أفشل الأزهر قبل أيام، ونحن في السنة الرابعة من الألفية الثالثة، مقترح مساواة النساء بالرجال من حيث الإرث، ودافع عن هذا القرار جماعة من بقية إخوان المسلمين بذريعة أن الإرث يوزع على الأسرة لا الأشخاص، فللزوجة حصة من ميراث أبيها وللزوج حصتان من ميراث أبيه، فيدخل الأسرة ثلاث حصص، ولأن الرجل يتحمل الإنفاق. لكن المدافع عن إفشال المقترح لا يفيدنا بشيء عن أمر النساء المطلقات والأرامل والعوانس وحتى النواشز؟ ومقابل خذلان الأزهر قامت إيران وهي الدولة الدينية بتشريع المساواة في الإرث، فقبل أربعة شهور صوت مجلس الشورى الإيراني على قانون يساوي بين النساء والرجال في الميراث، وبموجب القانون الجديد بات يحق للمرأة عند وفاة الزوج وفي غياب وريث آخر أن ترث مثل الرجل جميع ممتلكات الرجل"(الشرق الأوسط 11 أيار 2004)، وعند الشيعة خطوات تقدمية بشأن الإرث لا مجال لذكرها.
إن ما بين الأزهر بمصر ومرجعية إيران هو مقولة "سبحان مَنْ جعل مصر الشيعية سنُّية وإيران السنُّية شيعية". لقد كان الأزهر في الزمن الفاطمي إشعاع علوم وفلسفة وانفتاح على الحضارات الأخرى، حتى جاء صلاح الدين الأيوبي فحنى يده بقتل المتصوف شهاب الدين السهروردي، ومنع الجدل والعلم، وأي مذهب ماعدا المذاهب الأربعة، والميل كل الميل للمذهب الشافعي. وما يوجد من تشدد في الأزهر ضد الثقافة والفكر ما هو إلا بقية تعصب هذا السلطان. هذا التمايز بين المصريين والإيرانيين، وهما مسلمون جميعاً، يضعنا أمام حقيقة قالها النبي محمد وصدق فيها "إنما بعثتم ميسرينَ ولم تبعثوا معسرين"، وهذا يختصر جدلاً طويلاً بشأن التطبيق الصارم للشريعة، وضرورة الموازنة بين تطور الزمن والنصوص، فماذا يفهم من الحديث عن خادم النبي أنس بن مالك وعائشة "أنتم أعلم بأمر دنياكم" ، وحديث آخر يقول: "ما تقولون إن كان أمر دنياكم فشأنكم وإن كان أمر دينكم فأليَّ"، و"إن الدين يسرٌ ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه"، و"إياكم والتعمق في الدين فإن الله قد جعله سهلاً"، والتعمق هنا لا يقصد به العلم بقدر ما يقصد به التزمت، لأن وجدنا أعمق العلماء بالدين هم الأكثر يسراً وسهولة من المتحزبين به. غير أن العمل بهذه الموازنة، ومعاملة النساء ليست خارج الأمر بالسهولة ومصالح الدنيا. فلماذا هرع الإخباريون والرواة إلى وضع حديث مثل "لا تعلموا نساءكم الكتابة ولا تسكنوهم الغرف، ولكن علموهنَّ سورة النور"(ابن الأخوة، معالم القربة في أحكام الحسبة) بينما يحاولون حجب حديث مثل "إنما بعثتم ميسرينَ ولم تبعثوا معسرين"، وحجب رواية صلاة النصارى بالمسجد النبوي، فأيهما أكثر فائدة للدين والدنيا، وتعميق المحبة بين البشر؟
