تردد في الاخبار بأن وزراء خارجية الجامعة العربية يزمعون اللقاء لبحث مسألة تمثيل ما اسموه بـ "سّنة العراق" في السلطة الجديدة، وتتحدث اخبار اخرى عن طلب امريكي لتوفير حصص لسنة العراق في الحكومة المقبلة، ويتحدث حارث الضاري وغيره من هيئة العلماء اياها عن انتخابات ناقصة بغياب السنة، في حين ينسحب محسن عبد الحميد و"اخوانه المسلمون " من الانتخابات في خطوة وصفتها الصحافة بانه غياب لشريح كبيرة من "سنة العراق" عن العملية الانتخابية.. وإن كانت هذه المهازل معقولة من الاعلام العربي النائم في العسل منذ عقود، فإنه من غير المقبول ان يتبنى الاعلام العراقي المطبوع والالكتروني، ومن بعده المسؤولون العراقيون، نفس هذه اللغة الطائفية المقيتة مكررين الهراء عن سنة العراق وشيعة العراق وهلم جرا.

ولا ادري من خوّل هيئة الضاري وحزب عبد الحميد وعصابات قاطعي الرقاب في الفلوجة الحديث باسم سنة العراق، ولا اذكر منذ متى كان سنة العراق تكتلات اثنية معزولة في مدن محددة، فالسنة، مذ رأينا النور، يعيشون في جميع انحاء العراق شأنهم شأن الشيعة وغيرهم، ولا اذكر نفوذا دينيا أو معنويا على السنة للهيئة المذكورة قبل سقوط النظام لسابق، ولم التق يوما بتكتل كبير للإخوان المسلمين العراقيين الذين شتت صدام شملهم منذ زمن طويل، كما لا ارى منطقا في "اكذوبة" غياب السنة عن العملية الانتخابية فهم ينتشرون عبر القوائم وسيشاركون بملايين الناخبين عبر تسميات ولافتات انتخابية مختلفة قد لا تكون طائفية كما يأمل البعض. ولا يغيب عن الجميع بان للسنة نخب سياسية وثقافية واكاديمية متميزة بعيدة كل البعد عن دهاليز الضاري والاخوان ويحلمون ، كما اقرانهم من الطوائف الاخرى، بالعراق الحر الديموقراطي العصري.

واذا اردنا تسمية الاشياء باسمائها بعيدا عن العواء الاعلامي، فان غرض وزراء الخارجية العرب والهيئة المذكورة والاخوان وعصابات الارهاب (التي لا تحتمل تسمية اخرى في ضوء ما تفعله على الارض يوميا حتى يثبت العكس) وكل من يؤيدهم من قوى دولية باتت مفضوحة، ليس بالتأكيد حقوق "سنة العراق" في المشاركة في السلطة وانما حقوق "شيعة صدام " في العودة اليها التي تبدو بعيدة المنال يوما بعد يوم، فاشاعات عروض التفاوض مع البعث وابراز البطولات الاعلامية لصدام وعصابته السجينة والتصريحات عن براءة البعث من جرائم "افراد من النظام السابق" كلها تصب في نفس المصب، ويبدو ان الرد الطائفي هو اخر ما تبقى لمحاولة اعادة الساعة الى الوراء وادخال العراق في اتون جدل طائفي قد ينتهي نزاعا مدمرا وبتسوية مفروضة تنتهي تقسيما سياسيا أو فعليا..

فدرالية الجنوب

وعلى الجانب الاخر، تأتي خطوات لا يستطيع المرء قياس مدى اخلاصها ، من قبيل اعلان فدرالية الجنوب ، في توقيت لا يحسد العراق عليه احد. فالتقسيم الفدرالي الاداري قضية استراتيجية عراقية عامة تبحث في البرلمانات والهئيات المختصة بعد اقرار الدستور ، وليست قرارا تتخذه مجموعة اشخاص مستفيدة من فراغ سياسي يسمح لاي كان باعلان ما يشاء. وعلى اعتبار اخلاص السادة المعلنين في شعارهم لا للتقسيم لا للانفصال لا للتبعية للاجنبي، فإن منتهى الاخلاص كان ان يتم ذلك الاعلان بعد اقرار الفدرالية الادارية من قبل الجمعية الوطنية المنتخبة وتحديد اسسها بمشاركة الجميع. أما العمل على تكوين كيانات داخل العراق تحت اية مسميات كانت فلن يخدم الا اللاعبين على وتر الطائفية وسيف التقسيم الذي يشحذون به همم دول الجوار وغير الجوار لاجهاض الحلم العراقي. وتدخلات "دول الجوار" هذه ليست هراء اعلاميا، فتاريخ هذه الدول غربا وشرقا وشمالا وجنوبا حافل بالانجازات الاستخبارية والاعيب الطرقات الخلفية، تشترك في ذلك سوريا وايران وسوريا وتركيا والاردن وغيرها.

انتخابات وانتخابات..

لقد تراجعت تدريجيا اسطوانة "عدم شرعية الانتخابات تحت الاحتلال" على المستوى العربي لتحل محلها اسطوانة "عدم شرعية الانتخابات بغياب السنة" ، في مثال واضح لتخبط الذهنية العربية المزمن. فقد توقف الحديث عن الانتخابات تحت حراب الاحتلال في العراق عندما انطلقت حمى الانتخابات الفلسطينية البلدية والرئاسية بمشاركة حماس ذاتها ، فتذكر العرب بأن فلسطين هي الاخرى تحت الاحتلال، بدون ابداء الاسباب حول شرعيتها هنا وعدم شرعيتها هناك، لذا تفتق فكر الهزائم التاريخية العتيد هذا عن مسألة السنة، وغدا يتفتق عن غيرها وغيرها على طريق اجهاض اي تغيير داخل العراق لا يؤدي الى عودة "الحزب القائد" الى السلطة من الباب الخلفي ولو عبر عباءة الاسلام المتطرف لتبدأ عملية الانتقام..وقد وضع بن لادن اليوم النقاط على الحروف في ما بثته الجزيرة سيئة الصيت عن تكفير كل من يشارك في الانتخابات في دعوة عامة لقتل ملايين العراقيين.

ولا ادري ان كانت السلطات في العراق تنوي فعلا تأجيل الانتخابات، ولا ادعي المعرفة ببواطن الأمور لقياس مدى التدخلات الخارجية في الشأن العراقي، ولكنني استطيع ان ارى ان بعض العراقيين، بنزقهم الطائفي الذي لم تصقله الوطنية الغائبة وبولائاتهم المذهبية والايديولوجية، وبعودة سيادة "الأنا" المذهبية، على وشك اهدار فرصة تاريخية قد لا تتكرر لبناء وطن جديد قائم على اسس عصرية بعد سقوط اعتى فاشية عربية عرفها التاريخ.