نظرة واحدة على الطريقة التي ستتم بها المشاركة العربية في معرض فرانكفورت للكتاب، وعلى لائحة المدعوين من الذين إما كشفت الوثائق عن علاقتهم بنظام صدام أو أنهم ساندوا موقف النظام العربي الشمولي الرافض إلى أي تغيير حقيقي نحو الديمقراطية،.. كافية لدفع أي عراقي عانى سابقا من نظام صدام واليوم من عمليات الإرهاب التي لم يدنها أي من الذين سيشتركون في هذا المعرض، إلى التنحي المطلق والابتعاد عن هذا المعرض، وإلى أن يرى المشاركة العراقية الوحيدة الممكنة للعراقيين هي ان يحضروا كزوار أفواجا لفضح، بنقاش هادئ وموثق، كل من كان مع نظام صدام وكل من لا يدين عمليات الإرهاب الجارية بحجة أنها ضد الاحتلال لكنها موجهة في الحقيقة إلى صدور عراقيين أبرياء...
أشعر بارتياح من موقفي هذا خصوصا بعد أن أطلعت على نتيجة استفتاء "إيلاف" في قسم "ثقافات" للأسبوع الماضي. ذلك أن نسبة الذين مع المقاطعة العراقية لهذا المعرض كانت 77 بالمئة من مجموع المصوتين (1082)، بينما كانت نسبة الذين مع مشاركة العراق في المعرض 17 بالمئة... وستة بالمئة لا يهمهم الأمر.

فالمعرض هذا لعبة من ألاعيب الجامعة العربية التي لا دور لها سوى تبييض أنظمة عربية استبدادية وعقد نشاطات ثقافية ينبعث منها رائحة الكراهية للآخر. في لقاء مع مثقفين مشاركين في البرنامج الثقافي العربي في معرض فرانكفورت الدولي للكتاب، صرح الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى من ان "مصر ولبنان يشكلان قاطرة المشاركة العربية في المعرض كضيف شرف الدورة الحالية... دور كلا البلدين الثقافي تاريخيا كان متميزا وشكل علامة مهمة في التاريخ الثقافي العربي..." ثم يفتخر أن: "وزير الثقافة اللبناني الاسبق غسان سلامة وقف وراء الفكرة وقد تبنتها الجامعة العربية لاهميتها في الرد على الهجوم الذي تتعرض له الحضارة العربية والاسلامية في الغرب وزيادة حدة ذلك اثر احداث 11 ايلول/سبتمبر"! كلام واضح المغزى لا حاجة لتفسيره. ولا غبار على إيمان عمرو بجهاد الأمة العربية التي لا يقر لها قرار حتى تجعل من أوروبا مستعمرة إسلامية! لكن ما يهمني الآن، هو المضمر في تصريحه: الرغبة الخفية في حذف أي دور ثقافي للعراق! إذ يبدو أن عمرو لا يزال يعيش تحت مخدر المثل الذي يعلكه كل يوم مرتزقة الفكر وناشرو الابتذال: "مصر تكتب، لبنان تطبع والعراق يقرأ".. وهذا ما يغمز إليه: على العراقي أن يقرأ ويقبل ما نقدم نحن له. لكن... ربما كان لهذا المثل معنى قبل خمسين عاما.. إذ كان هناك فعلا كتاب مصريون إنسانيون وعمالقة، ومطابع بيروتية حرة لا تفصل التجارة عن طابعها التنويري.. أما اليوم، فمصر فعلا تكتب (لكن تكتب ماذا)، ولبنان فعلا تطبع (لكن تطبع ماذا)، أما العراق فلحسن حظه لم يعد يقرأ... منذ زمان... ويا ترى إذا قرر أن يقرأ... فسيقرأ ماذا؟

*


في تلك السنوات البعيدة كان الأمر شيئا آخر: مثلا، عندما كان المرء ينادي "سجل أنا عربي" كانت شحنة حياة تنبعث من هذا النداء... أما اليوم بعد أن وُلِيَ على العرب كما هم، فإنه ليس لأحد ما يضيفه سوى هذا وباحتقار شديد: سجل إنه عربي!

*


في تصريحات السيد عمرو التي تشبه خطبة مدرس في قرية دوستويفسكية فجأة وجد نفسه يترأسها، افتراء على الآخر الذي هو دائما الغرب. فكالعادة العرب هم الضحايا وحضارتهم (لا أحد يعرف أين هي الآن) موضع هجوم. ومع ذلك فإن هذه الـ"أنا" العربية المصابة بالجرح النرجسي، لا تشعر بأية قيمة دون اعتراف هذا الآخر الغربي بها! سم الأفعى كامن في جسمها وليس في نابها، كما يقول المثل العربي!

*


حتى يستطيع السيد عمرو إعطاء صورة مشرقة لما يسميه بالحضارة العربية عليه أولا أن يبدأ من داخل بلدان جامعته: بأن يلقي إلى المزابل 99 مما انتج خلال الخمسين سنة الأخيرة أدبا وفكرا وفنا. فلم يكن هذا النتاج لا ثقافة إنسانية ولا هو إبداع حقيقي بحيث يمكن لنا ان نغفر أخطاء مؤلفيه!إنه مجرد أدب كريه وضحل وإنشاء حماسي لمغازلة حاسة القتل لدى القارئ العربي!

*


عن أية حضارة مهددة يتكلم، والجميع يعلم أنه لو لا الغرب لكان كل تراث "الحضارة العربية" في حضيض النسيان والدمار. وكيف يمكن أن تكون لنا حضارة ومجتمعاتنا ليست مدنية. إن كلمة حضارة بالفرنسية أو بالانجليزيةمشتقة من كلمةمدني.

