يشهد تاريخ الدول الدينية إن ما تحقق هو مصالح الرجال لا مصالح الله (1-2)

جربت البشرية لزمن طويل أشكالاً من الدول الدينية، وثنية وتوحيدية. لكل منها شريعة منزلة من السماء، حسب اعتقادها، وبالتالي الاعتراض عليها يعني الاعتراض على السماء لأنها مصدرها. ليس من حق المواطن مناقشة بنودها، إنما القبول بما تفسره أو تأوله المؤسسة الدينية نفسها. وأول ما تواجهه رعية الدولة الدينية هو الاضطهاد الديني، ثم الاضطهاد المذهبي. لأن الشريعة لا تستمد شرعها من الدين إلا عبر مذهب من مذاهبه، وما أكثر المذاهب وما أعمق اختلافاتها. وبهذا تأتي الشريعة ممزوجة من حكم الدين والمذهب معاً، وما يترتب على ذلك من خلاف بين أهل الديانة الواحدة، إن أصبحت الشريعة دستوراً لدولة متعددة المذاهب مثلاً. والسؤال، هل حلت الحكومات الدينية والمذهبية معضلات الحياة المادية والثقافية، مع حفظ سطوة الدين وقدسيته؟ وهل باستطاعتها مسايرة مستجدات الحياة، وهي المتسارعة اليوم أكثر من زمن آخر؟
لقد حكمت الوثنية باسم الآلهة، حيث الملك هو الإله، إلا أنها خلفت صوراً شوهاء، حاربها العبيد والفلاسفة والمؤمنون أنفسهم، فالتهمة هي الاعتداء أو الجرأة على شريعة الآلهة. ولا يخفى على أحد اضطهاد معتنقي المسيحية من قبل الرومان الوثنيين قبل تنصر قسطنطين في القرن الرابع الميلادي. كانوا يتعبدون جماعات سرية في الكهوف والمغارات، ويطاردون من مكان إلى آخر. لكن ما أن تمكن هؤلاء المضطهدون بسبب عقيدتهم من السلطة حتى أخذوا يضطهدون المخالفين لهم، فظهرت محاكم التفتيش والحروب الصليبية.
وتركت دول المجوسية واليهودية والمسيحية سجلاً من القتلى وفنون العذاب باسم الدين الرسمي. ومَنْ يقرأ تاريخ الخلافة الإسلامية، يجده ملئياً بالدماء وفتاوى القتل طال رجال الدين أكثر مما طال الناس العاديين. وإن قيل ظهرت المظالم وسفكت الدماء لأن الخلفاء لم يلتزموا بالإسلام الصحيح! فالجواب بسؤال آخر: متى يطبق الإسلام الصحيح إذن، وقد منحت دولته فرصة مقدارها أربعة عشر قرناً؟ فلماذا المكابرة والتعنت؟ علينا الاعتراف بحقيقة تحفظ للدين مكانته وهيبته، وتترك أمور الناس للناس يحلون أمور دنياهم بأنفسهم، وهي الدين لله والوطن للجميع. وحديث "أنتم أعلم بأمور دنياكم" يغني عن المقال. وعندما حاجج الخوارج الإمام علي بن أبي طالب بمقولة الدولة الدينية "لا حكم إلا لله ولا نحكم الرجال"، أجابهم بالقول: "إنه لابد للناس من أمير برٍّ أو فاجر يعمل بأمرته المؤمن". فالناس، حسب هذا القول، هم الحاكمون وليس الله.
وعلى الرغم من ذلك وجد الدين طريقه إلى القلوب خارج أروقة هذه الدول، وظلت روحانية رجال الدين المتعففين عن السلطان شاهداً على ثبات الدين كواعز أخلاقي. فسلطة الدين إن سايرت متغيرات الحياة اهتزت أركانها، وإن فرضت ثوابتها ثار الناس عليه ومست قدسية الدين. فلماذا الإيذاء المتبادل بين الدين والدولة؟ ولحل هذه المعضلة نزع الناس إلى حكومات مدنية أو دول غير دينية، تحترم الأديان كافة والعقائد بكل فروعها، وتمنع التجاوز على العقائد، وبذلك تحفظ للمواطنين مشاعرهم ومقدساتهم وحقوقهم، وتسوسهم بدستور يتفقون عليه مدنياً، يسعون إلى تغييره حسب الحاجة إلى التغيير، وهذا مالا يحتمله الدين أو الشرع المقدس عموماً.
