لقد سيطر الحدث الذي تم في مدينة السلط الأردنية من أسرة (رائد منصور البنا) قبل ايام قليلة، على المشهد السياسي في الساحتين العراقية والأردنية، وسط موجات عارمة من الغضب والحزن، التأكيد والنفي، الإعجاب والإستنكار، إلى الحد الذي أصبحت الحقيقة هي الأمر الوحيد شبه العائم والمغيب، وذلك بسبب حدة مشاعر الغضب والحزن العراقي، الصادرة من قلوب مكلومة حزينة، بسبب مقتل أبنائها، وهم محقون لا يلامون في حدة الغضب والحزن لأن الموت المجاني لايمكن أن يقابل بالزغاريد ودق الطبول، وقد أدى إلى تعويم القضية وتغييب الحقيقة طريقة تعامل الإعلام الأردني معها بشكل،ينطبق عليه المثل (جاء يكحلها فعماها)...لذلك كان السؤال : هل يمكن فكّ الإشتباك حول هذه المسألة بحيادية وموضوعية، خاصة أننا لا ينقصنا المزيد من التشرذم والفرقة، خاصة بين جارين كالعراق والأردن، بينهما من قواسم اللقاء أكثر بكثير من عوامل الفرقة، ولأن أوضاع العرب أصبحت فعلا (لا ترضي صديقا ولا تغيظ عدوا)، وأعتقد أن المعالجة الموضوعية المحايدة للحدث ممكنة، خاصة إذا كان من يحاول القيام بذلك لا مصلحة شخصية له لدى الطرفين، و يهمه فقط إقرار الحقيقة، دون القفز على مشاعر وأحزان المئات من الأسر العراقية التي فقدت أبناءها في ذلك الحادث الإجرامي الإرهابي بكل المقاييس، ودون تحميل الأردن شعبا و حكومة وملكا مسؤولية ما حدث قافزين ومتجاهلين عن العديد من الحقائق التي تصب لصالح الأردن عند التعاطي مع الملف العراقي...لذلك من مصلحة الشعبين أن نعيد ترتيب ماحدث.
لقد حدث التفجير الإرهابي المجرم في مدينة الحلة العراقية، موقعا مائة و ثلاثين قتيلا، ومائة وسبعين جريحا، كلهم من المدنيين العراقيين الذين كانوا متواجدين في وسط المدينة، ومن المهم التأكيد أنه لم يكن بينهم أي أمريكي، ومن المؤكد أن المجرم الذي إرتكب ذلك العمل الإرهابي، كان يعرف ذلك، لأنه كان يعرف مسبقا أنه سيفجر سيارته المفخخة بالديناميت في وسط مدينة عراقية وليس وسط قاعدة أمريكية، أي أنه متعمدا مع سبق الإصرار كان يريد قتل أولئك المئات من العراقيين. وبعد يومين من ذلك العمل الإجرامي نقلت العديد من وسائل الإعلام العربية ومنها الأردنية، ما صدر من عائلة (البنا) في مدينة السلط بوضوح، كان مفاده (أن أحد المقاتلين العراقيين إتصل بهم، مخبرا أنه صديق إبنهم، وأنه يزفه لهم شهيدا فهو الذي نفّذ تفجير الحلة). وفي اليوم التالي نقلت جريدة (الغد) الأردنية حديثة الصدور ويملكها رجل الأعمال الأردني محمد عليان، تفاصيل العرس الذي شهدته مدينة السلط، حيث تقبلت عائلة (البنا) التهاني بإ ستشهاد إبنها، وسط الزغاريد وموجات الفرح. وكما قلت في مقالي السابق، لا يمكن لوم الصحفي الأردني (النسور)، فهو قد نقل ما شاهده بعينيه. ظلّ الإعلام الأردني والمسؤولين الأردنيين ساكتين صامتين، إلى أن بدأت تتصاعد موجات الغضب العراقي، فصدرت في البداية إدانات خجولة خائفة من الناطقة الرسمية محاولة التشكيك في صحة البيانات الصادرة عن المراجع الدينية العراقية المدينة للحادث واللائمة للعرس السلطاوي !!!. وبعد أن وصلت موجات الغضب التسونامي العراقية حدها المزلزل، تغير الموقف الرسمي والإعلامي الأردني، ولكن بغباء شديد ولفلفلة للحقائق، فأساءت للأردن أكثر من العديد من المقالات والمواقف العراقية، فهو – وخاصة الإعلام الأردني – ليس (جاء يكحلها فعماها)، ولكنه إستهبل الشعبين العراقي والأردني، ففجأة علا صوت الناطقة الرسمية بإدانة العملية وإعتبارها عملا إرهابيا، وقام الأذكياء جدا في وزارة الداخلية الأردنية بتوقيف الصحفي الأردني (النسور) بحجة أنه زوّر حقيقة ما حدث في مدينة السلط، ثم وصل الإستهبال والإستغباء لعائلة (البنا)، وذلك واضح أنه بتعليمات رسمية، إذ أنكر والد القاتل المجرم، أنه أقام عرسا للشهيد المزيف، وقال من جديد مكذبا ما قاله سابقا، أن الشخص الذي إتصل به أخبره أن إبنه مات في الموصل، وليس في الحلة، ولم ينسى أن يأخذ دور المفتي، إذ أفتى (وكون إبني مات غريبا فقد مات شهيدا)، ولا ندري هل إستشار في فتواه هذه الشيخ القرضاوي والشيخ العتوم أم لا !!!.أما الإعلام الأردني فقد كان أكثر غباءا وتجنيا على الحقائق، خاصة إصرار بعض كتابه على أن ردات الفعل العراقية مسرحيات وتهريج من المخابرات الإيرانية و أحمد الجلبي، وهم يعتقدون أنهم بذلك يدافعون عن الموقف الأردني، ويحرجون أهالي القتلى والجرحى العراقيين، فهناك مئات من الفتلى والجرحى أيها الأذكياء الأغبياء، أيحتاجون للمخابرات الأيرانية وأحمد الجلبي كي يطلبوا منهم إعلان حزنهم ؟؟؟. هل جرّب واحد منكم فقدان أخيه أو أبيه أو أمه أو أخته في عمل إجرامي لا علاقة له بالدين والأخلاق ؟؟. إن حصل ذلك لواحد منكم هل كظم حزنه و دموعه إلى أن جاءه أحد يطلب منه إعلان حزنه ؟؟؟.

