أليس للهوية العراقية حقها من قبل حقوق الحزب والطائفة والقومية؟

تُنبئ المجازر الجماعية، التي طالت أهل العراق من كل جهاته وفي كل بلدانه، أن هناك مسحاً شاملاً لأرواح العراقيين بالسيف والبارود. يقتلون مجاميع مجاميع، أمام المخابز والمستشفيات، وفي الأسواق، وأثناء تشييع الجنائز، فجراً وأصيلاً. فهي الأماكن والأوقات المثلى لتنفيذ فتاوى القتل. نزولاً من الموصل إلى الحلة، والنجف، وكربلاء، والبصرة. وصعوداً مع دجلة والفرات إلى بلد، وسامراء، وحديثة، والقائم، ناهيك ببغداد التي لا يجف خضابها بالدم، وبأربيل التي تنزل إلى باحتها قطعان الشر بين عيد وآخر.
باتت اللعبة لتكرارها أسهل من ركوب المرجوحة على لاعبيها. فمع التكرار يصبح التفجير والقتل وقطع الرؤوس لهواً. فكيف إذا اصطحب ذلك بشارة بالجنة، وتزويج حور العين، وبطولة مقاومة قومية وإسلامية؟ مثلما كان الحال مع الأردني، قاتل عشرات الآمنين من أهل الحِلة، الذي بُشر ذووه بقتل وجرح ثلاثمئة عراقي نبطي من أهل السواد، فأخذوا يتلقون التهاني، دون أن يسائلوا بقانون مكافحة إرهاب، أو بحقوق دماء.
لعبة تجاوزت منطق الموت الكارثي، إلى ما هو أبعد من التنبؤ بالفناء. فما أن هدأت المشاعر على قتلى الحلة حتى كانت مجزرة بلد، وبعدها مجزرة الموصل، ومحاصرة قرى المدائن بالأكفان والقبور. فهل سيفنى العراقيون باللعبة الطائفية؟ التي نحاول إبعاد الحديث حولها إلى أرض مهجورة، حتى لا يتضرر بجرثومتها الزرع والضرع. لكن الإصرار بالتهور في ممارسة إثارة الطائفية، وسكوت المنتظرين ثمارها من فقهاء الشر والفِرقة، ستأتي بنبوءة شر لا محالة، لا يسلم منها ضريح موسى الكاظم ولا عبد القادر الكيلاني، ولا هيئة ولا مرجعية. لذالم يبق غير الأمل في رص الصفوف وجمل السيوف لدحرها. فالكلام والمناشدة، وطلب المعونة، لا تكفي مدافعة عن الحِياض. لكن كيف ومتى يرص العراقيون ظهورهم إلى حائط هويتهم البلدانية، وألسنة حال وجهائهم تعلو بحقوق شخصية وحزبية ومذهبية وقومية؟
دعوني أكون أكثر صراحة وأخرج من طور الاعتدال والأدب في الكتابة إلى التذكير بقصة صاحب الخنجر، عندما داهمه أحد الراغبين به، ولما انتهى من فعلته سأله أخوه، وكيف حصل هذا وخنجرك بحزامك؟ قال له: سأحتاج إليه في ساعة ضيق! فقال له: وهل هناك أشد ضيقاً من هذه الساعة؟ فهل سيخفي العراقيون، شعباً وحكومة، خناجرهم إلى ساعة ضيق أكثر من فواجع الحلة، والموصل، وبلد، وفواجع بغداد المتتالية؟ ويرون أحبتهم جثامين منزوعة الرؤوس مكشوفة في العراء. هل سيخفي العراقيون خناجرهم فيمسون جميعاً مشروع فناء؟ والحال يمنعهم من شراء الخبز، ومراجعة مراكز الطبابة، وإرسال أولادهم إلى المدارس.
فالبعثيون و(المقاومون) من شيوخ الدين وتجار الجريمة عند كلمة سيدهم، لا نترك العراق إلا أرضاً بلا بشر! فما أنتم فاعلون، هل تكتفون بالمناشدة، وانتظار ابتسامة ملك الأردن، ورئيس سوريا، وآيات إيران، أم تحسبون لفنائكم ألف حساب؟ مرت أسابيع على إعلان نتائج الانتخابات، ولم يتفق السياسيون على شيء. فهم حائرون مجاملون بعضهم بعضاً على توزيع المناصب، ومستقبل كركوك، وإرضاء هيئة علماء المسلمين، ونسب النفط، والأوقاف، يتراضون والبلد كما ترونه مكلوماً يثغب دماً. الكل مشغول بحزبه، أومنظمته، أو عشيرته، أوطائفته، أوقوميته، وكأن هذه التفاصيل خرجت من العماء، من خارج أرض ومياه ليس اسمها العراق. أرى هذا التمزق، في الخطاب الحزبي والمذهبي والقومي، كارثة موازية لحمامات الدم. فلا يُسمع في الإعلام العالمي والعربي والمحلي غير حقوق العرب والكرد والسُنَّة والشيعة والتركمان وغيرهم من المكونات. فأصبحت تسبق اسم أحمد الجلبي مفردة الشيعي، وعدنان الباججي مفردة السُنَّي، وجلال الطالباني مفردة الكردي وهلم جرا.