فحسب مذكرات علي أكبر هاشمي رفسنجاني (دار الساقي 20005)، أحد سائسي الدولة الدينية اليوم، أن جماعة الفقهاء عارضوا إصلاحات الدولة 1963 القاضية بعدم حصر الانتخاب بالمسلمين وبالذكور فقط، فتقرر مشاركة النساء، وحذف شرط القسم بالقرآن للنواب، لأن هناك من غير المسلمين. وكان تعليق آية الله الخميني بعد رفضه قرار مشاركة النساء ليأخذ الرجال حقوقهم أولاً، ثم يأتي دور النساء! كذلك عارض رجال الدين الإجراءات الاقتصادية في إلغاء الإقطاع، وتأميم الغابات، وبيع أسهم المصانع الحكومية إلى العمال، وإشراك العمال في أرباح المعامل والمصانع. وأعلن آية الله الخميني حينها: "أن زعماء إيران والأعلام وسائر المسلمين لن يسكتوا على أمور المخالفة للشرع"(رفسنجاني، حياتي، ص 308). فحسب ما تراه الدولة الدينية إن الإقطاع وظلمه وعدم مشاركة النساء في الانتخابات وإبقاء ظلم الرأسمال للعمال كلها من فنون الشرع.
لكن تداولت الأيام وجاء آية الله الخميني ومريدوه إلى السلطة، فهل حققت دولتهم الجنة للإيرانيين، وأرضتهم كافة، أم أنها تفننت بظلم حتى المساهمين بالثورة من آيات الله؟ وهل زادت تدينهم عندما أكثرت من مجالس العزاء، أم جعلت المأتم الحسيني مسرحاً للدعاية، ووسيلة للوصول إلى قلوب الناس؟
إن أكبر موجة من الهجرة في تاريخ إيران المعاصر تحققت في ظل الدولة الدينية. والمشروبات الروحية التي رمتها الثورة إلى سمك البحر عادت مضاعفة، والفساد استشرى في الدولة، وأخذ الناس يضيقون من رؤية المعممين مثلما كانوا يضيقون من رؤية عساكر ومخابرات النظام الشاهنشاهي. وتحت الضغط أضطر الفقهاء الحكام إلى تجاوز الشريعة فساووا بين الرجال والنساء في الميراث، وهذا ما يخالف الشريعة مخالفة صريحة. لكن لو سلطة غيرهم فعلت ذلك لقاموا الدنيا عليها، واعتبروها كافرة متجاوزة على الله. إذاً هناك مصالح وليس دين، والدين وسيلة لتحقيق تلك المصالح.