أما في الجانب العراقي الحزين بموت وجرح مجاني لمئات من شبابه، فقد تصاعدت الدعوات الشعبية والإعلامية إلى حد التظاهر أمام السفارة الأردنية في بغداد وحرق العلم الأردني، ودعوات بإرسال إنتحاريين عراقيين إلى الأردن للثأر، ومطالبات بمقاطعة الأردن وإقفال الحدود معها، والطلب بسن قوانين لمعاقبة الأردن...إلخ هذه الدعوات التي تصب كلها في حقل القطيعة بين الشعبين...ورغم الحزن العراقي الذي أقدره ويدمي كل قلب إنساني، إلا أنه ينبغي أن لا ننسى الروابط والقواسم المشتركة بين الشعبين والحكومتين، فلا يمكن نسيان العديد من مواقف الحكومة الأردنية حيث كان وما زال العراقي حر في الدخول والخروج من وإلى الأردن والإقامة فيه بدليل وجود مالا يقل عن مائتي ألف عر اقي حتى هذه اللحظة في الأردن، رغم مرور عامين على سقوط المجرم صدام. والعراقي يشتري و يبيع ويتملك في الأردن بحرية، ومن سافر مثلي ثلاث مرات من عمان إلى بغداد بعد سقوط الطاغية، ولاحظ السيل العارم من العراقيين الداخلين للأردن والخارجين منه، فعلا بما يزيد على عشرة آلاف يوميا، والطابور الطويل من الشاحنات التي تنقل للمواطن العراقي عبر الموانىء والأراضي الأردنية، كل ما يحنتاج، والتدريب المتواصل للشرطة والأمن العراقي في الأردن، وأمور كثيرة كلها تصب في مصلحة الشعبين العراقي والأردني، تجعل المواطن المخلص، يدعو إلى القفز على الأحزان وتوابعها، في محاولة لرتق ما خرّبه شاب قاتل وإعلام غبي، لأن أي قارىء عاقل لمجريات السياسة في المنطقة، يستطيع أن يؤكد أنه ليس من مصلحة الأردن إشاعة القتل والإرهاب في العراق، والحكومة الأردنية تعرف ذلك، ومن المؤكد أنه لا يوجد عاقل يصدق أن الحكومة الأردنية تشجع وتمول إرهابا في العراق، وبالتالي كما كتب بعض الزملاء لا يجوز أن نحاسب حكومة وشعبا على جريمة إرتكبها واحد من مواطنيها، وإلا لأصبحت كل الحكومات والشعوب في قفص الإتهام والمحاسبة، وأولها الحكومة والشعب العراقي، لأن النسبة العالية من عمليات الإرهاب والقتل والإجرام في العراق، يقوم بها مواطنون عراقيون !!!
لذلك آمل من كل قلبي الحريص على شعبي الأردن والعراق، أن تتوقف الحملات الإعلامية التحريضية من الجانب العراقي، والتضليلية المزورة للحقائق من الجانب الإعلامي الأردني، وأن تعمل الحكومة الأردنية كما طالبت سابقا بدراسة أسباب إستمرار التأييد الأعمى للديكتاتور المجرم صدام في الشارع الشعبي الأردني، متنبهين إلا أن هذا لا يدخل ضمن ياب (حرية الإعتقاد والتعبير)، لأنه في أعرق الديمقراطيات الغربية التحريض على الإرهاب ممنوع وتحت طائلة القانون، وفي ألمانيا وكل الدول الغربية الدعوات النازية ممنوعة والدعوة للمجرم صدام تماما مثل الدعوات النازية الممنوعة والمطاردة في عموم أوربا...كما ينبغي أن لا ينسى الأخوة المكلومين في العراق، أن هناك أقلاما أردنية على قلتها، وقفت معهم وما زالت، والموقف الأردني الرسمي تصاعد في الفترة الأخيرة، خاصة على لسان الملك عبدالله الداعم للإنتخابات العراقية، ولا يمكن نسيان التسهيلات التي منحت للناخبين العراقيين في الأردن...أقصد أيها الأشقاء في العراق والأردن، أن نقاط اللقاء والتوافق والمصالح المشتركة أكبر بكثير من نقاط الخلاف والفرقة...فمعا نلملم جراحنا وأحزاننا لمصلحة الشعبين، وخاصة لعراق جديد أشرقت شمسه، ولن تستطيع كل قوى الإرهاب حجبها...كلمة صدق في وقت لا ينقصنا فرقة وتشتتا...يا سامعين الصوت !!!.

كاتب المقال، أكاديمي فلسطيني مقيم في أوسلو

[email protected]