يوهم نفسه مَنْ يقول: إن ما يمارس على النساء منسجم مع طبيعتهنَّ أو خلقتهنَّ، بقدر أن الممارسة الطويلة غير السوية معهنَّ اعتقدنَّ هنَّ بوجوب قيودهنَّ، فمحاولة التحرر منها يعد خروجاً عن الدين والعرف الاجتماعي، ويالها من مغامرة! ويرى متدينون أن الفقه الإسلامي أنصف المرأة تمام الإنصاف حتى أتاح لها حق المطالبة بثمن رضاع ابنها من أبيه، لكن هؤلاء نسوا أن هذه الممارسة تحول الأم إلى مجرد موظفة، لا تملك من أمر ابنها شيئاً، وليس لعاطفة الأمومة من أثر فيها، وهي لا تعني غير التبعية المعيشية، وهنا تأتي أهمية الاقتصاد في تحرر النساء من الهيمنة، فأي امرأة تمكنت من العمل تطلب رضاعة ابنها من أبيه، وأي امرأة في المجتمعات التي تضمن للطفل المعيشة من توفير اللبن إلى ما يعرف بدخل الطفولة ثمن اللبن من أبيه، مثلما هو الحال في البلدان الأوروبية؟ صحيح أن يكون هذا ساري المفعول في زمن كان النساء فيه ملازمات بيوتهنَّ، لا يعملنَّ لكن تغير الزمن لا يقبل مثل هذه الحلول، ولولا توافق الفقه مع قوانين العشيرة لكان للمرأة في الريف حقوق مثل الرجل، لأنها تعمل مثله في الزراعة والرعي إضافة إلى شؤون الدار. أن مَنْ يلجأ إلى القول بحقوق المرأة المثالية في الفقه ويدلل عليها بثمن الرضاعة إنما أراد إسكات أي صوت معترض يوجه إلى الفقه بشأن خذلان المرأة، بل وأعطى الدليل السهل لاتهامه بإلغاء الأمومة، وتفرد الآباء بالأبناء. وهكذا تحولت القبيلة أو العشيرة بكل ثقلها إلى الدين، حيث أخذ الفقه والفكر الديني المتشدد يحامي عن قوانين العشيرة، لتنسحب المرأة من واجهة المساجد والشوارع والحياة العامة إلى المنزل والتواري عن الأنظار.
لو ألقينا نظرة على المجتمعات التي سبقت تشريع اليهودية والمسيحية والإسلام لوجدنا أن الحال كان أكثر قسوة على النساء، فللزوج في الحضارة اليونانية الحق في اتخاذ ثلاثة أنواع من النساء: خليلة لصحته النفسية والجسمانية وزوجة لولادة الأولاد وعشيقة للذة. يضاف إلى ذلك من حق الرجل التسري بما ملكت يمينه. وفي الحروب تجدد عادة القوانين الخاصة بالنساء فظهر قانون يجيز تعدد الزوجات، لسد فراغ القتلى من الأزواج. والزوجة متى فقدت جمالها تحولت إلى جارية عادية من جواري المنزل، والزنا لا يؤدي إلى الطلاق إذا ارتكبه الرجل، وتطلق المرأة إذا زنت، وكان من السهل أن تُطلق المرأة. ومن حق الرجل العقيم أن يستعين بأحد أقربائه لمضاجعة زوجته من أجل الولد، فالحروب جعلت الرجال لا يفكرون بالمرأة كزوجة إلا للعقب(ديورانت، قصة الحضارة).