كان رجال الدين الثوريون بإيران من كبار الملاكين، فحسب رفسنجاني أن ممول الثورة الإيرانية أيام الشاه بالمال كان من أكبر ملاكي وإقطاعي إيران، واسمه توليت. من حق توليت ومن حق رجال الدين الإتحاد والتضامن، هذا بالمال وهذا بالدين. والحالة كما هي بالعراق فما أن صدر قانون الأحوال الشخصية، وهو يمنع زواج البنت وهي طفلة بعمر التاسعة، وتحقيق حقوق للنساء وقانون الإصلاح الزراعي أقام الفقهاء الأرض ولم يقعدوها ضد الزعيم عبد الكريم قاسم، واستمروا في معاداته، فكيف إذا أصبحوا هم الدولة؟
لا تقيم الدولة الدينية للديمقراطية قيمة، لأنها تبقى برأيها صناعة بشرية. لكنها تحاول في أحوال عديدة استعمالها بالدرجة التي تستعمل أو توظف فيه الدين. فقد أعلنت الجماعات الجزائرية الدينية عشية فوزها أنها آخر انتخابات ستشهدها الجزائر، فالغاية هي تحقيق الشريعة التي تصلهم إلى السلطة. أخذت هذه الجماعات تهدد النساء بالشريعة، فحدث ما حدث بالجزائر، لكنها استفادت من الديمقراطية وخاضت الانتخابات. كم يذكر هذا بالنازية الألمانية، فقد استفادت من الانتخابات في الوصول إلى السلطة ثم قضت عليها قضاءً مبرماً. وحاولت كذلك الجبهة الإسلامية بالسودان بزعامة حسن الترابي الاستفادة من أجواء الديمقراطية أيام الرئيس المنتخب الصادق المهدي لتنقلب عليها بانقلاب عسكري، وإجراءات شوهت الشريعة، فكانت بيوت الأشباح، والترابي السياسي المتدين، يظهر على شاشة التلفاز متشفياً بقتل الشيخ محمود محمد طه، لأنه عرض أحكام الشريعة التي طبقها النميري بالسودان. كذلك استفادت الفئة الحاكمة بإيران من مشاركة الأحزاب والفئات الأخرى بالوصول إلى السلطة. لكنها ما أن تربعت على دست الحكم حتى انقلبت عليها وتنكرت للديمقراطية، فتحولت الديمقراطية إلى أمر ونهي من قبل آية الله الخميني، ثم ولي المسلمين آية الله علي خامنه أي، فالدولة أصبحت وراثة يتداولها أتباع الإمام.
ليس هناك أعنف من الدولة الدينية، أو أي دولة تبنى على أساس آيديولوجي. يُحجب العقل فيها تماماً، ولم يبق غير هدف واحد هو إلغاء أي قراءة أخرى تحاول الربط بين النص وظرفه، أو الخروج به إلى تفسير وتأويل يحتمله بعيداً عن التكفير والقتل. فرغم شهرة المسيحية بالدعوة إلى السلام والمحبة إلا أن رهبانها في القرون الوسطى ما أن تسلموا السلطة حتى تحولوا إلى عقبان تنّقَضُ على كل مَنْ خالف تعاليم الكنيسة. لأنها تعاليم الله، إذا لم تتحقق بالكلمة فيجب أن تتحقق بالسيف. استخدموا أسوأ أساليب القسوة لتنصير اليهود والمسلمين، وحبسوا أنفاس العلماء، ومَنْ خالف رأياً لهم، مثل البروتستانية وعلى رأسها الراهب مارتن لوثر، الذي قال محتجاً على أساليب البابوية الكاثوليكية بروما "لستُ أريد أن يدافع أحد عن الإنجيل بالعنف والقتل"(1).
ووجدت الدولة التي قامت على أساس الفكر اليهودي أكثر من إشارة ووصية في تقديس العنف، وبالاسم ضد الكنعانيين أو الفلسطينيين، أو مَنْ أطلقوا عليهم بالوثنيين. وهنا لا تهمنا هوية الخصم بقدر ما يهمنا النص الداعي إلى استخدام العنف باعتباره واجباً دينياً، وأصبح دستوراً للدولة. ورد في "التوراة": قال صوئيل لشاؤول: "أنا الذي أرسلني الرَّب لأمسحك (أعمدكَ أو أتوجكَ) ملكاً على شعبه، على إسرائيل، فاسمع الآن قول الرَّب، هكذا يقول رب القوات: سأفتقد عَماليق لِما صنع بإسرائيل، حين وقف له في الطريق عند صعوده من مصر، فهلمَ الآن وضرب عَماليق، وحرم كل ما لهم، ولا تبق عليه بل أمتِ الرِّجال والنِّساء والأولاد، وحتى الرُّضع والبقر والغنم والإبل والحمير"(2). هكذا كانت معاملة الخصم في نص ديني لا يعطي فرصة للحياة. تصل درجة العنف المقدس إلى قتل الطفل الرضيع لأنه مشروع عداوة في المستقبل، ولا يعفي الحيوان لأن كل ما يتعلق بالآخر هو رجس! فيا ترى كيف سيتصرف المتشدد اليهودي مع مَنْ خالفه في الدين والتفكير، وقد مُنح الحق المقدس لإزالة العدو وما يتعلق به من الوجود؟
