أكتب هذه المرثية ورجائي أن لا تتحقق الواقعة القادمة التي تملي عليّ الآن كتابتها.
هي مرثية لمقتدى الصدر الذي أتمنى مخلصاً له حياة مديدة وآمنة وأن لا تصطلمه الحبائل المعدّة له، ومنها تلك الفخاخ التي كان يبذرها الرجل لنفسه طوال عام هو كلّ زمنه (العلمي) و(السياسيّ).
مقتدى الصدر نتاج الشارع العراقيّ بالمعنى الأعمق للكلمة، لم يستره عن هذا الشارع الإخلاد الى سراديب الفقه، ولم يحجزه عن الناس وشؤونهم تحصيل حقوق شرعيّة من زكاة وخمس، فكان بحقّ ابن هذا الشارع بكل ما فيه.
وهو من جيل متديّن لا يشابه بأية حال الأجيال السالفة التي حملت أفكار الصدر الأول تحزباً وثقافة دينية كبيرة، كما انه ليس من صنف الكثرة الكاثرة من تلاميذ أبيه الصدر الثاني الذين استخلصوا تشيّعاً عراقيّاً (لئلا أقول عربيّاً) مخلوطاً بهاجس عرفانيّ لا يخفى، ظهر موارباً عند الشهيد الثاني، وصريحاً عند أتباعه.
مقتدى ومن معه وأبناء جيله ليسوا من هؤلاء ولا من هؤلاء، انه بالأحرى أقرب الى النسخة المطروحة للمتديّن (الشيعيّ والسنيّ على السواء) والتي تتلخص بإشهار الإسلام بوصفه حلّاً ـ مع ما يستتبعه ذلك من شعارات مهيّجة ـ دون إيلاء كثير أهميّة للآليات التي تحفّ بالطريق الموصلة الى هذا الهدف.
الشارع العراقيّ بأعمّه الأغلب لحقته آثار البعث وأعراف صدام من تمجيد للقوة، واتخاذ التغالب طريقاً لمارسة السيّاسة، واعتبار السلاح جزءاً مكمّلاً ليد الرجل، أضفْ الى ذلك الجهل المخزي الذي يكتنف أغلب أبناء هذا الجيل (وبعضه جهل موجّه ومعتنى به من قبل أجهزة النظام البائد، وبعضه الآخر سببه الحصار الذي جعل التعليم في العراق ترفاً).
جيل شبه أميّ لم يستصحب من حقبة الصدرين طروحاتهما بل صورهما الفوتوغرافية فحسب، ولم يبق في ذاكرته سوى الفعل ذي الأثر التحريضيّ (كلبس الأكفان والهتاف) وهو فعل أفاد منه مقتدى على أكمل وجه، ربما ليس لدهاء سياسيّ منه، بل لأنه ـ كأبناء جيله هؤلاء ـ لا يحسن سواه.
السيد مقتدى الصدر من هذا الشارع، بل هو في الصميم منه، إنه رجل الدين الأقرب الى العراقيين من سواه، اذ ندر أن تطابق رجل دين شيعيّ مع (العامة) الى هذا الحدّ، تلك ميزة كبرى له، وهذا سرّ قوته والتفاف الآلاف حوله.
بل أن التيار الصدري بمجمله تأسست قوته على هذه الميزة (منذ الصدر الثاني): توجيه النقد الدائم للمرجعية (التقليدية) التي ثبتت في أذهان الصدريين كمؤسسة لجباية الضرائب والانشغال بتقبيل الأيدي والنظر الى العراقيين كـ(معدان). قيل ان مرجعاً كبيراً أطلق على الصدر الثاني لقب مرجع المعدان!
وقبله كان الصدر الأول كثير التشكي من المرجعية (ومن سمع أو قرأ محاضرته المسماة "حبّ الله وحبّ الدنيا"، يجد انه هو أوّل من وضع قطار نقد المرجعية التقليدية على السكّة التي وقف السيد الصدر الثالث مقتدى في آخر محطاتها).