لقد حملت أوروبا في معاملة النساء التشريعات والأعراف اليونانية والرومانية ما قبل المسيحية، فظلت سائدة إلى ما قبل فترة وجيزة، مثل فقدان المرأة لاسم عائلتها بعد الزواج (أصبح حالياً اختيارياً وليس بأوروبا أسهل من تبديل الاسم)، وتمييزها بالمعاملة الاجتماعية والسياسية، فليس من حقها الانتخاب والترشيح، فكانت برلمانات أوروبا مثل برلمان الكويت اليوم، وتمييزها في الأجور، وهل تنسى نساء هذه القارة حزام العفة؟
إن قول أحد حكماء اليونان في معاملة النساء يغني عن المقال في الشدة القديمة تجاه النساء: "يجب أن يحبس اسم السيدة المصونة في البيت كما يحبس جسدها"(المصدر نفسه). ورغم كل هذه الشدائد فللمرأة جبروتها وتأثيرها الروحي، قال أحد المفكرين: "لقد وهبت الطبيعة المرأة من القوة ما لا تستطيع الشرائع أن تزيد عليه شيئاً". فرغم كل الإجراءات الكابحة للمرأة تبدو هي الكائن القوي، فكم يبدو الرجل ضعيفاً لو تخلت عنه العشيرة والقيم الدينية والعرف الاجتماعي السائد؟ فحسب القس الفيلسوف أوغسطين الخطيئة امرأة والفضيلة امرأة أيضاً، قال: "لقد حل بنا الهلاك بفعل امرأة (حواء) وعادت إلينا النجاة بفعل امرأة (مريم)"(قصة الحضارة). فما يقال عنها في ثقافتنا أنها مكسورة الجناح وخلافه يدخل في ثقافة تكريس قوة الرجل وتكريس ضعفها. وهذا هارون الرشيد يتمثل بأبيات التوّزي التي قالها في حَسَنة الجارية (الطبري، تاريخ الأمم والملوك):
أرى ماءً وبي عَطشٌ شديدٌ
ولكن لا سبيل إلى الورودِ
أما يكفيك أنك تملكيني
وأن الناس كلهم عبيدي
وأنك لو قطعت يدي ورجلي
لقلتُ من الرضا أحسنت زيدي
وهذا ابن الأعرابي ينشد في صفة النساء (ابن الجوزي، ذم الهوى):
هي الضلع العوجاء لستَ تقيمها
ألا إن تقويم الضلوع انكسارها
أيجمعنَّ ضعفاً واقتداراً على الفتى
أليس عجيباً ضعفها واقتدارها
لم يسمع قدماء اليونان خصوصاً والأوربيون عموماً إلى صوت فيلسوفهم الذي بكرَ في القول بالمساواة قبل حوالي خمسة وعشرين قرناً من الزمان إلا بعد حين، قال أفلاطون عن أستاذه سقراط: "فهو يذهب إلى وجوب تهذيب النساء وتدريبهنَّ كالرجال تماماً. لأن المرأة تقدر أن تتقن فن الموسيقى والجمناز كالرجال، وفيها ما فيه من الكفاءة لمختلف الأعمال"(كتاب الجمهورية).
جاءت الشرائع الدينية بما هو أفضل في معاملة النساء، قياساً بيونان ورومان وعرب جاهلية، التي كان الرجل يورث زوجة أبيه مع ما يورث من أشياء، وليس بعد وأد البنات فظاعةً. وبأثر تلك الخلفية قد لا نجد غرابة في كلمة الإمام علي ابن أبي طالب الشديدة على النساء، والتي لا تقل شدة من شدة عمر بن الخطاب عليهنَّ، وربما كانت قيادة عائشة لجماعة البصرة ضده أثرها في نفسه، فسمى أهل البصرة بجند المرأة وأتباع البهيمة، وقد نصح ولده الحسن وكأنه يعلم أن موته سيكون على يد امرأة هي زوجته جعدة بنت الأشعث بن قيس الكندي (الأصفهاني، مقاتل الطالبيين). قال: "إياك ومشاورة النساء فإن رأيهنَّ إلى أفن، وعزمهنَّ إلى وهنٍ. وأكفف عليهنَّ من أبصارهنَّ بحجابك