نقرأ في نص آخر من "التوراة": "وحارب بنو يهوذا أُرشليم، فاستولوا عليها وضَربوها بحدِّ السَّيف، وأحرقوا المدينة بالنار"(3). يُعلم هذا النص الإخباري كيفية التعامل مع الآخر، وإن كان في بلدة مثل أورشليم، البلدة المقدسة عند اليهود. ونص آخر يغذي المتشدد اليهودي بالعنف عندما يصل الأمر إلى قدس الأقداس. قال يهوة لموسى وهو على جبل سيناء: "وضع حداً للشعب من حواليه (الجبل)، وقل لهم: احذروا أن تصعدوا الجبل أو تمسوا طرفه، فإن كلَّ مَنْ مسَّ الجبل يُقتل قتلاً، لا تمسُّه يدٌ، وإلا يُرجم رجماً، أو يرمى رمياً بالسِّهام، بهيمة كان أو إنساناً، ولا يحيا"(4). ليس هذا فقط، بل شرع استخدام العنف بحق مَنْ ترك التحدث بالعبرية واكتفى بلغة أخرى مثل الآرامية آنذاك. قال: "ولم يكونوا يُحسنوا التكلم باليهودية، بل بلسان هذا أو ذاك الشَّعب، فوبختهم ولعنتهم، وضربتُ منهم رجالاً، ونَتف شعرهم، واستحلفتهم بالله قائلاً: لا تعطوا بناتكم لبنيهم ولا تأخذوا بناتهم لبنيكم"(5).
كم يبدو العنف، حسب النص الآتي، مقدساً في العقيدة الدينية كسياسة: "هاءنذا بزجري أجفِّف البَحر، وأجعل الأنهار قِفراً، وينتنُ سمكها بِعدم الماء، ويموت من العطش، أُلبس السَّموات سَواداً، وأجعل كسوتهنَّ المِسح"(6). تحققت هذه الخلفية في أكثر من ممارسة من قبل الدولة اليهودية ضد الآخر. ربما كان أبرزها ما عُرف في القرآن بأصحاب الأخدود، ورد في سورة البروج: "والسماء ذات البروج، واليوم الموعود، وشاهد ومشهود، قتل أصحاب الأخدود، النار ذات الوقود، إذ هم عليها قعود، وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود، وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد"(7). حُرق أصحاب الأخدود وهم المسيحيون على يد الملك اليهودي ذو نواس (صاحب الضفائر) في تشرين الثاني السنة 523 ميلادية، وحسب وثائق مخطوطة سريانية، تؤيد ما ورد في القرآن "بدئ بحرق الكنيسة وفي داخلها كثير من رجال الدين والعلمانيين. وكان عدد من الشهداء من النساء (و) جمع اليهود رفات كل الشهداء وأحضروها إلى الكنيسة، حيث كدسوها، ثم أحضروا الكهنة والشمامسة الإنجيليين والأفدياقون والقراء والمكريسين والعلمانيين رجالاً ونساءً، فغصت الكنيسة من جدارها إلى جدارها بحوالى ألفي شخص، حسب أقوال الذين قدموا من نجران، ثم جمعوا الحطب حول الكنيسة من الخارج وأضرموا النيران، وهكذا أحرقوا الكنيسة بكل ما فيها"(8).
بعد زوال السلطة وقف العنف اليهودي مع المجوسية ضد الأديان الأخرى، فقد وشى اليهود ضد المسيحية الحديثة عند ملوك الفرس، مما أسفرَ عن قتل المئات منهم. لقد مارست الدولة الزرادشتية أو المجوسية العنف ضد المسيحيين والمانويين بشراسة، بعد إفتاء رجل الدين المجوسي كرتير بقتل المخالفين لعقيدة الدولة. فمن ضحايا حملات العنف تلك ذبح الرهبان والقسساوسة، وملاحقة المانويين أينما كانوا بعد قتل زعيمهم ماني وحشو رأسه بالتبن. ذبحت الراهبة مرثا بسبب رفضها قبول الزواج واعتناق المجوسية. قالت لذابحها: "لا تربطني لأني أقبل الذبح بسرور من أجل ربي"(9).