لكن ليعلم العراقيون، كرداً وعرباً وآثوراً وتركماناً، مسلمين، شيعة وسُنَّة، وصابئة، وأيزيديين ومسيحيين، ويهوداً، وكاكائيين، وعقائد أخرى لم يسمع بها العالم بعد، أنهم نبط أهل السواد كافة. هذا ما نسبهم إليه نسابو التاريخ، وما يتعامل به معهم اليوم قتلة العصر وسفاحوه. فلو غربت وشرقت في أُصول أسماء المدن من سامراء والبصرة وحتى أربيل وكركوك لوجدتها أسماء نبطية منحوتة من مفردات السواد العامر بالخير.
ليس للعراقيين غير عض النواجذ على هويتهم العراقية، وأن يعاندوا بها الموت والدنيا كاملة، أما الحقوق الأخرى فالدستور كفيل بحفظها. لا أرى للكردي كرامة ولا للعربي نعمة، من أهل الرافدين، وهم يدسون هويتهم العراقية في التراب، ويقدمون عليها الحزب والطائفة والقومية. والله لا يجد الكردي العراقي قرباً إلى الكردي التركي مثل قربه من العراقي الآخر. ولا يجد العربي العراقي قرباً وحنواً عند الأردني أو السوري مثلما يجدهما عند مواطنه العراقي الآخر. ولا يظن التركماني أنه سيسعد بالميل إلى أنقرة، فهي أبعد كثيراً من عاطفته وتاريخه البلداني العراقي. كلنا نبط من أهل السواد. وتعالوا نرى ما حكم النبطي عند فقهاء الظلام، ومؤسسي الفتن بين الشعوب.
دفع التمييز بمعاملة النبط أهل السواد ابن وحشية الكلداني، أحمد بن علي بن المختار بن عبد الكريم بن جرثيا بن بدنيا بن برناطيا (ت بعد 291هـ)، إلى ترجمة كتاب "الفلاحة النبطية". فقد بلغ اضطهاد أهله النبط، سكان العراق الأوائل، وقد استمر ذلك حتى عصور متأخرة ليظهر أثره في النظرة لجنوب العراق بعبارات مثل: (شروكي) و(معيدي)، إشارة إلى الدونية في المواطنة. كان ابن وحشية بابلياً كسدانياً. "ومعنى الكسداني نبطي"(النديم، الفهرست)، من نواحي بابل. عدَّ له النديم في "الفهرست" حوالي ستة عشر كتاباً، أحدها في قومه النبط. وكان أطرفها كتاب "طرد الشياطين"، وأخرى في الأصنام، والطب، والكيمياء، والسحر. بيد أنه أشتهر بكتاب "الفلاحة النبطية".
كان باعث ترجمة "الفلاحة النبطية" هو تعريف الناس بحقيقة النبط. وحمية من المترجم على قومه مستنبطي خيرات الأرض، مما سنراه في نصوص وأحاديث. قال في مقدمة الكتاب: "إن قصدي الأول وغرضي إنما هو إيصال علوم هؤلاء القوم. أعني النبط الكسدانيين منهم، إلى الناس وبثها فيهم. ليعلموا مقدار عقولهم، ونعم الله تعالى عندهم في إدراك العلوم النافعة الغامضة، واستنباط ما عجز عنه غيرهم من الأمم"(الفلاحة النبطية). أشار ابن وحشية إلى مَنْ عارض ترجمة الكتاب من قومه، بما سماه بضرورة كتمان العلوم والشريعة، إلا أنه وافق على كتمان الشريعة، التي هي دين أجداده، واجتهد بعلانية العلوم. قال: "فإني أخالف أسلافنا وأسلافك في كتمان العلوم، ووافقهم في كتمان الشريعة".
ويصل ابن الوحشية إلى ذروة امتعاضه من معاملة قومه معاملة عنصرية فيقول: "والله إن الغيرة على الناس تحملني على إظهار بعض علومنا لهم، لعلهم أن ينتهوا عن ثلب النبط، وينتبهوا من رقدتهم". ما شمر ابن الوحشية عن ساعديه وترجم كتاب الفلاحة وغيره، إلا وقد فاض غيضاً من تصنيف قومه من الدرجة الثانية، وهم أهل البلاد الأوائل، ولنرى في السطور الآتية مظاهر تلك المعاملة.
