الزمان: عام 399 قبل الميلاد
المكان: أثينا عاصمة اليونان


المناسبة: محاكمة سقراط، أكبر الفلاسفة القدماء الذي كرس حياته لتعليم الناس الورع والفضيلة والسلوك السوي. وعندما بلغ الأربعين كرمه الأثينيون في معبد دلفي وخلعوا عليه لقب " أحكم الحكماء ". ولما سئل عن السبب في ذلك، قال: " لأن أغلب الناس يجهلون مدى عِظم جهلهم، وأنا أعرف مدى جهلي. " وهذا القول يجسد التواضع للعلم وكأنه يقول: رأيي صواب لكنه يحتمل الخطأ لجهلي بأشياء كثيرة. هذا الرجل العظيم أثار حفيظة رجال الدين، حراس الفضيلة، فاتهموه بإفساد عقول النشئ وبإدخال البدع في دين آبائه، لأنهم لم يعرفوا مدى جهلهم واعتقدوا أنهم يملكون الحقيقة الكاملة. فعقدوا له محكمة دينية حكمت عليه بشرب السم، فشربه ومات. حدث هذا قبل أن تدخل الديانات السماوية أوربا. وبانتشار المسيحية في أوربا في القرون الوسطى أصبح إخضاع العقل للتعاليم السماوية أمراً حتمياً مسلّماً به. وسلطت الكنيسة سيف الله البتار على رقاب العلماء. وفي عام 1611 ميلادية اخترع العالم جاليليو التلسكوب واستطاع أن يرصد النجوم والكواكب مما أقنعه بصحة نظرية كوبرنكس التي تقول إن الشمس هي مركز الكون، والأرض تدور حولها. ولسوء حظ جاليليو كانت الكنيسة قد أصدرت فتوى في ذلك العام جعلت نظرية كوبرنكس نظرية إلحادية لأنها تقول بعكس التعاليم الإلهية التي جعلت الأرض مركز الكون وجعلت الشمس تجري حولها. وعرضوا جاليليو على محاكم التفتيش التي أجبرته على التراجع عن أقواله العلمية ثم حكموا عليه بالحبس المنزلي إلى أن مات.
وفي عام 1553 حكمت محاكم التفتيش البروتستانتية على الطبيب والمفكر الإسباني ميخائيل سيرفيتيوس Michael Servetus بالحرق حياً، مع كتبه العديدة التي انتقد فيها فكرة الثالوث المسيحي مما أغضب عليه القس كالفن الذي كان قد أنشأ أول حكومية دينية في سويسرا. وفعلاً أحرقوا سيرفيتيوس يوم 27 أكتوبر عام 1553. حدث هذا بعد خمسة عشر قرناً من ظهور السيد المسيح الذي دعا للتسامح، ( من كان منكم بل خطيئة فليرمها بحجر )

وحتى الحركات السياسية التي جذبت أنظار الناس بعيداً عن الكنيسة أخضعوا القائمين بها للمحاكم الدينية بدعوى الهرطقة والبدعة. فالشابة الفرنسية جان دارك كانت قد ألّبت الفرنسيين ضد الاحتلال الإنكليزي واستطاعت أن تجذب إليها أعداداً كبيرة من الرجال ليحاربوا معها بادعائها أن الإيحاء يأتيها من الله عن طريق أصوات القديسين الذين ماتوا. واستطاعت في فترة قصيرة أن تلحق الهزائم الفادحة بالجيوش الإنكليزية. وأخيراً تمكن منها الإنكليز، ولكن لخوفهم من ردة الفعل إن أصابوها بضرر، سلموها للمحاكم الكنسية برئاسة قساوسة متعاونين مع الإنكليز ( وعاظ سلاطين) فأجبروها أن تتراجع عن مزاعمها وسجنوها، لكنها رجعت إلى زعمها الأول بأنها تسمع أصوات القديسين، فحكم عليها وعاظ السلاطين بالحرق حيةً حتى الموت في عام 1413م ولم يتجاوز عمرها التاسع عشرة سنة. وفي عام 1911 قدستها نفس الكنيسة التي أحرقتها، وجعلتها " سانت جان دارك " Saint Joan of Arc