انشغل العراقيون طويلاً (بفضل الصدر الثاني) بالفصل بين المرجعيتين الجديدة والقديمة بناءً على محرضينِ، أولهما عِرقي والثاني سياسي. فتارة كانوا يصفون التقليديين بالفرس في مقابل عروبة الصدريين، وأخرى يسِمونهم بالصمت في مقابل ألسنة الصدريين الناطقة. وفي كل ذلك كان التيار الصدريّ يقترب أكثر وأكثر من ابن الشارع الشيعيّ (الذي سئم كرادلة المعممين الراطنين بالفارسيّة)، إلى أن بلغ الاقتراب أوجه في مشهد الصدر الثاني مكفّناً ثم مستشهداً ليغدو رمزاً كبيراً ومنصةً لاطلاق اسم صدر ثالث هو ابنه مقتدى الذي كان أشدّ تطابقاً مع هذا الشارع .

ثبت اسما الصدرين الكبيرين في وجدان كل عراقيّ، لكنهما (بسبب استشهادهما قبل نضج ما سعيا من أجله) لم يتمكنا من ايقاع أثر سياسيّ ملموس، وأحسب ان هذه النهاية هي التي تنتظر الصدر الثالث أيضاً.

له أخطاؤه؟ هذا صحيح لكنها في المحصلة الأخيرة أخطاء جيل عراقيّ لم يعرف السياسة الا اقتتالاً وتغالباً، جيل أدمن عقاقير التحريض (التي كانت كل عدّة البعث البائد، كما هي اليوم عدّة القوميين والاسلاميين كافة)، جيل لم يكن التدين عنده ثقافة (أو حتى تحزباً) بل أداة خروج من التهميش الى الواجهة، ولأنه جيل لم يأخذ من العلم الا النزر اليسير فقد توسل بالقوّة وحدها لتحقيق هذا الخروج نظير ما يفعله اسلاميو ابن لادن أو بعثيو المقاومة.

لن يسأل أحد من العراقيين ـ بعد استشهاد الصدر الثالث لا قدّر الله ـ عن المشروع السياسيّ للشهيد مقتدى الصدر، كما لا يسأل أحد اليوم من محبيه عن هذا المشروع.
لن يسأل أحد عن سرّ تقلباته الكثيرة: خذوا عداءه لايران ثم تحالفه غير المتكافئ معها مثلاً.
لن يتم السؤال خصوصاً عن جدوى مقتل آلاف العراقيين معه وبسسبه.
لن يقال: ان القائد الديني لابدّ له من أحدى خصلتين أو كليهما : العلم والحنكة السيّاسية. والرجل كان خلواً منهما معاً، مثله مثل الأعمّ الأغلب من متديني شيعة العراق اليوم.
سوف يثبت اسم هذا السيّد الشجاع في وجدان كل عراقيّ كما ثبت اسما الصدرين من قبلُ، وسوف يكون هو وذكراه خيرَ معبّر صادق عن الشارع العراقيّ بأبرز ما فيه.

سيمجَّد طويلاً وتقال في حقه المراثي ـ التي استبقتها أنا بهذه المرثية المبكّرة ـ.
لكنْ
قليلون جداً يعرفون ان هذا الرجل كان يمكن له ولاتباعه أن يكونوا فاعلين ومؤثرين يقف العالم بانتظار كلمة منهم لولا انهم انساقوا وراء تغليب الشعار على الفعل السياسيّ، لولا ان قائدهم كسب قلوبهم من خلال عدائه للجميع (أحزاباً وقوى سياسية ودينية).
لن يرضى أحد عن هذه الكتابة، وسأوصم بالغلظة اذ أتكلم عن شهادة رجل لم يزل حيّاً يقارع أعداءه، هذا اذا لم أوصم بالخيانة.
لكني أكتب الآن وكلّي أمل وأسى.
أملي أن لا يتحقق ما اخشاه
وأساي أني أعرف أننا بانتظار صدر ثالث ستُكتب من أجله المراثي، بعد أن كُتبت في شجاعته المدائح دون تدبّر!


http://aqwas.com