شغل موضوع السيدة وفاء قسطنطين الرأي العام المصري بشكل غير متوقع، وأنا عائد من رحلة إلى القاهرة لا أبالغ إذا قلت أن الثقة بين المسلمين والأقباط وصلت حدها الأدني منذ أكثر من خمسة عقود نتيحة للتداعيات السلبية لهذه الحادثة والتراكمات التي لم تعالج في ملف قضية المواطنة والتي تدهورت بشكل لافت للنظر في العقود الثلاثة الأخيرة.
وقد أفردت الصحف المصرية صفحات مطولة لهذه القصة ويؤسفني أن أقول أن أغلب ما كتب – باستثناءات قليلة – يبعد تماما عن الحقيقة وعن المهنية الإعلامية وعن المسئولية الأخلاقية، وهو ما لا يعكس أزمة في الصحافة فحسب ولكن في منظومة القيم التي تحكم المجتمع المصري والتي تتدهور بمعدل متسارع وما الصحافة إلا التعبير الأكثر فجاجة عن هذا التدهور.

ما هي الحقيقة في كل ما جري؟

الحقيقة كما عرفتها بنفسي من مصادرها خلال هذه الزيارة أن سيدة زوجة كاهن لأسباب عائلية وشخصية بحتة أرتأت أن المخرج من هذه الأزمة العائلية أن تدخل فى دين الأغلبية ففيه الحل لمشكلتها الاسرية وفيه الهرب من أزمتها الشخصية الحادة كما تصورت. إلى هذا الحد فالموضوع طبيعي ويحدث كثيرا في المجتمعات الدينية المتخلفة مثل مصر حيث يكون تغيير الدين والأحتماء بدين الاغلبية،كما يتصور البعض، فيه المخرج من ازمات شخصية ومالية واجتماعية، وهو حادث متكرر فما الجديد أذن؟

المتعارف عليه لدى الباحثين المحايدين المنصفين، سواء كانوا مصريين أو أجانب، أن الدولة المصرية وأجهزتها وخاصة جهاز مباحث أمن الدولة تقوم بدور غير محايد في مسألة تغيير الدين في مصر، فإذا قرر شخص أعتناق الإسلام تدخل هذه الأجهزة وكأنها طرف أساسي مساند لعملية التغيير بما في ذلك التستر على جمعيات ومنظمات وأفراد ترتكب جرائم في هذه الأطار ويخرج دور الأمن من مقاوم للجريمة إلى متستر على الجريمة ومشاركا فيها، وهذا الوضع يحدث في أسوأ المجتمعات الدينية المتخلفة وللأسف يحدث هذا في مصر بشكل واسع في العقود الثلاثة الأخيرة. وقد رصد باحثون غربيون هذه الظاهرة وكتبوا عنها مقالات وأبحاث نشرت بشكل أساسي في الغرب. أما إذا كان الشخص يريد تغيير دينه من الإسلام إلى المسيحية تقوم نفس الأجهزة بمطاردته وتعذيبه وينتهي به الأمر إما إلى التراجع أو الهرب إلى الخارج أو يفقد كل شيء في الداخل بما في ذلك تحوله إلى ضيف دائم على مباحث أمن الدولة.

في مصر توجد لوائح منذ عشرات السنين تنظم عملية تغيير الدين ومنها أن يجلس رجل دين مسيحى ليعظ الشخص الذي يريد أن يغير دينه لأثناءه عن هذه العملية والتأكد من سلامة قناعاته. هذا الحق فرغ من مضمونه بضغط مباحث أمن الدولة المصرية، فأصبح رجل الدين يلتقي بالشخص في حضور مباحث أمن الدولة وفي جو يغلب عليه طابع الإرهاب والتخويف ولمدة قصيرة لا يستطيع من يريد تغير دينه أن يفكر في التراجع إذا أقتنع في هذا الجو المشحون بالتخويف والمساندة الامنية والإنفعالات الأسرية والغسيل الدماغي،وتتم العملية والدولة بكل جبروتها تقوم بدور الخصم فى مواجهة اسرة مكلومة وكاهن مغلوب على امره؟

ماذا حدث في موضوع زوجة الكاهن؟

كل ما حدث في هذا الموضوع تحت ضغط المظاهرات القبطية التي قادها في الأساس أخو زوجة هذا الكاهن وأفراد بلدتها، أضطرت الكنيسة الى الإصرار على تطبيق حق الإرشاد في جو محايد وهادئ ولوقت كاف، وتحت الضغوط كان لها ما كان وعدلت المرأة بمحض رغبتها وسجلت ذلك في محضر رسمي أمام النيابة العامة.
ومن وقتها وهناك حالة هياج في الصحافة الأمنية في مصر، وللأسف أيضا من شخصيات أسلامية كبيرة تمثل زبائن دائمة على منتديات حوار الحضارات في العواصم الغربية والشرقية.