إياهنَّ فإن شدة الحجاب أبقى عليهنَّ، وليس خروجهنَّ بأشد من إدخالك مَنْ لا يوثق به عليهنَّ، وإن أسطعت أن لا يعرفنَّ غيرك ففعل. ولا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها فإن المرأة ريحانة وليست بقهرمانة ولا تعد بكرامتها نفسها، ولا تطمعها في أن تشفع بغيرها"(نهج البلاغة، شرح محمد عبدة، من وصية إلى ابنه الحسن عند منصرفه من صفين)! لقد دفع موقف عائشة الإمام علي إلى القول أكثر من هذا في النساء، قال بعد فراغه من معركة الجمل: "معاشر الناس، إن النساء نواقص الإيمان، نواقص الحظوظ، نواقص العقول: فأما نقصان إيمانهنَّ فقعودهنَّ عن الصلاة والصيام في أيام حيضهنَّ، وأما نقصان عقولهنَّ فشهادة امرأتين كشهادة الرجل الواحد، وأما نقصان حظوظهنَّ فمواريثهنَّ على الأنصاف من مواريث الرجال. فاتقوا شِرار النساء، وكونوا من خيارهنَّ على حذر، ولا تطيعوهنَّ في المعروف حتى لا يطمعنَّ في المنكر"( نهج البلاغة، شرح محمد عبده، خطبة رقم 79). انتقل هذا الموقف إلى عامة الناس فقالوا: "لا تدع أم صبيك تضربه، فأنه أعقل منها، وإن كانت أسن منه"(الجاحظ البيان والتبيين). السؤال،كيف ستكون أحوال النساء إذا جمعت هذه الخطبة، القائلة بنقص دين المرأة وعقلها، مع الحديث النبوي: "لن يفلح قومٌ ولوا أمرهم امرأة"؟(الكتب الستة، جامع الترمذي، باب الرؤيا) جاء تعليقاً على تولي ابنة كسرى العرش بعد وفاة أبيها، فهل يبقى لديهنَّ أمل في تولي الحكم، أو المشاركة فيه والرجال القوامون يرفعون بوجههنَّ مثل هذه النصوص؟ لكن الشاهة بوران بنت كسرى، "بسطت العدل والإحسان، وكتبت إلى آفاقها كتاباً تعد فيه بالعدل والإحسان، وتأمرهم بجميل المذهب والقصد والسداد، ووادعت ملك الروم"(تاريخ اليعقوبي، وكذلك تاريخ الطبري)!
ورغم عواطفنا التي شبت على حب الإمام علي بن أبي طالب وآل بيته، وصوت أمهاتنا المتوسلات باسمه عند تولدهنَّ، وتشبثنا باسمه عندما كان الرعد يهز منازلنا وهي من قصب وطين بالقول "يا أبو الغيث غثنا يا علي أدركنا" فإن كلمته في النساء كانت قاسية بمقاسات عصرنا الحاضر وعصور مَنْ قالوا: "وراء كل عظيم امرأة"؟ وقد زاد المتشددون ضد النساء ونسبوا لعلي شعراً هو بالحقيقة ليس بشعر لركته، عندما قالوا على لسانه، وحفظناه نحن منذ طفولتنا:
دع ذكرهنَّ فما لهنَّ وفاء
ريح الصبا وعهودهنَّ سواء
ورغم ذلك أرى ليس من العدالة محاكمة الكلمة أو الموقف المذكور من المرأة أو ممارسة عمر بن الخطاب ضدها بأدوات زماننا؟ يمكن ذلك في حالة واحدة وهي أن نرى مَنْ لا يفصل بين الأزمنة محاولاً فرض زمن على آخر، وهو ما يجري اليوم! فهل لنا أن نقبل حديث يقرن بين تفشي الجهل وقلة العلم بكثرة النساء، وهل غاب عن واضع الحديث توازن الطبيعة بين ذكر وأنثى، وغاب عنه الاستعداد الطبيعي لدى المرأة في التعلم؟ جاء في الحديث: "من أشراط الساعة أن يقل العلم ويظهر الجهل، ويظهر الزنا، وتكثر النساء، ويقل الرجال حتى تكون لخمسين امرأة القيم الواحد"(صحيح البخاري، باب العلم).
