الذاكرة العراقية مدماة، ومفزوعة من مشاهد الجماجم والعظام المبعوثة من قبورها قبل أوان بعثها يوم القيامة. مدماة لأكثر من أربعين حولاً بخليط قاني نزفه العراقيون من كل أجناسهم وأديانهم ومذاهبهم، لكن زاد المعيار على هذا المذهب أو تلك القومية لعناد تاريخي مع الظلم، ولشعورها بالخذلان من وطن أعطته زينة كل ما لديها، وفلحت أرضه بنخيل أكدي، وبتمن بابلي، وبتبغن يسكن أوجاع النفوس، وما أن يأتي وقت الحصاد يقال جنوب مشاغب وشمال متمرد، ويرفع شعار "لا شيعة بعد اليوم"، "إبادة الكرد".
أقول أي بلد بلغت مقابره الجماعية المئات، وأي بلد تحول إلى سجن يتنفس فيه أهلوه غازات سامة، وأي بلد يوسم دفانو الأحياء فيه بنياشين النصر على مواطنيه، وأي بلد تدفن فيه الأم ووليدها وهو يحلم برضعة من ثديها، وإلى جانبها في القبر قدر راحت تملأه ماءً بعد تجفيف الأهوار، هذا آخر ما اكتشفته المياه وهي تعود إلى منطقة المجر بالعمارة، وأي بلد تعب الجلادون فيه من تحريك حبال المشانق أو إطلاق الرصاص فاستخدموا الأسلاك لتفجير الأجساد في القبور. لقد حلت بالعراق فنون من التعذيب وطرق من القتل، تبدأ بالأسواط الكهربائية ولا تنتهي إلا بمطاحن أو ثرامات البشر؟
كل هذا والبعثيون مازالوا طلقاء، كيف لا وهم أهل مكة لا يذلون ولا يحاسبون، ومَنْ دخل ديارهم فهو آمن، ولا يحتاج مذنبهم التعلق بأستار الكعبة، من حقهم القتل في السلطة وخارجها، ومن حقهم أن يتولى الدفاع عنهم محامون كذابون، خصاونة وحمارنة، يسلمون عليهم بإشارة الإمامة، فهم سادات البلاد، عُذبوا بمنع الصحف وتقليل كميات الحلويات عنهم. بعبارة أخرى سيشهد المقبورون جماعياً والمنفوخون بغاز الخردل بحلبجة، والمقتولون بطائرات الأنفال على براءة البعثيين، وكل مقتول مدان لأنه لم يدفع ثمن رصاصة قتله. هذا هو المشهد الحقيقي بالعراق، ونحن نرى عودة القتلة إلى مراكز الدولة العلمية منها والعسكرية.
وتعالوا إلى قصة استفاد منها اخباريو الحرس القومي، والعرب العاربة، فكتبوا على ضوئها حكاية الأبدان المنسوفة قرب المحاويل وكركوك والبصرة وأبو غْرَيب والدجيل أنها أوهام. أي حسب تحقيقات الخصاونة، والمحققين المجتمعون في ديوان خير الدين حسيب ببيروت، أنها أبدان بعثيين قتلهم المتمردون الأعاجم. ولو كان الزمن يتحمل الاعتقاد لقالوا قتلتهم الجن، فقد سبق أن اتهمت الجنيات بقتل زعيم الخزرج سعد بن عبادة. والدليل أن شخصاً يدعى ابن جريج سمع عطاء يقول: سمعت الجن قالت في سعد بن عبادة(الاستيعاب في معرفة الأصحاب):
قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة
رميناه بسهم فلم يُخط فؤاده
وسعد بن عبادة هو سيد الخزرج، قيل فيه وسعد بن معاذ سيد الأوس:
فإن يسلم السعدان يُصبح محمد
بمكة لا يخشى خلافَ مُخالف
وهو الذي حمل راية الفاتحين ودخل بها مكة، فقال: "اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل المحرمة". فأُخذت منه الراية وسلمت لولده قيس، وأصبح بيت أبي سفيان مأمناً. ويوم السقيفة طالب سعد بحقه بالخلافة، وقال لأهل السقيفة: منكم أمير ومنا أمير، فأتفق من قريش الأمراء ومن الأنصار الوزراء، حسب الحديث الذي نقل أن النبي قاله لحظة وفاته "الأئمة من قريش"، و"قدموا قريشاً ولا تقدموها". لكن سعداً غاب عن المدينة وظهرت جثته بالشام، وجدت خضراء متعفنة في مغتسله أي حمامه، وقد ذاعت الجنيات الخبر بالشعر الذي ذكرناه، قتلنه لأنه بال واقفاً. هذا هو التاريخ بداية من السقيفة وحتى اليوم دماء وأكاذيب ومؤامرات وغزوات وغنائم. والشيء بالشيء يذكر أن رواية تؤكد صلة سعد بن عبادة بدُليم، مؤسس القبيلة المعروفة، وأن زوبع، التي ينتمي إليها رئيس هيئة علماء المسلمين حارث الضاري، إحدى فروعها، وزوبع أو زوبعة اسم من أسماء الجن، ولمن لا يعلم فحارث هو اسم من أسماء الجن أيضاً أو إبليس بالتحديد، وبطبيعة الحال لا يقاس الأشخاص بالأسماء، فبين آل عبد المطلب هناك أكثر من حارث.
