( ليس هذا المقال دراسة أو بحثاً في ثورة 14 تموز أو قائدها الزعيم عبد الكريم قاسم. إنه بعض من الذكريات التي عشت أحداثها، أسردها كما حدثتْ ومرَّتْ بتعليق بسيط بعض الأحيان هو أكثر قرباً إلى الإيضاح، أينما وجدتُـه ضرورةً. ربما لا يتفق معي بعض الكتاب أو القراء، وهذا من حقهم. ولكني أذكر ما شاهدتُ وعشتُ، فقد تكون الحقيقة مرّة، ولكنَّ إخفاءَها أو عدمَ ذكرِها لا يُلغي حدوثَها. الظروف التي كانت حينذاك تختلف عن الظروف الحالية، وإن كان ثمة تشابه بينها، وأخطاء الماضي أنجبت كوارثَ الحاضر، وستؤثر على المستقبل إنْ لم نتداركْها.)

من ذكريات كركوك 1960

بعد أن انقضت سنة التأجيل من الخدمة العسكرية، وقد وفّـرتُ خلالها من عملي في الصيدليات مبلغاً محترماً وحصلت على قبول من جامعات في دول مختلفة، قدمت طلباً للسفر، فرُفض الطلب ومُنعتُ من السفر ما لم أ ُؤَدّ خدمة الإحتياط، فكان عليّ الإنخراطُ في دورة الإحتياط التي بدأت في 15 تشرين الأول 1959 وشملت التدريب كجندي مدة أربعة أشهر والعمل سنة كملازم إحتياط. كانت الدورة تجمع خريجي كليات متنوعة. وكان في دورتنا الأستاذ جلال الطالباني الذي كان عائداً من تشيكوسلوفاكيا وكان حينذاك سكرتيراً للزعيم الكردي الملا مصطفى البرزاني. ولما كانت أسرَّ تنا في الثكنة مرتبة حسب الحروف الهجائية، كان يفصل بيني وبينه الزميل (ثابت). وكان يقص علينا قصصاً مشوقة عن الدول الإشتراكية. بعد الإنتهاء من الدورة، حصلت القرعة، وكان حظي الفرقةَ الثانية في المدينة الملتهبة حينذاك كركوك التي لم يمض على مجزرة كركوك المؤسفة فيها سوى أشهر معدودات. وكركوك كانت مقرَّ الفرقة الثانية التي تشمل الشّـمال كُـلَّه. كان فيها مستشفى عسكري (مركز المدينة) ووحدة ميدان طبية فعالة خارج المدينة نُسِّبتُ إليها.

كان تشكيل وحدة الميدان الطبية موزائيكاً حقاً، فقد كان آمر الوحدة الرائد الطبيب كمال (كردي)، وكان الملازمون الإحتياط : الدكتور غازي (مسيحي عربي من الموصل)، الدكتور يوسف (كلداني من بغداد)، طبيب الأسنان شامل (أرمني من كركوك)، الصيدلي بهجت (عربي من الكاظمية)، ملازم أول قحطان – مدرب (عربي من كركوك)، ملازم أول طبيب دائم مظفر (كردي من كركوك)، الرئيس (النقيب) عبد الكريم- إستخبارات ( غير معروف، فهو يتكلم العربية والكردية والتركية كأبنائها – من كركوك ). ورغم الميول السياسية المتنافرة والقوميات المتباعدة والديانات المختلفة، كنا منسجمين جداً كأصدقاء وزملاء لم يحدث بيننا أي شقاق أو خصام. فكنا نجتمع في صيدلية الوحدة في فترات الراحة أثناء الدوام ونطلق النكات و(التصنيف) والأشعار الساخرة على من هم برتبة عسكرية عليا، فقد وجدنا زيادة الرتب يصحبها نقص في العقل، لأنهم لا يقرأون، فاستنتجنا ( التناسب العكسي) بينهما! فإذا رأينا ضابطاً ذا رتبة عالية يهرف، نقول إنه (تناسب عكسي). أما الجنود الذين يتجاوز عددهم المائتين فهم خليط من كرد وتركمان وعرب. وفي الأشهر الأخيرة إلتحق جنود عرب من جنوب العراق للخدمة في الوحدة، وكان بعضهم مصاباً بالبلهارزيا (البول الدموي)، ولذا عملت طلباً إلى مديرية الطبابة الرئيسية في بغداد لتجهيزي بقناني (فؤادين) المعروفة في علاج البلهارزيا، وكان هذا أول طلب لهذه المادة في تأريخ كركوك.