حبرَ الجغرافي ابن الفقيه (ت حوالي 903 ميلادية) في "كتاب البلدان" فصلا كاملاً في ثلب النبط. نقل من الحديث النبوي وأقوال الخلفاء والفقهاء ما يثير العجب، وتتبرأ منه الإنسانية. جاء في الحديث: "لا يدخل الجنة نبطي". "إذا تفقهت الأنباط في الدين ونطقت بالعربية وتعلمت القرآن فالهرب الهرب منهم". و"ثلاثة هم شرار الخلق: الشيطان الرجيم وإمام يخشى غشه وظلمه، والنبطي إذا استعرب".
بطبيعة الحال، لا نصدق أن أبا القاسم النبي محمد صرح بمثل هذه الأقوال المنافية إلى قوله "لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى". ولشدة تعلقه بصحابته الأعاجم، مثل سلمان الفارسي قال: "سلمان منا أهل البيت". لكنه التعصب الذي فرضته القبيلة في الإسلام، وأصبح صوتها المدوي مع الأذان.
كتب الحجاج (ت95هـ) إلى عامله بالبصرة، الحكم بن أيوب، يأمره في إجلاء النبط عنها: "أنظر في كتابي هذا فأجلِ من قبلك كمن الأنباط وألحقهم بسوادهم، فإنهم يفسدون الدين والدنيا". لكن العامل ترك مَنْ يقرأ القرآن ويتفقه في الدين. فكتب الحجاج إليه مهدداً: "أجمع من قبلك من الأطباء ثم نم بين أيديهم، فليفتشوا عروقك، عرقاً عرقاً، فإن وجدوا فيك عرقاً نبطياً قطعه (هكذا وردت) والسلام"(ابن الفقيه،كتاب البلدان) وغير هذا كثير.
ورغم ثقافة الجاحظ العالية، وأصله الزنجي غير العربي، ضمن كتابه "الحيوان" بثلب النبط والسخرية منهم، لأنه يعيش حالة ثقافية سيادية. قال وهو يتحدث عن القِرد: "شبه وجه النبطي بوجهه". وقال: إن لهم أضراساً غير أضراس البشر، وذيولاً، وهذا ما كان يشاع عنهم بين الناس، على الرغم من أنهم زراع الأرض، ومستنبطو خيراتها كما تقدم ذلك. بينما يعيش الآخرون من أمراء ووزراء عالة عليهم.
ظلت كلمة النبطي تطلق للذم في الوسط الثقافي، ومجالس المناظرات. فحصل أن حذر الخليفة عبد الله المأمون (ت218هـ) المتناظرين من ألفاظ البذائة في المناظرة، ومنها النعت بالنبطي. قال بشر المريسي: "حضرتُ المأمون أنا، وثمامة (ابن أشرس المعتزلي)، ومحمد أبي العباس الطوسي، وعلي بن الهيثم فتناظروا في التشيع، فنصر محمد بن أبي العباس مذهب الإمامية ونصر علي بن الهيثم مذهب الزيدية، وشرق الأمر بينهما إلى أن قال محمد بن أبي العباس لعلي بن الهيثم: يا نبطي، ما أنت والكلام! فقال المأمون وكان متكياً فجلس: الشتم عي، والبذاء لؤم، وقد أبحنا الكلام وأظهرنا المقالات فمَنْ قال بالحق حمدناه، ومَنْ جهل وقفناه، ومَنْ ذهب عن الأمر حكمنا فيه بما يجب، فأجعلا بينكما أصلاً، فأن الكلام الذي أنتم فيه من الفروع"(ابن طيفور، كتاب بغداد).
وسيادة هذه الثقافة هي التي جعلت أبا الطيب المتنبي يقول هاجياً حاكم مصر كافور الأخشيدي، وقيل أيضاً هجا بها الوزير العباسي ابن الفرات، أو هناك مَنْ رحلها إلى الأخير، وهو نبطي من أهل بابل من صريفين (الشيخ كركوش، تاريخ الحلة):
بها نبطي من أهل السواد
يَدرس أنساب أهل العلا
وما يخص كافور منها:
وأســود مشفرة نصفه
يقال له أنت بدر الدجي
وورثت هذا الثلب مذاهب معاصرة. فأخذت تبيح إشاعة أن لأهل هذه الطائفة، أو هذا الدين ذيولاً. والسبب أن القول بالذيل يعني إخراجهم من البشرية إلى الحيوانية الصرفة، أو أنها إشارة إلى تشبيه الآخر بالكلب!