أرى ستعود السقيفة ثانية، وسيتهم الجن بفعلة المقابر الجماعية والأنفال، وبالقتل الذي يجري على الهوية اليوم، بمباركة هيئة علماء المسلمين تحت تسميات المقاومة والخونة. فالجن لفنونه وحده القادر على اقتحام ضريح الإمام علي بن أبي طالب، ووحده القادر على ملاحقة آل الحكيم فرداً فرداً، ووحده المسؤول عن ملاحقة مَنْ يفكر بانتخابات، لأن البعثيين وهيئة علماء المسلمين يريدونها سقيفة، ومثلما حضرت الملائكة لنصرة المسلمين ببدر حضر الجن لنصرة السقيفة، فقتلت سعد بن عبادة.
ولدت هيئة علماء المسلمين خليطاً من بعثيين وسلفيين وزعماء عشيرة، يفاوضون علناً على المخطوفين، ولهم أيدٍ بالفلوجة واللطيفية وبكل انفجار واغتيال، تعبث هذه الهيئة بدماء العراقيين وهي المتحدثة باسم المذهب، وهي لا ترضى بغير عودة البعثيين عبر سقيفة في الظلمة لا انتخابات تحت الشمس. لم تجد هذه الجماعة غير المذهب لعبة تلعبها، فتحقق لها مواجهة العراقيين صراحة لبعضهم البعض، وهي تعلم علم اليقين أن الأرض ضاقت بقبور الطائفة الأخرى، وضاقت السماء بشكواها، وهي تعلم علم اليقين ما ربط البعثيون أنفسهم بمذهب أو طائفة إلا دمروه أو دمروها بجرأتهم على سفك الدماء، بل وما ارتبط الفكر القومي العروبي ككل بمذهب أو طائفة إلا وحولها ستار للمواجهة، وإلا ما مصلحة عبد السلام عارف في النية لتشييد ضريح لمعاوية بن أبي سفيان غير المعاندة الطائفية، وما مصلحة مَنْ أعاد استخدام مصطلح الشعوبية غير الفتنة الطائفية.
أين كان أعضاء هيئة علماء المسلمين يوم حول البعثيون العراق بالكامل إلى مسالخ، وهم يعلمون كم سلخت أبدان من أهل الرمادي وسامراء وتكريت والموصل نفسها. فأين كانوا إعدام الشيخ عبد العزيز البدري، وقتل الشيخ عبد الجبار الأعظمي، لم تحسب الهيئة حساب هؤلاء لأنهما غير سلفيين ومن ضحايا البعثيين، ولو سألتهم مَنْ قتلهما لقالوا ما قاله الإخباريون الأفاضل عن مقتل سعد بن عبادة، أنها فعلت الجنيات.