في كركوك (1960)

كنا نسكن في النادي العسكري، الملاصق لمستشفى كركوك العسكري، التي يتواجد فيها أطباء إحتياط وثابتون، عرب، أكراد وتركمان وآشوريون وأرمن وغيرهم، ومن مختلف مدن العراق بمختلف الإتجاهات والميول. وفي المساء حيث تكون مدينة كركوك خالية من المارة، وحيث خطر الإغتيالات يسودها بعد حوادث كركوك المحزنة، نجلس في النادي العسكري، فرادى وجماعات، حول الموائد التي تنتصب عليها قناني المشروبات وأقداحها وصحون المزّة والطعام. ويشرع الضباط بالشراب حتى ساعة متأخرة من الليل، وعذرهم أنهم لا يستطيعون النوم إن لم يشربوا، وكنت أجلس مع جماعتي أشاركهم في أكل المزة وهم يشربون، والواقع أنَّ عدم مشاركتي إياهم الشرابَ الذي يذهب بالعقول كان عدم استساغتي له، كما كان هذان البيتان في يرنّـان في خاطري دوماً:

يا سـيِّدي وأمـيرَ الـناسِ كـلِّـهمُ
قد جـار في حكمه من كان يسقيـني
إنّي سهـوتُ عن السّـاقي فصيَّرني
كما تـراني سليـبَ العـقل والدّيـن ِ

وكذلك البيت

ولمّـا شربـناها ودبَّ دبـيـبُـها
إلى موضع الأسرار، قلتُ لها قفي
وقد يهفو اللسان بما يكون فيه حتف الإنسان.

كان الحديث دائماً يدور في السياسة والكوارث المتوقعة الذي ستجلبها سياسة عبد الكريم قاسم غير الحكيمة. فالفئات المضادة ناشطة في كل أنحاء العراق، وهي تحظى بإسناد مباشر وغير مباشر منه. وكنا نسمع هنا في كركوك عن الإغتيالات التي تجري كل يوم مما جعل أحدنا، الدكتور سامي من مستشفى كركوك العسكري، وهو ضابط احتياط أيضاً، كان يشاركني غرفتي التي أسكن فيها (موجود حالياً في أميركا)، أن يستنجد بأهله في بغداد ليتوسطوا في نقله إلى بغداد، وبعد أنْ تمَّ له ذلك، حسدناه كثيراً. وكمثل على الفوضى غيرِ المُسَيطَـرِ عليها، أغتيال مائة شخص وشخصين في مدينة الموصل وحدها في تموز 1960. ورغم كل شيء، لم يحرِّك الزعيم عبد الكريم قاسم ساكناً. كان الجو متوتراً جداً ومخيفاً حقاً. وفي أحد الأمسيات، حيث كان قائد الفرقة الزعيم محمود عبد الرزاق ( إبن خالة الزعيم، كما قيل) منعزلاً عن الضباط ويجلس وحيداً، وكان رجلاً بسيطاً ومسالماً، دخل الملازم الأول الطبيب مظفر مرتعباً وتكلم مع القائد بضع دقائق وقفل عائداً إلى بيته، فهو من أهل كركوك. في اليوم التالي سألته عما جرى، فأخبرني ، وكان يُسرني في بعض الأمور، أنه بعد أن أغلق (عيادته أو مختبره) ركب سيارته المرسيدس الحمراء ذاهباً إلى بيته، وعند مروره بالقلعة أ ُطلق عليه الرصاص، فداس دواسة البنزين بأكثر ما استطاع وهرب خارج المدينة. وعندما أخبر قائدَ الفرقة بالأمر، أخبره أنه لا يستطيع عملَ أيِّ شيء يحميه، وأنَّ لديه ثلاثة خيارات : أن يغيّر لون سيارته من حمراء إلى زرقاء مثلاً، أو أن يقدم طلباً لنقله من كركوك ويغادرها، أو أن يستقيل من الجيش فيريح ويستريح. في النهار كنت أعمل في صيدلية وحدة الميدان الطبية تتخللها فترات كثيرة من الراحة والثرثرة بين منتسبيها من الضباط. وكان يشاركنا بعض الأحيان بعض الضباط الكبار من الجيش الذين كانوا يجلسون معنا رغم الرتب العالية التي يحملونها على أكتافهم ويثرثرون معنا، وكان أبرزُهم وألطفُهم العقيد محمود (كردي) آمـر الفوج الثاني الذي هو فوجنا، فقد كان إنساناً طيباً جداً ومثقفاً كنا نستثـنيه من (التناسب العكسي)، وكان يحسبنا إخواناً له ويحترمنا كذوي مهن طبية، وليس ضباطاً حقيقيين، وكان يقصّ علينا ذكرياتِه عن الإتحاد السوفييتي الذي زاره ضمن وفد عسكري حينذاك. كانت الفرقة الثانية تستقبل ضباطاً ذوي اتِّجاهات مختلفة يُرسلون إليها من بغداد للإلتحاق بها. فتجد البعثي والقومي والإسلامي والشيوعي. وهم أكثر تطرفاً، ربما لكثرة العدد، من ضباط وحدة الميدان الطبية. فمثلاً كنّـا ثلاثةً نتناول طعام العشاء في النادي العسكري فجلس إلى مائدتنا ملازم أول مصلاوي، وفجأة قال بغضب ظاهر إنّ الستائر الموجودة تحمل نقوشاً ذات لون أحمر فلو استطاع لمزقها! سأله واحد منّـا، إذا كنت لا تتحمّل اللونَ الأحمر، فلماذا تفضل الطماطا الحمراء؟ أجاب، آكلها بعد أن أقطعها تقطيعاً أو أطبخها بعد أن أهرسها. فتمتم آخر منا، وماذا عن دمك ؟ وأمل ثالثنا بلطف، ربما يجري في عروقه دم أزرق! فغادر مائدتنا حانقاً. والحوادث كثيرة. والحقيقة أنَّ كركوك كانت المنفى للناشطين بمختلف ميولهم. وفي كركوك يُوزَّعون على المناطق الشمالية ليكونوا (موزائيك) في صفوف الجيش، وهم بهذا، حسب تفكير القيادة في بغداد، يكونون (عيوناً) على بعضهم، فلا تُتاح لهم أيّ فرصة لتشكيل تكتلات (خطرة) على نظام بغداد، وقد يكون هذا صحيحاً لو لم يكنْ ثمة تمايز، فالمعارضة كانت في المناصب العليا والحساسة. ومن يكن مع الزعيم يتلقَّ المصائب والويلات، وهذا شي غريب حقاً، فلم يحدث في تأريخ العراق أو العرب و لا يُمكن تصديقه أيضاً في تأريخ الدول الأخرى، أنَّ من يكون مع الحكومة ورئيسها يعاقب من قبل تلك الحكومة ورئيسها. فمثلاً، مدير الإستخبارات في الفرقة الثانية كان العقيد عبد الغني الراوي الذي ذكره هاني الفكيكي في كتابه (أوكار الهزيمة) بأنَّ (عبد السلام طلب إلى عبد الغني الراوي عند مغادرتنا القاعة التحضير لإعدام 150 ضابطاً شيوعياً، الأمر الذي رفضه الراوي بسبب قلة العدد وتواضعه). هذا الرجل الذي عيَّـنَـُه عبد الكريم قاسم في مناصب حسّـاسة رفيعة، هو الذي أمر بتنفيذ حكم الإعدام في عبد الكريم قاسم عندما كان رئيسَ المحكمة الصّورية التي حاكمته ورفاقَه (إعترافات عبد الغني الراوي المنشورة بخط يده في جريدة الوفاق اللندنية عدد 325 في 16 تموز 1998). فهل كان الزعيم عبد الكريم قاسم لا يعي ما كان يفعل ؟ أم الغرور، أم العناد أم قلة خبرة في السياسة أم مزيج من هؤلاء جميعاً؟ ومن المحتمل أنّـه شعر بالندم الشديد، ولاتَ حين مندمٍ، وهو يرى نفسَه مُحـاطاً بمنْ أتى لحفظ (التوازن)، وأعينهم تتطاير شرراً ونظرات الحقد منطلقة للفتك به. فقد كانت غلطةَ العمر المُمـيتة. وكيف يقول مثلاً من كان ذا خبرة ودهاء، حسبما ذكر عبد الكريم فرحان " كلما اتفق المتآمرون جاءني واشٍ بأنبائهم " – قالها قاسم يوم 6 كانون الثاني 1963 بمناسبة عيد الجيش في اللواء التاسع عشر- (حصاد ثورة ص 250)، مما جعل المتآمرين يفتحون أعينهم جيداً ويأخذون حذرهم.

