-1- السلط من مدينة للسلام إلى مدينة للظلام

أنا أردني المولد والمنشأ والجنسية. وأنا ممن ولدوا في مدينة "السلط" الأردنية التي كان من المفروض أن تكون عاصمة الأردن عندما قدم إليها الأمير عبد الله بن الحسين من الحجاز ليؤسس في الأردن مملكته في بداية العشرينات، إلا أن السلطيين ضايقوا حاشيته، فاضطر للرحيل إلى عمان التي اتخذها عاصمة له. ومدينة السلط مدينة جميلة تقع على مجموعة من التلال منها تل "الجدعة" الذي تسكنه غالبية من العائلات جاءت من فلسطين ومنها عائلة الانتحاري (عريس الدم) "رائد البنا" الذي فجّر سيارة وقتل عشرات الأبرياء في مدينة الحلة.
ومدينة السلط كانت مطلع القرن العشرين حاضنة للنخبة الأردنية بفضل وجود أول مدرسة ثانوية أردنية فيها، خرّجت مجموعة من القيادات السياسية والإدارية والقضائية الأردنية. والسلط كانت في الماضي مدينة متسامحة وعفوية، لم تعرف التعصب الديني أو العرقي. فكان المسيحيون فيها وما زالوا يعيشون إلى جانب المسلمين والأغراب (ومنهم آل البنا وآل النابلسي وآل الجينيني وآل العمد وغيرهم) إلى جانب أهل البلد الأصليين الذي هم من العشائر الأردنية. ولم يبدأ التعصب وانتشار الأفكار الدينية السلفية في السلط إلا عندما بدأ بعض الشباب المتدينين من الدعوة إلى الانضمام الى جماعة الإخوان المسلمين في بداية الخمسينات وعندما اشتد الصدام بين عبد الناصر والإخوان المسلمين. وساعد على انتشار الإخوان في السلط كونها مدينة تضم أكبر عدد من "الأغراب" وذات بنية اجتماعية عشائرية محافظة وفقيرة. وزاد من انتشار عناصر هذه الجماعة الحظر السياسي الذي وقع على الأحزاب السياسية الأردنية في 1957 وامتد ثلاثين عاماً حتى 1987، حين خلت الساحة السياسية العلنية الأردنية كاملة للإخوان المسلمين.

-2- الإخوان المسلمون ظهراء صدام حياً أو ميتاً

خرجتُ من الأردن في نهاية الخمسينات لتلقي تعليمي في الخارج ولم أعد إلى الأردن بعد ذلك إلا في زيارات خاطفة. ولكني كنت أتابع ما يجري في الأردن من تغيرات سياسية واجتماعية. فقد سيطرت جماعة الإخوان المسلمين على الحياة السياسية الأردنية مدة ثلاثين عاماً (1957-1987) حيث شُلّت كافة الأحزاب السياسية ولُوحقت وسُجنت وطُردت من الأردن وبقيت جماعة الأخوان المسلمين – كتنظيم اجتماعي – هي الحزب الناشط على الساحة السياسية. فاستغلت الجماعة هذا الفراغ السياسي وانتشرت في طول البلاد وعرضها، وخاصة في ادارات التربية التعليم وادارات الخدمات العامة. وكانت قيادات هذه الجماعة في الماضي والحاضر كعبد الرحمن خليفة وعبد اللطيف عربيات وغيرهما من السلط. وفي ظل تدني مستوى المعيشة في الأردن وضيق فرص العمل وانتشار البطالة التي ارتفعت بشكل مخيف بعد حرب الخليج 1991 دخل الأردنيون في جماعة الاخوان المسلمين أفواجاً طلباً للمعونة المالية وفرص التعليم والعمل. ومن المعروف أن نظام صدام المقبور ضخَّ في جماعة الإخوان المسلمين في الأردن مبالغ هائلة منذ العام 1980 لوقوف هذه الجماعة إلى جانب صدام في الحرب العراقية – الإيرانية، ثم حرب الخليج 1991 وتأليب الشارع الأردني على حكام الخليج خلال حرب الخليج. ولعل قوائم "كوبونات النفط" التي كشفت عنها جريدة "المدى" العراقية خير دليل على ذلك. وأصبح الشارع الأردني بفضل الإخوان المسلمين وحزب البعث (القيادة القومية) الذي كان قوياً جداً في الأردن امتداداً للشارع العراقي الصدامي. بل إن نظام صدام كان يعتبر الأردن (عناصر الإخوان والبعثيين) الظهير الأول المساند والقوي لنظامه المقبور.