أذكر هيئة علماء المسلمين، ومَنْ تمترس من الشيعة وراء المذهب أيضاً، بما حصل بكربلاء من أممية عراقية يوم غزا السلفيون من الجزيرة العربية في العشرينيات السماوة ومناطق شيعية أخرى، فقد تجمع ببغداد علماء السنُّة لنصرة مواطنيهم ضد سنُّي آخر. ففي صباح الخامس من نيسان 1922 أجتمع العلماء والوجهاء السنُّة بتكية الخالدية ببغداد، وأفتتح الشيخ عبد الوهاب النائب الاجتماع كاشفاً ما اقترفه السلفيون ضد الشيعة العراقيين، قال: "ما تقولون في هذه الطائفة المسماة بالإخوان، هل ترون وجوب قتالهم وردعهم عن أمثال هذه التجاوزات نظراً لكونهم هتكوا حرمات المسلمين، واستباحوا دماءهم وأموالهم بغير ذنب وتأويل؟"(لمحات اجتماعية) انتخب الاجتماع وفداً يمثلهم بكربلاء حيث الاحتجاج الكبير هناك. وقد أصدر العلماء الفتوى التالية: "ما قول علماء المسلمين الأعلام فيمن يدعي الإسلام ويحكم بشرك مَنْ خالف معتقدهم من جماعات المسلمين مستحلين قتالهم ودماءهم وأموالهم وسبي ذراريهم بغير سبب، وقد هجموا على بلاد المسلمين عداءً وبداءً، فهل يجب قتالهم ودفاعه أم لا؟ أفتونا مأجورين! الجواب والله سبحانه وتعالى أعلم: نعم يجب قتالهم والحالة هذه". كان الموقعون على الفتوى الشيوخ السنُّيون: عبد الوهاب النائب، وعبد الملك الشواف، وإبراهيم الراوي، وخضر القاضي، ومنير القاضي، وعبد الجليل الجميل، وطه الراوي، ونعمان الأعظمي، وعلي القرداغي، وامجد الزهاوي، ومحمد رشيد الشيخ داود، وخليل حسن النقي، وبهاء الدين النقشبندي، واحمد الراوي، ومحمد رؤوف". ووصل كربلاء وفد أهل السنُّة من الموصل متضامناً، وفيه الوجهاء: مولود مخلص، وسعيد الحاج ثابت، وأيوب عبد الواحد، وعبد الله النعمة، وثابت عبد النور، وعبد الله آل رئيس العلماء، وعجيل الياور، ومحمد أغا. ووصلت إلى وجهاء الشيعة وعلمائهم مضابط شاجبة من تكريت والرمادي والشرقاط وكل البلاد السنُّية.
فأين هيئة علماء المسلمين من هذا الزمن، وهذه الألفة الجميلة، وهي تعلن تحالفها اليوم مع السلفية والبعثيين، قتلة محمد باقر الحكيم، وقتلة النجفيين والكربلائيين، ومفجري ضريح علي بن أبي طالب، وقتلة مَنْ يمر زائراً إلى كربلاء والنجف على الهوية، ومقتحمي مقر المجلس الأعلى للثورة الإسلامية لقتل عبد العزيز الحكيم. وبدل التضامن تقوم الهيئة بواجب حماية أعوان الزرقاوي، وتمده بالسلاح والمال ولم تقوم بواجب حتى العزاء لمَنْ شاركهم الوطن لمئات السني، ولم تحتج على إسامة بن لادن وهو يعين الزرقاوي أميراً على بلاد الرافدين، وكأن هذه البلاد مزرعة له وأهلوها من عبيده.
حدث التآلف في العشرينيات والبلاد كانت تحت احتلال أيضاً، وكان الشيعة معارضين بينما كان وجهاء سنُّة موافقين، لكن أمر الدماء واستباحة الأعراض أمره آخر. فماذا لو تأملت الهيئة ذلك التاريخ وتعقبت أثر ذلك الجيل، وشكلت وفدها مواساة للسيد عبد العزيز الحكيم، وشجبت الاعتداء الآثم، الذي لا يراد منه غير الفتنة، وفتح بوابات الطائفية على مصراعيها، مثلما سارعت إلى منافقة جيش المهدي، وسارعت إلى الدفاع عن صدام حسين ببيان وصفته فيه بالرجل المؤمن، الذي لا تجوز إهانته، مختلقة أكذوبة الاعتداء الجنسي عليه، وهي تعلم ما توفر حظ سعيد لقاتل مبير مثلما توفر لصدام حسين والبعثيين من عناية صحية وعناية قانونية ودستورية، مع الإشارة إليه بالرئاسة والإمارة وهو بالسجن من قبل محام دليمي.
لم ير علماء المسلمون حاجة لتأسيس هيئتهم أبان الأنظمة السابقة، فليس للسنُّة من عادة ما يعرف بالحقوق الشرعية، فمَنْ يريد دفعها فخزينة الأوقاف الحكومية مشرعة الأبواب لهم، وأن صوت المفتي كان عالياً ببغداد، أما الشيعة فدفعتهم الظروف إلى تأسيس مرجعياتهم من قبل ألف عام، مرجعيات قدمت الروحي على المادي للتأثير في الأتباع. ولعدم ثقة بين الدولة، منذ العهد الأموي وحتى التاسع من أبريل 2003، أصبح ثواب دفع الحقوق من زكاة وخمس بالنجف لا ببغداد، مقابل ذلك لم تتدخل هذه المرجعية بشأن لا يعنيها إلا نصيحة أو مشورة، فعظم دورها الروحي الخفي، فهي في حل من الدعوة لسلطان بعد كل صلاة جمعة وعيد، وفي حل من تجيش الجيوش، وظلت لا تألف الجلوس على الأرائك، ويقصدها السلطان ولا تقصده، أذانها في جوامعها وأذان الطرف الآخر عبر التلفزيون والراديو.