عزاء العراقيين، نبط السواد، وعرفوا بذلك لعلمهم في استنباط الماء والزرع، حتى غدت أرضهم سوداء لشدة اخضرارها، أن أعاظم الرجال والأئمة لم يحرجوا من انتسابهم إليها. ينقل عن الإمام علي أنه قال: "مَنْ كان سائل عن نسبنا فإننا نبط من كُوثى". وينقل عن عبد الله بن عباس أنه قال: "نحن معاشر قريش حي من النبط من أهل كُوثى، والأصل آدم، والكرم والتقوى والحسب، وإلى هذا انتهت نسبة الناس"(الحموي، معجم البلدان)، وكُوثى من نواحي بابل، يُنسب لها إبراهيم الخليل. كذلك قيل في نسب إمام الرأي والتسامح "ومن نبط بابل الإمام أبو حنيفة، واسم جده زوطى نبطي"(الخطيب، تاريخ بغداد).
فيا أهل العراق، من الجبل حتى أقصى الهور وطرفي البادية وفم الخليج، بكل ألوانكم ولغاتكم وأديانكم ومذاهبكم، لا تتعالوا على هويتكم العراقية، ولا تنساقوا وراء الأحزاب، التي بقصد وبغير قصد تطبق مقالات البعث في الالتفاف حول طائفة وقومية قبل الالتفاف حول العراق. فأنتم بكل شتاتكم القومي والديني والطائفي عند الآخرين نبط أهل سواد. ففتاوى القتل لن تعتق فئة من فئاتكم، كلكم مطلوبون. ولا تصدقوا ادعاء مفتيها، فقرن الشيطان لم يخرج بسوادكم، مادمتم لا تتعالون على هوية نسب علي بن أبي طالب نفسه إليها. وأسس فيها أبو حنيفة مذهبه. وفيها كتب اليهود كتبهم. ومن كنيستها بالمدائن امتدت المسيحية إلى الهند والصين وبلاد فارس. وإبراهيم الخليل لم تمسسه النار في ظلها الوارف. وقيل يونس، أو يونان، أعاده الله حياً من بطن الحوت في مائها.
لا تتعالوا على بلاد فيها متسع من الخير والألفة قلما توفر في بلاد الدنيا الأخرى. كم تبدو ذلولة لركبانكم، وكم تبدون قساة عليها. تغرزونها بخناجر فرقتكم وأنانيتكم، وكل منكم يهددها بتقطيع أوصالها أرباً أرباً. مهما تفرقتم إلى أشياع وأحزاب، أقليات وأكثريات، ومهما اختلفت ألسنتكم وتباينت أديانكم ومذاهبكم فلا عصمة لدمائكم من سيوف وفتاوٍ متربصة بكم، خارج وحدة هذه الأرض. فاشعروا، أنتم بين حِياض وطن ثابتة، لا في محطة سفر عابرة، كل يحاول أخذ حقيبته منها ويتركها مهجورة.
إن نسينا فيصل الأول فليس لنا نسيان مقولته: "العراق وطن القومية، وليس فيه سوى أمر واحد هو أن يُقال عراقيون فقط" (الوردي، لمحات اجتماعية). وإن نسينا عبد الكريم قاسم فليس لنا نسيان ما قاله فيه عبد اللطيف الشوّاف: "لم يكن لأي من عناصر النسب والعشيرة والمذهب وجهة العيش والعرق القومي أي تأثير على قراراته السياسية التي كانت تستهدف تطوير المجتمع العراقي كله بالتساوي والإخاء بين تعددياته المختلفة"(عبد الكريم قاسم وآخرون، الوراق 20004). وليس لنا أيضاً تكذيب الوزير الشوّاف، وقد عاشر عبد الكريم طوال فترة حكمه وآخر جلسة له معه كانت في اليوم السابع من شباط 1963، عندما قال: "لم أكن متأكداً ومازلت كذلك إلى الآن من حقيقة الانتماء العشائري له...كما أني لا أعرف انتماءه الطائفي، شيعياً أو سُنَّياً". ألا في ذاكرة سياسيي عراق اليوم بقية باقية من هذين الرجلين، فالجامع بينهما هو فعل التأسيس، الأول أسس الملكية والثاني أسس الجمهورية، يرممون بها ما تصدع، طوال خمس وثلاثين سنة، من عاطفة الهوية والشعور بالعراق أولاً.
يا أهل العراق، السَوَاد! يشملكم مديح أبي أحمد ابن أبي بكر الكاتب جميعاً:
لا تعجبنَّ مـن عراقيٍّ رأيت له
بحراً من العلم أو كنزاً من الأدبِ
ويشملكم ذم أعشى همدان جميعاً أيضاً، وهو يمدح قاتلكم ابن أبي يوسف الثقفي:
ويُنـزل ذُلاً بالعـراق وأهلـه
لِما نقضوا العهد الوثيق الموكَّدَ

[email protected]