم دين دون حرية لأنه قائم عليها، وحين يتحدث الدين عن العبودية فإنه يتحدث من طرف آخر عن الحرية، فعندما يقال العبودية لله، فإنه يعني تحرر الإنسان من الأمور الدنيوية ليكون قادرا على التحرك بحرية، فالعبودية إذن بالمفهوم الديني هي الحرية.
النقطة السادسة والأخيرة مرتبطة بعملية وجودنا في عالم به متغيرات عديدة، فنحن نعيش في دول حديثة، أي مجتمعات معقدة بها تيارات مختلفة، سواء كانت سياسية
أو ثقافية أو اجتماعية وغيرها، وتوجد متطلبات مختلفة، بإيجاز العبارة نحن نعيش في مجتمعات تعددية، ومآل التعددية إما الصراع أو التنافس في إطار سليم، فإذا تركت دون تنظيم أو مفهوم ودون أرضية مشتركة، فإنها سوف تنتهي إلى الصراع، ولكننا نستطيع أن ننظم بحيث نكون دولة حديثة منظمة بما لا يسمح لهذه التعددية أن تتحول إلى صراع، إن حجر الزاوية في هذا الإطار هو حرية الجميع في أن يسعوا إلى ما يشاؤون بشرط أن لا تتعارض حريتهم مع حرية الآخرين، وهنا يكمن جوهر الليبرالية.
إذن لا دولة حديثة دون ديمقراطية، ولا ديمقراطية دون تعددية، ولا تعددية دون ليبرالية، ولنا الخيار، هل نريد العيش في دولة حديثة تتفاعل مع العالم المتغير أم لا تريد ذلك؟ أما إذا كنا نرغب في أن نكون مجرد متحف من متاحف التاريخ، فهذه نقطة أخرى.
في ظل هذه الأسباب علينا أن نأخذ مفهوم الديمقراطية نفسه، هناك الكثير من مفكرينا السابقين تساءلوا لماذا لا نأخذ بالديمقراطية ولا نطبق النظام السياسي الديمقراطي؟ ولكن بدون أن نصل إلى الجذور الثقافية والفلسفية للديمقراطية، فإننا لن نستطيع تطبيق ديمقراطية سليمة، فالديمقراطية ليست انتخابا ولا تصويتا ولا صناديق اقتراع، هي في المقام الأول قيم ثقافية، قيم التسامح والحرية والفردية، فإن لم نعرف هذه القيم ولم تترسخ عقلنا، فإن أي نظام سياسي سوف نأتي به لن ينجح .