تغير الوضع بعد عرس العراق، فأخذ الناس يسمعون أذانين عبر مرسلات الإذاعة، فقيل إنها فتنة طائفية، وإن أقترح إلغاء الأذان قالوا إنها دولة علمانية، وكل مذهب يرى أذانه هو أذان بلال الحبشي. ولو وقف الأمر عند الخلاف على رفع الأذان بحي على خير العمل أو حي على الفلاح لهان، فأجهزة فالدولة مستقبلاً لن تملك مرسلات إذاعة وتلفزيون، والكل سيؤذن عبر مأذنته وعبر قناته الفضائية وإذاعته، إلا أن الخشية كانت من تغيير سلوك ما يزيد على ألف سنة، فعند قرب لحظة التغيير عبر صناديق الاقتراع ظهرت هيئة مقاطعة ومعادية ومرجعية مؤيدة ومباركة، والهيئة تعلم أن الطرف الآخر حسب المعادلة المذهبية لا يفوز بصوت في أعالي النهرين، فله الأسافل دائماً، بل وليس كل الأسافل، وتعلم علم اليقين أن لا رجعة لماض تفرضه فيه أذانها ولسانها على الشيعي والكردي، ومن حق المسيحيين أن يسمعوا الناس صوت نواقيسهم، ولم يبق الصابئة والأيزيديون بلا أذان مثلما كانوا لأكثر من ألف عام، ولن يؤذن الكرد والتركمان بالعربية، والعراق أما أن يكون شراكة أو لا يكون لمذهب واحد وقومية واحدة.
فعلام العناد وإسناد أدوات الشر العابثة. أعتقد أن الهيئة بهذا السلوك تجاوزت الإمامين الجليلين أبا حنيفة النعمان ومحمد بن إدريس الشافعي، فأعضاؤها منسوبون لهما، وإن ميلهم إلى ابن تيمية بان ظاهراً، وعلامة ذلك أن تحول جامع أم الطبول إلى جامع ابن تيمية، والرجل لم يولد ببغداد ولم يزرها، والعراقيون لا يتبعون له فتوى أو مقالة، فتشدده غريب على سهولة العراق بشراً وجغرافيا. والنعمان وموسى الكاظم عاشا متجاورين وماتا متجاورين، لا يفصل بينهما سوى ماء دجلة، ومذهب الأول، حسب أبي العلاء المعري "قليل الخلاف سهل القيادِ"، ولا أحد ينفي عن الشافعي قوله:
ياراكباً قف بالمحصب من منى
وأهتف بقاعدٍ خيفها والناهضِ
سَحراً إذا فاض الحجيج إلى منى
فيضاً كملتطم الفرات الفائض
إن كان رفضاً حب آل محمدٍ
فليشهد الثقلان أني رافضي
تعلم الهيئة أن الجن لا سهم لها بقتل العراقيين رجالاً ونساء وأطفالاً اليوم، مثلما لم يقتلوا بالأمس سعد بن عبادة، وتعلم الهيئة لا حديثاً نبوياً بإمامة قريش دون الأوس والخزرج، فكيف تؤمن بحديث إمامة البعثيين والسلفيين مدى الحياة، لكن الناس كما جاء في الحديث "معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا تفقهوا"، فلا الدين ولا المذهب يقلب الذهب نحاساً، فمثلما بين السنُّة صدام حسين وعلي حسن المجيد بين الشيعية سعدون حمادي وحمزة الزبيدي والقتلة من آل الزرقاني، ومثلما للفلوجة وسامراء وتكريت بعثيوها للنجف وكربلاء والحلة بعثيوها أيضاً، والعبرة بمَنْ تفقه وحافظ على معدنه الخيّر. ما أراها أن حال البعثيين والسلفيين مع العراقيين لا كما تظنه الهيئة، بل كما أورد الخطيب في كتابه "الفقه والمتفقه":
الله يعلم أنا لا نحبكم
ولا نلومكم إذ لا تحبونا
[email protected]