ولوضع النقاط على الحروف هناك إجماع قبطي لمتسه بنفسي في الداخل والخارج على ثلاثة أمور يتعين أن تتحقق :

الطلب الأول : لجنة محايدة تضم شخصيات مسلمة وقبطية محترمة وحكيمة تذهب بنفسها لمقابلة السيدة وفاء قسطنطين وتتأكد من أنها أختارت ما أختارته بإرادتها الحرة بدون ضغوط من أحد، وإذا رغبت أمام هذه اللجنة أن تعتنق الإسلام فهذا حقها الذي لا يجادل أحد فيه ولا تستطيع الكنيسة أو غيرها أن تحرمها من ممارسة هذا الحق. وأنا أدعو أن يرأس هذه اللجنة شخصية مسلمة لها مصداقية مثل سعد الدين إبراهيم أو رفعت السعيد أو طارق حجي أو هشام قاسم رئيس المنظمة المصرية لحقوق الإنسان أو بهي الدين حسن رئيس مركز القاهرة لحقوق الانسان أو ترأسها سيدة مثل هالة مصطفي، ويمكن أن تكون هذه اللجنة من المجلس القومي للمرأة برئاسة السيدة سوزان مبارك وخاصة أن الموضوع يتعلق بحقوق امرأة في أختيار عقيدتها أو من المجلس القومي لحقوق الإنسان، بل أن الأقباط يثقون تماما في إنسانية وعدالة ورحابة صدر الأمام الأكبر شيخ الأزهر وليس هناك مانع من أن يرأس هذه اللجنة بنفسه سماحة الأمام الأكبر ويتأكد بنفسه ويستمع بشخصه ومعه أعضاء اللجنة من السيدة وفاء قسطنطين حتى نضع حد لهذه البلبلة المفتعلة.بالطبع يقبل الاقباط ان تكون اللجنة عربية او دولية يرأسها حتى مفكر اسلامى بارز مثل رضوان السيد او شخصية مرموقة مثل الامير طلال بن عبد العزيز.
المطلب الثاني : الذي يطالب به الأقباط هو وضع قانون ينظم الحريات الدينية يطبق على الجميع وينبع من الأعلان العالمي لحقوق الإنسان، وتشمل الحريات الدينية كما جاءت فى الاعلان العالمى لحقوق الانسان :

أولا : الحق في اعتناق دين ما أوعدم أعتناق أي دين، والحق في تغيير هذا الدين بشكل طبيعى وسلس وبدون أي مضايقات.وتشمل ثانيا : الحق في الإجهار العلني للمعتقد وممارسة العبادة وإقامة الشعائر والطقوس والمواكب الدينية والحج إلى الإماكن المقدسة. وتشمل ثالثا : الحق في أن يكون المرء محميا بواسطة القانون والقضاء في كل فعل يمثل تعديا على الممارسة الحرة للديانة.وتشمل رابعا : الحق في إقامة أو تأسيس بيوت العبادة والمحافظة عليها وأن يكون هناك قانون موحد ينظم بناء دور العبادة للجميع بدون تفرقة، والحق في الإجتماع فيها لإقامة الاحتفالات الدينية.وتشمل خامسا : على إزالة خانة الديانة من كل الهويات الشخصية والأوراق الرسمية وغير الرسمية وتجريم من يطالب بمعرفة دين الأخر. وتنطوي أخيرا على حرية التعليم الديني وتلقين المعتقدات الدينية والحق في مساحة إعلامية دينية مناسبة.
إن صدور قانون للحريات الدينية يجعل الدين كما هو في المجتمعات الغربية مسألة شخصية لا دخل لأحد فيها وإنما تمثل حالة خاصة بين الإنسان وإلهه. أنني كشخص علماني ناشط في الدفاع عن الحريات يؤسفني بشدة ما وصلت إليه حالة الاحتقان الديني والهوس الديني في المجتمع المصري، حتى أصبح الدين قاسما مشتركا في كل مفردات الحياة وهذا شيء مزعج حقا ومظهر من مظاهر التخلف والنكوص الإنساني إلى حالة بدائية منفرة.
على الذين يتباكون على وفاء قسطنطين أن يطالبوا بقانون عادل للحريات الدينية، إذا كانوا يؤمنون بها أصلا، فقد أثبتت الأحداث أن هذه شخصيات متعصبة، تحمل خطابا عنصريا تفجيريا للمجتمع المصري وتريد ان تقفز عليه فى لحظة فوضى وتخريب.
المطلب الثالث : الذي يطالب به الأقباط ومعهم دعاة الحريات والحقوق هو تشكيل لجنة تقصي للحقائق عن الأوضاع الحقيقية بين المسلمين والأقباط والمشاكل التي تتعرض لها الأقلية القبطية بدون رتوش أو كلمات مجاملات كاذبة. وقد تكونت لجنة برئاسة رجل فاضل هو د. جمال العطيفي وكيل مجلس الشعب عام 72 وقدمت توصيات هامة في هذا الملف وللأسف لم تطبق الحكومة المصرية أي من توصياتها، وعند تشكيل لجنة العطيفي كانت المشاكل محدودة جدا والآن وصلت المشاكل إلى ظلم وإضطهادات وهي تحتاج إلى لجنة محترمة على غرار لجنة العطيفي تبحث هذا الملف الشائك وتضع توصيات ملزمة لحله.
مسألة وفاء قسطنطين لم تكن تستحق كل هذه الضجة ولكنها للاسف أظهرت تأكل الحياة المدنية فى مصر بشكل مخيف، وعند ظهور العصبيات الدينية يغيب العقل وتدفع الاقليات الدينية ضريبة فادحة، وهو ما يحدث للاقباط منذ اكثر من ثلاثة عقود ولا يزال.

[email protected]