أما أبشع ممارسة عنف مارستها الدولة الدينية المجوسية ضد المسيحيين هي ما عرف بالاضطهاد الأربعيني السنة 341 ميلادية. استمرت المذابح بالرهبان والقساوسة، وكان أول المقتولين الجاثليق (رئيس كنيسة المشرق) مار شمعون برصباعي ومئة وثلاثين قساً وكاهناً، وقد استمرت المذبحة عشرة أيام (10). ترد الأخبار عن إعدام نساء، لمجرد مخالفتهنَّ العقيدة المجوسية، بقسوة وعنف لا مثيل لهما، فقد مزقوا أجسادهنَّ وهنَّ على قيد الحياة، بعد أن اقتادوهنَّ إلى خارج المدينة "ودقوا وتدين لكل واحدة، وطرحوا كل امرأة بين الوتدين بعد ربطها بيديها وقدميها كالحملان التي ستنحر، ومن ثم نشروا أجسادهنَّ إلى نصفينن فقطعوا السيدات إلى ستة أجزاء، ووضعوهنَّ في ست سلال علقوها على ست قطع من الأوتاد المتشعبة التي غرسوها في الأرض"(11).
نقف أمام نص إنجيلي يتناقض تماماً مع دعوة المسيحية إلى المحبة والسلام. قال السيد المسيح: "لا تظنوا أني جئت لأحملَ السَّلام إلى الأرض، ما جئت لأحمل سَلاماً بل سيفاً"(12). وورد النص في عبارة أخرى "جئت لألقي على الأرض ناراً، وما أشدَّ رغبتي أن تكون قد اشتعلت"(13). حاول مفسرو الإنجيل تأكيد عدم مخالفة النص للسلام والمحبة لأنه قصد المستقبل وما يحدث فيه من خلافات ومعارك بين المؤمنين وغير المؤمنين، أي سيتنازع في دعوة المسيح الأبناء مع آبائهم. لكن هل أغفلت الدولة الدينية مثل هذا النص، واستخدامه في العنف الأُصولي المسيحي، الذي ظهر جلياً في القرون الوسطى ضد رجال الدين أنفسهم؟ لا نعتقد هذا. فأي معترض على حكم الكنيسة وإجراءاتها هو صاحب هرطقة، وتعني اتخاذ طريقة مخالفة في التفكير وبالتالي ملحداً يستحق الموت حرقاً. ولم يتلاش هذا العنف إلا بعد فصل الكنيسة عن الدولة في بلدان أوروبا! كان عدد ضحايا عنف الدولة المسيحية بأسبانيا لوحدها، حسب أمين عام محكمة التفتيش والقس الأسباني جوان أنطونيو ليورنت، خلال ثمان سنوات فقط في السنة (1480و1488ميلادية) ثمانية آلاف وثمنمئة ضحية أحرقوا في النار حرقاً، وستة وتسعين ألفاً وأربعمائة وتسعين نالهم عقاب صارم بين السجن والتعذيب والقتل بلا حرق، وقد عدَّ القتل خنقاً أمنية يتمناها المحكومون بالحرق في النار، وبين السنة (1408-1508 ميلادية) قُتل حرقاً في النار واحد وثلاثين ألفاً وتسعمائة واثني عشر، وطالت العقوبات الصارمة الأخرى واحداً وتسعين ألفاً وأربعمائة وأربعة وتسعين إنساناً(14). كان الغرض من محاكم التفتيش إرهاب جميع المسيحيين الجدد والقدامى على السواء، وذلك لمحاربة الهرطقة (اتخاذ طريق في التفكير الديني غير طريق الكنيسة الرسمية).