ولما كان الجيش فوق الميول والإتجاهات، حسب إرادة الزعيم، كان من يقرأ جريدة (إتحاد الشعب) من العسكريين يعاقَب، والذي يقرأ الصحف المناوئة للشيوعيين، كالفجر الجديد والحرية والثورة وغيرها، لا يعاقَب! وشُكِّلت لجان لمحاكمة (المتهمين) بالقراءة، فكانت ازدواجية. و لكنَّ الحكم كان ازدواجياً أيضاً، فقد كان الحكم بيد الزعيم عبد الكريم قاسم ورفاقه المغلوبين على أمرهم رسمياُ، ولكنَّ السيطرة كانت بيد البعثيين والقوميين وأنصارهم عملياً. فالإزدواجية كانت موجودة حتى في سياسة قاسم العسكرية، والجمهورية لما تُتِـمَّ سنتَها الثانية. فهي جزء من طبيعتنا، فإذا فقدناها، ولسنا على فقدانها بقادرين، فكيف نحيا بدونها؟

ولكنَّ الخيالَ يجمح بي أحيانا،ً فأتصـوّر العراق بلا أحزاب تتصارع وتتفجر دماً، وأنَّ الجمهورية العربية و دول الجوار لم تتدخلْ في شؤون العراق، ولم تهبط فكرة القومية العربية وتُـلقي بظلالها الثقيلة القاتمة على أجواء العراق، وأنَّ عبد الكريم قاسم، وهو العفّ النزيه، تُـرك يعمل كما يهوى ويشاء لتعمير العراق وإسعاد شعبه، أو أنّ الزعيم قاسم أجرى الإنتخابات بعد السنة الأولى للثورة أو ما يقاربها، وأتت حكومة مدنية ديمقراطية يكون هو على رأسها، فهل سنكون الآن كما نحن عليه ؟ ومنْ يدري، فقد يكون انقلاب على تلك الحكومة الديمقراطية ما دام للجيش ذراع طويل وقوي متين! التخيّـل حسن والتفاؤل أحسن ولكنَّ التأريخ لا يجامِل.