كان الزواج من أربع خطوة تقدمية في الجزيرة العربية، ضد رجعية العشيرة التي كانت تطلق عدد الزوجات إلى حدود التسعين، ومع ذلك أغفل مشرعو الأحوال الشخصية تعاليم القرآن التي فيها تحبيذ وتشديد للزواج من واحدة. جاء في الآية "فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدةً"(سورة النساء)، ثم يأتي التشديد بل المنع بالآية: "ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم"(سورة النساء). وللزواج بأكثر من واحدة شرطه الظرفي في القرآن الاقتران بمعاملة الأيتام "وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع"(سورة النساء). السؤال هل تزوج رجل في العصور التي لحقت نزول الآية لأجل اليتامى؟ وهل فكر مزواج بأموال اليتامى. لقد تفشى تعدد الزوجات لوفرة المال والجاه، واتخاذها دلالة على الفحولة، التي ليس لنا فخر سواها! وللشيخ محمد عبدة رأي في هذا الأمر: "فمَنْ تأمل الآيتين علن أن إباحة تعدد الزوجات في الإسلام أمر مضيق فيه أشد التضييق، كأنه ضرورة من الضرورات التي تباح لمحتاجها بشرط الثقة بل إقامة العدل في الزمان من المفاسد جزم بأنه لا يمكن لأحد أن يربي أمة فشا فيها تعدد الزوجات"، وكما هو معلوم لقد أباح القرآن عند الضرورة أكل حتى لحم الخنزير، جاء في سورة "البقرة": "إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهل به لغير الله فمَنْ أضطر غير باغ ولا عاد فلا أثم عليه إن الله غفور رحيم". قال أبو العلاء المعري في لزومياته ناقداً تشريع تعدد الزوجات:
متى تُشرك مع امرأة سواها
فقد أخطأت في الرأي التريك
فلو يُرجى مع الشركاء خيرٌ
لما كان الإله بلا شريك
وعلى رغم من فيض عاطفة المرأة، ودورها في ظهور أكثر من ديانة، جعل الأدب الأبوي منها شيطانة أغوت آدم بالمعصية التي أخرجته من الجنة، وما معاناتها من آلام ولادتها إلا عقوبة أزلية عليها، ناقصة دين وعقل، ترتكب معصية إن خالفت زوجها أو نفرت من مشاركته المنام لسبب من الأسباب، وهي الناشز بأمر الرجل، وشهادتها نصف شهادته، ولا تتبوأ مركز القضاء أو الحكم، وما زالت حكومات تحرم عليها قيادة السيارة لأنها بوابة للفجور، ووسيلة لفك حجاب الدار، ثم أنها لا تشارك في الانتخابات لأن عفتها بحجابها وصلاحها بسكوتها وخدمتها وطاعتها للزوج.
ما ندركه تماماً أن حدوث كل ارتداد اجتماعي إلى الخلف لا يرتكز إلا على تقييد حركة النساء بحجاب ومحرم (لا يجوز في مثل هذه المجتمعات أن تخرج المرأة أو تسافر إلا مع أحد محارمها من زوج أو آب أو أخ)، وما يترتب على ذلك من ارتداد فكري واجتماعي، ضحيته أن توصف المرأة بنقص الدين والعقل! فالقيد الاجتماعي المحيط بالمرأة سيؤدي حتماً إلى نقص في العقول! غير أن الغرض الذي من أجله فرض التفريق القاسي بين الجنسين، وهو خشية الاتصال الجنسي، لم يتوقف يوماً من الأيام في أشد المجتمعات تشدداً بل تجد مخاطره عظيمة هناك.
فمن حاجة عاد أشد رجال الدين تزمتاً إلى ما عُرف بأوروبا بزواج الصداقة، كما دعا له الشيخ عبد المجيد الزنداني، وزواج (المسيار) كما أشيع حوله في المملكة العربية السعودية، وأن الدولة الدينية بإيران لم تستطع وقف تفاقم الدعارة، رغم إجراءاتها الصارمة. ما هو غير معروف أن الشيخ الزنداني، المحارب ضد الحضارة الغربية والمتاجر بالشباب اليمني إلى أفغانستان في الثمانينيات من القرن السابق والمتهم بقتل الفتاة لينا عبد الخالق في يناير 1992، أقتبس هذا النوع من الزواج من تلافيف أدمغة علماء الغرب، ونقلها عن مصدر شيعي يرى أنه كافر، فأطروحة زواج الصداقة أطلقها القاضي الأمريكي ليندسي في زمن كانت أمريكا تعتبرها بغاءً، وجاءت في كتاب آية الله مرتضى مطهري "نظام حقوق المرأة في الإسلام". قال مطهري مفضلاً زواج المتعة، الذي يغضب منه الشيخ الزنداني: "إن أطروحة زواج الصداقة التي أقترحها رجل محافظ وحكيم قُصد منها إيجاد نوع من الثبات في العلاقات الجنسية، فقد أنتبه ليندسي إلى أن المشكلة الأساسية في الزواج هي افتقاد المال".