كان أبرز رجال الكنيسة، وهي في الدولة، عنفاً القس توماس توركيمادا. فمن بواكير أفعاله قتل طبيبه الخاص حرقاً بتهمة تنجيس الصليب، وإصدار أمراً بتعذيب المتهمين، بانتزاع لحم أجسادهم بآلة الكلابة، وانتزاع أطفال اليهود المطرودين من أسبانيا من آبائهم، لتنصيرهم(15). ومن أكثر البابوات عنفاً كان لويس الرابع واسمه كارافا جوفاني، فقد أحرق بروما عدد من المتهمين بالبروتستانية، وقرر محاكمة أي راهب لا يعظ ضدها، وكان الناس في زمنه يتوقعون "إصدار أحكام أشد بشاعة وإرهاباً"(16).
قال مؤرخ كاثوليكي حول عصر بولس الرابع: "كان رجال محكمة التفتيش الذين لم يفتر البابا عن حضهم يشمون الهرطقة في حالات كثيرة، ما كان المراقب الهادئ الحذر ليكشف فيها أثراً لهرطقة... وحرض الحاسدون والمفترون على بذل الجهد في تسقيط الكلمات المريبة من شفاه رجال كانوا عمداً راسخة للكنيسة ضد المبتدعين، وعلى تلفيق تهم الهرطقة لهم... وبدأ عصر إرهاب فعلي ملأ روما كلها بالخوف"(17).
أخذ البابا المتشدد يتدخل في أدق تفاصيل حياة الناس الشخصية. إضافة إلى تدخله في العبادة، ومتابعة الذهاب إلى الكنيسة بالقوة والامتناع عن محرماتها، حرم قراءة أي كتاب لم يحمل اسم المؤلف والمطبعة وتاريخ النشر، وأي كتاب لم يحصل على أذن نشر من الكنيسة. وبعد أن تحمل ما تحمل الناس من عسف هذا البابا احتفلوا فرحاً بوفاته ثلاثة أيام "حطمت خلالها الجماهير تمثاله، وجرته في الشوارع، ثم أغرقته في نهر تيير، وأحرقت مباني محكمة التفتيش، وأطلقت سجناءها، وأتلفت وثائقها"(18). فرح بموته ليس الهراطقة فقط بل مسيحيين ضاقوا بإرهاب البابا.
نفذ مَلِك البرتغال أوامر الراهب الأصولي توركمويمادا في فصل الأطفال عن آبائهم اليهود الرافضين الدخول في النصرانية. قال أحد الأساقفة :"لقد رأيت أطفالاً كثيرين يسحبون إلى حوض التعميد من شعورهم"(19). نختم القول في إرهاب رجال الكنيسة الحكوميين أن عنفهم طال الموتى بعد الأحياء فإذا "ثبتت تهمة الهرطقة على رجل متوفٍ فإنه ينبغي محاكمته، فإذا ثبت أنه مذنب يجب نبش قبره لاستخراج جثته وإلقائها في النار، كما ينبغي مصادرة أملاكه"(20).
كانت حصة المسلمين من هذا الاضطهاد كبيرة جداً بأسبانيا، فقد صدر مرسوم السنة 1499ميلادية يخير المسلمين بين الدخول في المسيحية وبين مغادرة أسبانيا. وبأثر هذا المرسوم أُغلقت المساجد، ونصبت المحارق العامة، التي "التهمت جميع الكتب والمخطوطات العربية"(21). وفي السنة 1502 ميلادية خُير مسلمي قشتالة وليون بين المسيحية والمغادرة، واعطيوا مهلة شهرين فقط، مع منع أطفالهم دون الرابعة عشر والإناث دون الثانية عشر من مرافقتهم إلى خارج أسبانيا(22).