ولم ينحصر كبت الفكر في الكنيسة المسيحية فقط، ففي عام 1656م تصادم الكاتب الفبلسوف ورجل الدين اليهودي باروش إسبنوسا Baruch Spinoza مع الحاخامات اليهود في هولندا التي كان قد هرب إليها من إسبانيا عندما أجلت إسبانيا يهودها. وكان باروش قد درس فلسفة توماس هوبز وديكارت وتأثر بهما وأثّر بدوره في الفلاسفة الألمان الذين تبنوا فلسفته. وكانت آراؤه عن الصالح والطالح والطيب والخبيث قد أغضبت الحاخامات، فقد عرّف " الطيب " بكل ما يجد فيه الإنسان متعة. وقد رفض باروش أن يفرّق بين العقل والإرادة، وقال إن الإنسان لا يمكن أن تكون له إرادة بفعل شئ يتعارض وعقله. وبدون أي تردد حكم الحاخامات بإخراج باروش من الديانة اليهودية ( لأنهموكلاء الله على الأرض)، فغيّر باروش اسمه إلى " بنيدكت " Benedict. وخسر الحاخامات الهولنديون الذين نسى الناس أسماءهم لكنهم لم ينسوا اسم باروش.

واستمر تعتيم الأديان على العقل وانتشر انتشار النار في الهشيم في الدولة الإسلامية، خاصةً بعد أن أغلق فقهاء بغداد باب الاجتهاد في القرن الثاني عشر الميلادي. واستمر هذا التعتيم حتى الآن. وصاحب هذا التعتيم قتل المفكرين، فمنذ أن أعدم الخليفة الأموي هشام المفكر جعد بن درهم في عام 742م بتهمة الزندقة أصبح قتل المفكرين وحرق كتبهم وحرق المكتبات العامة ديدن الدولة الإسلامية. ومن المفارقات العجيبة أن النهضة العلمية والترجمة وتعلم الفلسفة وصل ذروته في الدولة العباسية، وكذلك، للأسف، وصل قتل المفكرين ذروته فيها. فقتلوا ابن المقفع عام 760م بعد أن قطّعوا أوصاله وألقوها في النار، وابن العوجة في عام 772. وفي عهد الخليفة المهدي ( 775-785) أقاموا محاكم الزنادقة التي قتلت وحرقت أعداداً كبيرة من المفكرين مثل بشار بن برد الذي قُتل عام 784، وصلاح بن عبد القدوس عام 783، وحماد عجرد. وأعدموا الحلاج والسهروردي وغيرهم. والمفكرون الذين لم يُقتلوا اتهموهم بالزندقة وصادروا كتاباتهم، فمن هؤلاء ابن العربي وابن رشد وابن المقفع وأبو العتاهية وأبو تمام وأبو عيسى محمد بن الوراق، وغيرهم كثير.

وكنا نعتقد أن فقهاء الإسلام المعاصرين قد تعلموا من التاريخ وعرفوا أن جهدهم في محاولة كبت الفكر، مثل جهد سيزيف الذي حاول مراراً دفع الصخرة من أسفل الجبل إلى أعلاه، سوف يحالفه الفشل، فليس بمقدور إنسان إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء. ولكن فقهاء الإسلام استمروا في إصدار أحكام الإعدام على المفكرين مثل محمود محمد طه المفكر السوداني الذي شنقه أمير المؤمنين النميري، والمفكر والأستاذ الجامعي والكاتب الإيراني هاشم أغاجاري الذي حكمت عليه محكمة الملالي في مايو 2004 بالإعدام بتهمة الإساءة إلى الدين. ومن لم يحكم عليه الملالي والفقهاء بالإعدام مباشرة، حكموا عليه بالإعدام بطريقة غير مباشرة بأن أصدروا فتوى بردته وخروجه عن الملة مما حدا بالمتزمتين إلى قتلهم كما حدث مع المرحوم فرج فودة ومحاولة قتل الكاتب المصري نجيب محفوظ. وفي الجزائر قتلوا المئات باسم الإسلام منهم: محمّد بو خبزة وبختي بن عودة وسعد بختاوي وعبد الرّحمان شرقو، ويوسف فتح اللّه وزيان فرحات ويوسف سبتي، وعبد القادر علولة وزيان فرحات وغيرهم ( د. رجاء بن سلامة، إيلاف 31/أكتوبر/ 2004).