لم تقر المسيحية ما شرعته اليهودية في تعدد الزوجات مثلما أقرته اليهودية بالقول: "إذا كانت لرجل زوجتان أحداهما محبوبة والأخرى مكروهة"(العهد القديم). جاء على لسان الرسول بولس - لا تتضمنه نصاً الأناجيل الأربعة- يوصي أهل كورنتس محبذاً لهم البتولية: "أما ما كتبتم به إليَّ فحسن بالرجل أن لا يمس المرأة، ولكن لتجنب الزنا فليكن لكل رجل امرأته ولكل امرأة رجلها، وليقض الزوج امرأته حقها وكذلك المرأة حق زوجها. لا سلطة للمرأة على جسدها فإنما السلطة لزوجها، وكذلك الزوج لا سلطة له على جسده فإنما السلطة لامرأته"(العهد الجديد، رسائل الرسل)، ثم يعود بولس ويذكر المسيحيين بفضائل البتولية: "أقول هذا من باب الإجازة لا من باب الأمر، فإني أود لو كان جميع الناس مثلي"، أي غير متزوجين. يذكر أن أبا جعفر المنصور (ت158هـ) شعر بحاجة طبيبه المسيحي جورجيس بن جبرائيل إلى امرأة تعوضه عن زوجته التي تركها بجند نيسابور، فأمر خادمه أن يختار من الجواري الحسان ثلاثاً، ويحملهن إليه، غير أن جورجيس أنكر ذلك وأعتذر للخليفة بعد أن سأله عن سبب عدم قبول الهدية "هؤلاء لا يكونن معي في بيت واحد، لأنا معشر النصارى لا نتزوج بأكثر من امرأة واحدة، وما دامت المرأة في الحياة لا نأخذ غيرها"( ابن أبي اصيبعة، عيون الأنباء في طبقات الأطباء). التزمت هذا المبدأ المذاهب المسيحية كافة، وهو التزام حضاري طبقته الدولة التونسية وهي دولة مسلمة، وحاول العراق الملكي تحقيقه عبر قانون الأحوال الشخصية، ولم يفلح، ثم كاد هذا النظام أن يتبنى دعوة القاضي توفيق الفكيكي إلى مشاركة المرأة في الحياة السياسية، وقد تغير موقفه من حجابي داعية للحجاب وركون المرأة في بيتها إلى إطلاق مثل تلك المبادرة، ثم أصدر العهد الجمهوري بعد 1958 القانون المذكور مع بعض التعديل وواجه اعتراضات شديدة من قبل آية الله السيد محسن الحكيم، ثم طبقته القيادة الكردية بمدينة السليمانية وتوابعها قبيل سقوط نظام البعث العراقي (9نيسان 2003)، وحاول السيد عبد العزيز الحكيم إلغاءه، عند ترأسه لمجلس الحكم في كانون الأول 2003، فتصدت له جمهرة من النساء والأحزاب، وامتثل الجميع للتصويت الديمقراطي، وهو أمر أفرحنا جميعاً.
لكن، رغم التشديد على قوة الرابطة الزوجية، ووصايا الإنجيل للرجال والنساء في الوفاء لبعضهم البعض في المرض والصحة والسراء والضراء، وهو ما يردده المتزوجون في عقد الزواج، فأن رسالة القديس بطرس توصي بخضوع المرأة الكلي للرجل: "أيتها النساء أخضعن لأزواجكنَّ خضوعكنَّ للرب، لأن الرجل رأس المرأة كما أن المسيح رأس الكنيسة". وإن طُلب من المرأة الخضوع للرجل، كخضوعها للرب، فإن فقهاء المسيحية لم يطلبوا من الرجل أكثر من الالتزام بالرابطة الزوجية. قال بطرس: "كذلك أنتم أيها الرجال ساكنوهنَّ بالحسنى، علماً منكم بأن المرأة أضعف منكم حيلة، وأولوهن حقهنَّ من الإكرام، على أنهنَّ شريكات لكم في أرث نعمة الحياة، ليكلا يحول شيءٌ دون صلواتكم".