وبالوقت الذي فيه أعتبر الكاردينال يشلييه هذا القرار أنه قرار همجي مجده الراهب المتشدد بليدا بالقول: "أمجد حادث في أسبانيا منذ عهد الرسل". ومعلوم أن عهد الرسل من الأهمية في تأسيس المسيحية، فتأمل كيف يفكر مثل هذا الراهب! بطبيعة الحال، تسرب العنف الديني إلى عامة الناس، وهم الغوغاء المحتشدون أمام المحارق، وكان يمزق ويحرق بلا محاكمة مَنْ تورط بجدال أو مناقشة لأمر أو شأن من شؤون الكنيسة. فمن التعسف والظلم أن يطلب رهبان محاكم التفتيش من المعتقلين تحمل مصاريف اعتقالهم، وتعذيبهم ليكرهوا على الاعتراف. وتُفلسف الكنيسة التعذيب والإعدام حرقاً أنه مغفرة تنجي المتهمين من الجحيم(23).
يعكس مشهد ما عُرف بالمكتب المقدس صورة العنف والإرهاب الذي مارسه رجال الكنيسة أوان محاكم التفتيش التي استمرت قروناً، فبعد أن يُلقى القبض على المتهم أثناء الليل، وكانت عادة جارية، يرمى في غرفة حالكة الظلمة، وضع في نهايتها مائدة مغطاة بقماش أسود، عليها شمعة وإلى جانبها صورة المسيح والصليب والكتاب المقدس، وإلى جانب المائدة منصة يجلس عليه المحققون بثيابهم البيضاء، وأغطية رؤوسهم سود، ومن على المنصة تتلى جرائم المتهم. يعيش المتهم وسط ديكور المكتب المقدس لحظات التحضير للموت، فهناك السواد والصليب والصمت. ولأن قانون الكنيسة يحرم إراقة الدماء لذلك أجاز الراهب العنيف توركويمادا التعذيب بلا إراقة الدماء (24)، وهو نوع من التحايل على القانون.
استخدم محققو محاكم التفتيش أفضع آلات التعذيب مع المتهمين بالهرطقة أو الانحراف الديني. كشفت الحملة الفرنسية في سجن محكمة طليطلة، آلة تعذيب مفزعة على هيئة تمثال "العذراء مريم، غطت مقدمته المسامير والسكاكين، وكانت هناك رافعة مركبة في التمثال، فتقوم بتحريك ذراعي التمثال بحيث يحتضنان ضحيته ويضغطان بشدة على جسده حتى تنكسر عظامه"(25).
عندما يسري العنف الديني، وينهمك رجال الدين والأتباع في القتل من أجل الله، تتعطل كلمات الله الداعية إلا السلام والمحبة، بل يصبح تتداولها، في دورات العنف، ضرب من ضروب الترف، فمَنْ يصدق أن يسعى الرهبان إلى ابتكار آلة تعذيب على هيئة مريم العذراء، ليشعرون المتهم بغضب المسيحية، وأن يجعلوا الكتاب المقدس والصليب من مفردات تسويق الإرهاب؟ وأن يحول البابوات الصليب راية للعنف والقتل في الحملات الصليبية، تلك الحملات التي أعلن عنها البابا أربان في مرسوم السنة 1095ميلادية.
ينقل القس ريمند مشهداً من مشاهد تلك الحروب المروعة المقدسة، قال: "شاهدنا أشياء عجيبة، إذ قطعت رؤوس عدد كبير من المسلمين، وقتل غيرهم رمياً بالسهام، أو أرغموا على أن يلقوا أنفسهم من فوق الأبراج، وظل بعضهم الآخر يعذبون عدة أيام، ثم احرقوا في النار، وكنت ترى في الشوارع أكوام الرؤوس والأيدي والأقدام، وكان الإنسان أينما سار فوق جواده يسير بين جثث الرجال والخيل"(26).
