كان صدام حسين يردّد طول الوقت، و المسدّس في حزامه، والحرّاس الشخصيون المدجّجون بالسلاح يحيطون به في جانب أنه لا أحد يضاهيه في حبه للعراق غير نبوخذ نصر. و باسم ذلك الحب "المجنون" لبلاد الرافدين آقترف تلك الجرائم الفظيعة التي ستظلّ راسخة في ذاكرة العراقيين عهودا طويلة أخرى. و قبل صدام حسين، تقاتل العراقيون و ذبحوا بعضهم بعضا، و كل طرف منهم آدعى مقسما بأغلظ الايمان أنه اضطر الى اعلان الحرب ضد الطرف الآخر لأنه يحب العراق أكثر منه. و اليوم و بعد أن سقط صدام حسين و نظامه البغيض، برزت على السطح كمثل الفطر، حركات
و تنظيمات بمختلف الألوان و التوجهات، و جميعا راحت ترتكب المذابح تلو المذابح،
و المجازر تلو المجازر زاعمة ان حبها للعراق هوالدافع الوحيد لذلك. و الشعب العراقي الذي أرهقته الحروب الطويلة، أصبح رهينة في أيدي هؤلاء الذين يصيحون عاليا انهم يحبون بلاده أكثر منه، لذا هم يبيحون لأنفسهم التحرك و التكلم باسمه، بل و يعلنون بفصيح العبارة انهم ممثلوه الشرعيون ! و الحقيقة أن المطامح و المصالح الشخصية هي التي تحرك هؤلاء، هذا اذا لم يكونوا لعبة في أيدي دول و قوى أجنبية معادية للعراق، ترغب في ان يظلّ مريضا، واهن القوى حتى تتقض عيه في الساعة المناسبة، أوهم من أولئك الاصوليين الظلاميين الذين تحركهم نوازع شريرة، و لا هدف لهم غير زرع الفتنة بين العراقيين، و تقويض كل ما يمكن أن يساعد على بناء دولة حديثة
و قوية.
لقد أثبتت الأحداث المؤلمة التي عاشها الشعب العراقي على مدى الأربعة عقود الاخيرة ان أعداءه و أعداء بلاده الحقيقيين هم أولئك الذين يبالغون في حبهم له في الظاهر، لكنهم في الخفاء يعدون المخططات الاجرامية للوصول الىأهدافهم الدينئة. و ما أظن أن الذين يتبارون في حبه الآن يختلفون في شيء عن عشاقة المزيفين السابقين الذين اوصلوه الى الأوضاع المزرية التي يعيشها راهنا و على جميع المستويات. لذا هو ليس بحاجة لا اليهم و لا الى كل من يسعى الى توريط شعبه في المزيد من المذابح
و المجازر و الضغائن و الاحقاد. فالذين يحبونه حبا صادقا و حقيقيا هم الذين سيبذلون في المستقبل كل ما في وسعهم لكي يضمدوا جراحه الثخينة، و يؤالفوا بين مختلف طوائفه و قومياته أو يعيدوا بناء قراه و مدنه التي دمرتها الحروب المتلاحقة، و يربوا الاجيال الجديدة على قيم الحرية و الديمقراطية و التعددية، و على كل القيم الانسانية التي فكّك اسسها نظام صدام حسين. هم الذين سيعيدون الحياة لتلك الحركة الحداثية العتيدة التي عرفها العراق قبل ثورة 1958 و التي أرست دعائم حركة ثقافية و أدبية
و شعرية و فنية مستنيرة لم تلبث ان عصفت بها الرياح العقائدية و الايديولوجية التي هبت على بلاد الرافدين في ما بعد. هم الذين سيضعون أسس دولة حديثة بالمعنى الحقيقي للكلمة تكون مثالا يحتذى في منطقة الشرق الأوسط التي لا تزال تعيش و كأنها منقطعة انقطاعا كليا عن سيرورة التاريخ. هم الذين سيحبون العراق حبا بريئا تماما مثلما أحبه شعراؤه المتوزعون في المنافي، أو الذين قضوا حسرة و كمدا وهم بعيدون عنه، فلا يبتغون من وراء حبهم له لاجاها و لا مالا و لا سلطة و انما عافيته و تقدمة و أمنه
و استقراره و نهضته… أفلا يستحق هذا بعد كل الفواجع و المحن التي عاشها ؟