هناك جملة أعراف اجتماعية حددت علاقة المرأة بالرجل في الجاهلية، فحسب رواية عائشة بنت أبي بكر يقع النكاح في أربعة أشكال: 1- أن يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيدفع صداقها ويتم الزواج وهذا ما سار عليه الإسلام. 2- تستبضع المرأة بمعرفة زوجها من رجل آخر، على أن يمتنع الزوج عن زوجته حتى حملها من ذلك الرجل، وتدفع إلى هذا النوع من الزواج الحاجة إلى الولد، ويحصل بسبب عقم الزوج أو الرغبة في مكانة الرجل الآخر الاجتماعية، فهناك من النساء مَنْ طلبت الولد من أخيها حباً به. 3- زواج المرأة بأكثر من رجل، فإن حملت تطلبهم وتخص مَنْ تريده أباً لولدها، وعليه القبول والامتثال لرغبتها. 4- نكاح البغايا اللواتي(منهم سمية أم زياد ابن أبيه) يرفعن الرايات البيضاء فوق بيوتهن، وإن حصل الحمل فليحق بالذي يتفق عليه(الشاطبي، الاعتصام). أتت عائشة على أشكال أخرى من الزواج قبل الإسلام منها زواج الولد من زوجة أبيه، ضمن ما يرثه عن الأب، وتعدد الزوجات آنذاك مطلق غير محدد بعرف أو تشريع، فكلما زاد وضع الرجل المالي وعلت منزلته الاجتماعية كثرت زوجاته، ومع ذلك هناك مَنْ اكتفى بواحدة. إلى جانب ذلك كان الطلاق سنُّة معمولاً بها في الجاهلية(يظهر من رواية ابن سعد في الطبقات الكبرى حول طلاق ابنتي النبي محمد رقية وأم كلثوم من ولديِّ عمه أبي لهب عتبة وعتيبة، أثر نزول سورة المسد).
رغم ذلك هناك شواذ في فهم العشيرة للمرأة، ومن بعدها عند فقهاء مسلمون أجازوا للمرأة الاتصال بالسماء، أي أن تتنبأ وأن تكون قاضية. تظل تجربة سجاح بنت الحارث التميمية ظاهرة متعالية على السائد، ففي وقت كانت فيه النساء بالجزيرة جزءاً من ميراث الرجال كما سلفت الإشارة، وليس هناك حدود للتسري بالجواري، تظهر امرأة تقود نحو أربعين ألف رجل اقتنعوا بنبوتها، بينهم قادة مثل: الزبرقان بن بدر. كانت سجاح كاهنة لها علم بالكتب تعلمته من بني تغلب النصارى، عاشت معتزلة حتى وفاتها بالبصرة زمن معاوية بن أبي سفيان. ورغم سطوتها وشرفها وعلمها وصلاة والي البصرة على جنازتها حولها الرواة والقصاصون المسلمون إلى مجرد غانية وأضحوكة.
لم يرد في كتب التاريخ ما يمنع سجاح من النبوة لجنسها بل لأنها أرادت تأسيس دين آخر تعارض فيه الإسلام. متأخراً ألتفت أحد أتباعها عطارد بن حاجب إلى جنس نبيته فقال:
أمست نبيتنا أنثى نُطيفُ بها
وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا
يكشف ابن حزم (ت456هـ) عن نزاع كبير دار بين فقهاء قرطبة حول نبوة النساء، قال: "هذا فصل لا نعلمه حدث التنازع العظيم فيه إلا عندنا بقرطبة، وفي زماننا، فإن طائفة ذهبت إلى إبطال كون النبوة في النساء جملة وبدعة من قال ذلك، وذهبت طائفة إلى القول بأنه قد كانت النساء نبوة وذهبت طائفة إلى التوقف في ذلك"(الفصل في الملل والأهواء والنحل).لم يجد ابن حزم مانعاً من الوحي للمرأة، رغم ما ورد في القرآن "ما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى"(سورة يوسف). لكن الفقيه الظاهري يجعل للنساء النبوة دون الرسالة، وهو من باب الإنباء أو الإعلام، ومَنْ تبلغه السماء بأمر فهو نبي، كان رجلاً أو امرأة.