يروي القس المذكور ما هو أفضع وأثقل على ذاكرة ومخيلة البشر بالقول: "إن نساء كنَّ يقتلنَّ طعناً بالسيوف والحراب، والأطفال الرضع يختطفون بأرجلهم من أثداء أمهاتهم، ويقذف بهم من فوق أسوار، أوتهشم رؤوسهم بدقها بالعمد، وذُبح السبعون ألفاً من المسلمين الذين بقوا في المدينة. أما اليهود الذين بقوا أحياءً فقد سيقوا إلى كنيس لهم، وأشعلت فيه النار وهم أحياء، واحتشد المنتصرون في كنيسة الضريح المقدس، وكانوا يعتقدون أن مغارة احتوت في يوم ما المسيح المصلوب، وفيها أخذ كل منهم يعانق الآخر ابتهاجاً بالنصر، وبتحرير المدينة، ويحمدون الرحمن الرحيم على ما نالوا من فوز".
بعد النظر في هذه الذاكرة المثقلة بالعنف والإرهاب الديني هون القس العراقي الأب البير أبونا بروح مسيحية جديدة، من الاضطهادات التي طالت قومه في الشرق على يد المسلمين، بقوله: "لا ينبغي التسرع في الحكم على هذه الإجراءات التعسفية، التي كانت وليدة نفسية خاصة، وفترة من التعصب الديني، الذي تكرر أحياناً في التاريخ، لا سيما في عهدي المغول والعثمانيين. ألم يستخدم الأمراء المسيحيون أنفسهم في العصر الوسيط إجراءات أكثر صرامة في أوروبا ضد اليهود، وفي أسبانيا ضد المسلمين؟ فعلينا أن نضع ونفهم الأمور، في إطارها التاريخي، دون أن تثير في نفوسنا استياءً أو حقداً أو تزمتاً دينياً"(27). حصل هذا في الدولة الدينية، والتي يحرم الاعتراض عليها ومقاومتها، لأنها تنطق بلسان الله. لكن ما استفادت منه شعوب القارة الأوروبية أنها وضعت حداً لوجود مثل هذه الدولة، ولم تستمر تبرير وجودها بعبارة أنها لم تتقيد بالشرع الصحيح، أو أنها انحرفت عن الدين، ومعنى هذا أن هناك أملاً في قيام دولة دينية خالية من الجور، وهذا ما تتحدث به الأحزاب الدينية. لا يخلو كتاب التوراة ولا كتاب المجوس من نصوص سلام ومحبة ووصايا تجذب المؤمن بدعوتها للتسامح، إلا أنها لا قيمة لها في عرف الدولة الدينية، فهي لا تسود بالمحبة وبلا إكراه في الدين بقدر ما تسود بمقارعة المعارضين بالعنف.
الهوامش
(1) ول ديورانت، قصة الحضارة، الجامعة العربية-الدائرة الثقافية، 23ص41.
(2) سِفر صموئيل الأول 15/1-3.
(3) سفر القضاة 1/8.
(4) سِفر الخروج 19/12-13.
(5) سِفر نحيما 13/24-25.
(6) سِفر أشيعيا 50/2-3.
(7) سورج البروج، الآيات 1-8.
(8) بُرك، هارفي و بورسك، قديسات وملكات، ترجمة فريدة بولص وميسون الحجيري، دمشق: دار قَدمُس للنشر والتوزيع، 2000، ص134-137.
(9) المصدر نفسه، ص100.
(10) الأب البير أبونا، تاريخ الكنيسة الشرقية، الموصل: المطبعة العصرية، 1973، 1ص40-41.
(11) قديسات وملكات، ص104.
(12) إنجيل متي 10/34.
(13) إنجيل لوقا 12/49.
(14) قصة الحضارة 23ص90.
(15) المصدر نفسه 23ص92.
(16) المصدر نفسه 27ص241.
(17) المصدر نفسه.
(18) المصدر نفسه 27ص242.
(19) المصدر نفسه 23ص95.
(20) رمسيس عوض، محاكم التفتيش في أسبانيا، ص56.
(21) قصة الحضارة 23ص97.
(22) المصدر نفسه.
(23) المصدر نفسه 23ص82.
(24) محاكم التفتيش في أسبانيا، ص58-59.
(25) المصدر نفسه، ص59.
(26) قصة الحضارة 16ص25.
(27) تاريخ الكنيسة الشرقية 2ص175.

يتبع
[email protected]