-3- زغاريد الإعلام الأردني في أعراس الدم

هذه البانوراما السريعة ربما تصلح للإجابة على أسئلة الكثيرين في الشارع العراقي الآن وفي الشارع العربي، ومجملها لماذا يتصرف أهل السلط هذا التصرف الجنوني الأخرق اللاحضاري واللاانساني واللاديني واللاأخلاقي، وهو ضد كل النواميس الدينية والأخلاقية والاجتماعية والحضارية عامة، ويقيم "أعراس الدم" في السلط للانتحاريين المجرمين الذين يقتلون كل يوم أبناء الشعب العراقي البريء؟
ولماذا يقف الإعلام الأردني من هذه الظاهرة ظاهرة (أعراس الدم) في السلط موقف المصفق، وموقف المرحب والمؤيد في كثير من الأحيان ؟
لماذا يطلق الإعلام الأردني زغاريد الحقد والإرهاب على أعراس الدم التي تقيمها السلط المخطوفة من قبل الأصوليين الارهابيين؟
هل ما زال هذا الإعلام يحلم بعودة صدام وملء جيوبه بذهب صدام الذي كان مسروقاً من دم الشعب العراقي؟
هل فقد آل البنا وغيرهم من العائلات السلطية التي تدفع بأبنـائها إلى المحرقة العراقية التي أقامها الزرقاوي وفلول البعثيين وأعداء المستقبل والحرية والديمقراطية في بلاد الشام عامة والعراق خاصة؟

-4- أعراس الإفلاس

إن السينما العالمية أو الرواية العالمية أو الخيال الانساني يعجز عن أن يصور لنا الصورة الجنونية التالية. ولا يمكن أن يتخيل صورة ما يجري لدى بعض العائلات السلطية التي فقدت الوعي والضمير والقيم الأخلاقية لكي تقيم "أعراس الدم" على جثث الأبرياء الطاهرين والشرفاء من أبناء العراق الذين لم يرتكبوا ذنباً دينياً أو أخلاقياً عدا أنهم تخلصوا من حكم الطُغاة البُغاة العُتاة.
فهل تقيم السلط أعراس الإفلاس الآن ؟
الإفلاس من التفكير والاغتناء بالتكفير.
الإفلاس من قيم الحرية والديمقراطية والاغتناء بأرصدة الدم المهدور مجاناً.
الإفلاس من القدرة على تضميد جروحنا النرجسية كما فعلت الشعوب الأخرى والاغتناء بالثأر العشائري وبالدم.
هل يمكن أن يتم تصديق ما يجري بالسلط وقراءة الخبر التالي دون الشعور بالخزي والعار والحيوانية والتجرد من كل القيم الإنسانية؟
اقرأوا هذا الخبر المقرف المقزز:
"اقامت عائلة البنا في مدينة السلط يوم أمس عرساً لابنها رائد البنا، الذي فجّر نفسه بسيارة مفخخة كان يقودها في مدينة الحلة واسفرت عن استشهاد وجرح ما يزيد عن 132 شخصا جميعهم من المواطنين العراقيين . ووقف والد الانتحاري يتقبل التهاني بهلاك أبنه بفخر واعتزاز في ديوان العشيرة في منطقة "الجدعة الوسطى" وسط مدينة السلط، دون أن يعي أن أبنه كان وراء لوعة وفجيعة عشرات الأمهات والأطفال الذين تسبب في استشهاد آبائهم".

-5-

أتوارى خجلاً
أنا كسلطي أشعر بالعار، عارنا بالسلط. وأتوارى خجلاً من الآباء العراقيين والأمهات العراقيات اللائي فقدن أولادهن وأطفالهن في هذه الغارات الانتحارية المجانية المجنونة والمدفوعة من قبل "فقهاء سفك الدماء" و "عشائر الدمار والغبار" المتخلفة التي يقودها الارهابي الزرقاوي.
على كافة الأردنيين الشرفاء أن يشعروا بهذا العار، عارنا بالسلط.
وأنا واثق أن كثيراً من النخب السلطية الليبرالية تشعر الشعور ذاته. وأنا واثق أن عائلة البنا وغيرها من العائلات السلطية التي ارتكبت في السابق مثل هذه الجرائم الأخلاقية سوف يلعنها التاريخ، وتلعنها الأجيال القادمة التي لن تصدق أن آل البنا، وغيرهم من العائلات بالسلط كانت تقيم "أعراس الدم" للمجرمين الذين قتلوا الأبرياء في العراق، وترشَّ على هذه الأعراس دم الانتحاريين الزنخ، بدلاً من العطر.
يا للعار.
عارنا بالسلط.

[email protected]