المشكلة أن هذا الأمين العام يعرف حق المعرفةأنه ليس فيالامكان أن يعرض كتبا وادبافي فرانكفورت (كما عودتنا كل معارض الكتب العربية وآمل أن تتدخل الرقابة الألمانية لمصادرتها)،غير كتبالموت الإسلامي الصفراء، والأدب الداعي إلى الكراهية وفتاوى قتل الآخر... أو اتخاذ أسهل الطرق للافتخار بالحضارة العربية المهددة: الإتكاء على الآثار! وهذا برهان آخر أن مصر (أم الدنيا)ليس لها ما يمكن أن تفتخر به اليوم.فليس هناك دولة أوروبية تؤكد مساهمتها الثقافية العالمية بعرض عضلات آثار ماضيها أو صقل عظام الأجداد. معرض الكتاب ليس متحفا وانمامرآة ما يجري اليوم من مساهمات حديثة وأضافات فكرية لفتح أبواب المستقبل البشري على أجمل الآفاق وأفضلها.إنه لمن المخجل أن نقرأ استفتاء أجرته مجلة فرنسية تصدرها مكتبة فناك عن الروايات الأكثر مبيعا في فرنسا بأنها أجنبية من الهند، اليابان، ألمانيا، برازيل...الخ ولم تذكر عملا روائيا عربيا واحدا رغم كلالأموال المهدورة في ترجمة أعمال لا قيمة لها.

*

أما القراءات الشعرية التي ستتم في خيمات (يقال أن نصف كلفة المشاركة العربية صرفت على الحبال والأوتاد والوبر!) فحدث ولا حرج. سوف يشعر السامعوقع بوقكل ما يحمله الشرق العربي من تحاسد وضغينة ضد الآخر – الغرب، وهذا ما ينفي مصداقية ادعاءات هؤلاء الشعراء بصدد الحداثة والكونية. ألم يكتب أدونيس عند صعود الغوغائية الإيرانية الأبيات التالية:

شعب إيران يكتب للغرب:

وجهك يا غرب ينهار

وجهك يا غرب مات.

وألم يحذف محمود درويش من أعماله الكاملة قصيدة جد مهينة للأكراد، بحيث بات وجودها في أعماله محرجة له ولملمعيه من النقاد. وربما ستتغير لهجة هؤلاء الشعراء فيكشفوا عن وجهين. لكن الشيء المؤكد، محاكاة لمفكر نمساوي أسمه كارل كراوس، هو أن "القصيدة تبقى جيدة إلى أن نعرف من كتبها".

أما صديقنا سعدي يوسف الذي لم تستطع قريحته الشعرية انتاجنموذج شعري قوي معبر عما يدعيه من مواقفضد الاحتلال، كماكان لمعظم شعراء العالم الحقيقيين،فكل ما أستطيع قوله هو أنشاعرا لبنانيا صديقا أعلمني أنه سيذهب خصيصا إلى فرانكفورت ليسأل أمام الحاضرين سعدي يوسف: كيف تمكن كشاعر أن يمجد، في عدة دواوين شعرية منها قصيدته "شجرة ايثاكا"، قتلة فلسطينيين قاموا بجرائم سوداء في لبنان في سبعينات القرن الماضي... كارثة سيحتاج أبو حيدر إلى قنينتين من الفودكا لابتلاع هذه الفضيحة!

*


آمل أن لا يحضر وزير الثقافة العراقي السيد مفيد الجزائري المعرض حفاظا على ماء وجه العراق الجديد.. إن هذا المعرض كل من يشارك فيه أو يعطيه مصداقية، يسقط في فخه: طعن العراق الجديد ثقافيا ومجتمعيا، وبالتالي يشترك في التباكي على أوضاع ما قبل صدام. نعم أعرف أن هناك عراقيين عبيدا لا قيمة لهم خارج تأدية خدمات منزلية سيكونون في مقدمة هز البطن. لا مفر من هؤلاء سوى تجاهلهم. فإنهم متواجدون في كل الظروف وفي كل المحن: نفس التاريخ؛ نفس المكان؛ نفس الاسم.

*

إن ما ينبغي معرفته هو أن المشرفين على الجانب العربي من معرض فرانكفورت مصرون على تجاهلهم مصير العراق الجديد، بل هم مصرون على عزل كل من لا يقف موقفهم العروبي المخزي، وهذا يعني أنهم سيتعمدون عزل أي ممثل ثقافي للعراق الجديد، بل سيحرشون عليه كلاب الغوغائية وفلول الجهاد الإسلامي وما يسمى "المقاومة العراقية" اللاعراقية...
ألا يكفي أن يشعر كل عراقي له شيء من الكرامة، بالنفور والاشمئزاز، من الإشارة المقصودة وراء مزج الأخضر باليابس بدعوة هؤلاء "العراقيين" فقط: عالية ممدوح، بتول خضيري، سعدي يوسف، فؤاد التكرلي، فاضل العزاوي ومحسن الموسوي. وليس....؟

*

العراق الجديد ليس له جلد على النقاش مع أوباش، ولا الوقت الكافي لحضور عرس المقاومة العربية الملطخة بدم العراقيين؛ "عرس واوية" من شعراء وكتابٍ وأنصافِ مثقفين لا حياء لهم ولا خجل.

انقر على ما يهمك:


عالم الأدب ملف قصيدة النثر مسرح قص شعر الفن السابع مكتبة إيلاف