رغم القول: المرأة ناقصة عقل ودين إلا أن نبوة المرأة شغلت فقهاء قرطبة مثلما شغلت مسألة صلاحيتها للقضاء فقهاء الكوفة وبغداد. لم يشذ عن العرف العشائري المذكور غير مَنْ لا عشيرة له، وهو الإمام أبو حنيفة النعمان (150هـ)، وتبعه في ذلك محمد بن جرير الطبري (ت310هـ). قال أبو حنيفة: "يجوز أن تقضي المرأة، فيما تصح شهادتها، ولا يجوز أن تقضي فيما لا تصح شهادتها"(الماوردي الأحكام السلطانية). ومنها أن تكون حرة لا مملوكة، فلا تقبل شهادة العبد أو الأمّة. وعلى أساس هذه الفتوى أفتى أبو جعفر الطبري:"يجوز قضاءها في جميع الأحكام".بعد متابعة عدد من التشريعات الدينية نلاحظ تطورها التاريخي تأثراً بالتغير الاجتماعي، عبرت عن زمنها وحلت معضلات جيل من البشر ، كسبت فيها النساء قياساً بما سبقها من معاملات حقوقاً كانت مهدورة.
ختاماً، تمعنت في نصيحة الأخ المحب زهير الزبيدي، وأجده صادق الحرص على ما أكتب، فهو من المتابعين الجيدين والناقدين النظيفين، وأخذت ردوده السابقة على ما أكتب بنظر الاعتبار والتقدير، ولولا قرار الأزهر الأخير ما خيبت أمله وكتبت مادة ثالثة في أمر النساء، وكنت عازم النية على ذلك. فأنا لا أفرق بين صلاح الدين الأيوبي والحجاج بن يوسف الثقفي، والأزهر بقراره هذا هو بقية ذلك المتسلط، وسيعترض الكثيرون على هذه المقاربة بحجة أن الأيوبي حرر القدس، لكن لو بقيت الفلسفة والعلوم في أروقة الأزهر، واستمر عهدها الفاطمي، ما استوردت مصر ولا بلاد الإسلام الأبرة إلى الطائرة. ولو افترضنا أن صدام حسين حرر القدس فهل لي أنا العراقي غفران ما أوصل العراق إليه من بؤس، وهل لي أن أعتبر كارثة حلبجة فداء للقدس؟ لا اعتقد يقبلها منصف! وإن وافقت الأخ الزبيدي في عشق الموضوعات التاريخية والتراثية التي اكتبها، فأنا عاشق لها أيضاً، وأما موضوعات الفقه والتشريع التي لا أدعيها وإنما أنا مجرد ناقل أمين من أفواه أهل الشأن، يسمح لي مخالفته في طلبه عدم الخوض بمثل هذه المواضيع، والسبب ألا يحق للناس الجدل في أمر يحكمهم، ويدخل في دساتير حكمهم وتشريعات دولهم؟ لكن رسالة وردت من الأخت الكريمة العزاوي، أرادت فيها نقيض ما أراده أو تمناه عليَّ الأخ زهير الزبيدي، أن أستمر بالكتابة في أحوال النساء، وقد ضايقها خبر، أو إشاعة خبر زواج رئيس الجمهورية المؤقت غازي الياور من السيدة الوزيرة، وأنا معها، فربما أراد الرئيس إضفاء تأكيد مشيخته في الزواج بأكثر من واحدة، وان رئيساً له هموم وضع مثل وضع العراق ويعدد زوجاته لا أراه جاداً في الرئاسة. عساني وافقت بين النقيضين، بين العودة إلى الموضوعات التراثية، على شاشة إيلاف، وبين ما حاولته في أمر معاملة النساء.
[email protected]