ومن لم يكفروه صادروا كتبه، فقد صادروا وليمة أعشاب البحر للكاتب حيدر حيدر بعد ثلاثين سنة من نشرها، وصادروا نقد الخطاب الديني للدكتور نصر حامد أبو زيد، وصادروا نوال السعداوي وجمال البنا والمفكر الأزهري د. أحمد صبحي منصور. وقرر مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر منع نشر وتداول كتاب «مدعو النبوة في التاريخ» لمؤلفه الصحافي وليد طوغان، وهو الكتاب الذي يقدم قراءة تاريخية واجتماعية ودينية للفترة التي سبقت عهد الرسول إلى الخلافة الفاطمية. وفي الوقت الذي صرح فيه مسؤول بمجمع البحوث الإسلامية بأن أعضاء المجمع استندوا في قرارهم بمنع نشر الكتاب إلى احتوائه على العديد من العبارات والألفاظ الخاطئة التي تثير الخرافات والبلبلة بين المواطنين وأنه ينكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة ( الشرق الأوسط 12 يناير 2005). كأنما المسلمين ليس لديهم ما يكفيهم من الخرافات فاحتاجوا وليد طوغان لينشر بينهم الخرافات. وكذلك أصدر مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر برئاسة شيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي قراراً بمصادرة كتاب بعنوان «ملامح النصوص الأدبية في العصر الحديث» للدكتور عبد الحميد علي عميد كلية اللغة العربية في جامعة الأزهر بالزقازيق والذي كان يدرسه لطلاب الكلية ضمن المقررات الدراسية وذلك لاحتوائه على نصوص أدبية وأشعار ومسرحيات تخالف المنهج الذي يسير عليه الأزهر. ( لأن مخافة الأزهر تُعتبر كفراً بواحاً)

وفي اليمن كفّر الشيخ الزنداني رئيس الجامعة الإسلامية السيد سمير اليوسفي رئيس تحرير " الثقافية " الحكومية أبرز الصحف اليمنية إثارة للجدل في الوسطين الثقافي والسياسي، خاصة وأن البعض يراها منبرا للعلمانيين واليساريين وشعراء الحداثة، بالإضافة إلى كونها تخوض دائما معارك قوية ضد الإسلاميين، وتهاجم بشراسة أفكار الغلو والتشدد . " ( إيلاف 28 يناير 2004)

وفي الكويت حُكم على الدكتور أحمد البغدادي الأستاذ بجامعة الكويت الذي أدانته محكمة الاستئناف الكويتية بتهمة «تحقير مبادئ الدين» على خلفية قيامه بنشر مقال في صحيفة «السياسة» الكويتية تحت عنوان «أما لهذا التخلف من نهاية؟»، اعتبرها البعض، من بينها هيئة المحكمة، تحتوي على آراء وأفكار تميل إلى تحقير الدين والاستهزاء به. ( الشرق الأوسط، 21 مارس 2005). وكل ما فعله الدكتور البغدادي أنه هاجم وزارة التربية والتعليم لاقتراحها إلغاء دروس الموسيقى وإحلال دروس تجويد القرآن محلها.

وفي الرياض اصّدرت المحكمة الجزائية حكماً على أستاذ اللسانيات في جامعة الملك سعود الدكتور / حمزة المزيني على دعوة حسبه قدمها ضده / عبد الله بن صالح البراك ، الأستاذ المشارك في قسم الثقافة الإسلاميـة " وقد تضمن الحكم ثلاثة أمور أولها المنع من ممارسة الكتابة وثانيها السجن أربعة اشهر والثالثة ( 200 ) جلدة. والجدير بالذكر أن القاضي حكم أولاً على د. المزيني بالسجن سنة والجلد 70 جلدة، وعندما اعترض الدكتور على صلاحية المحكمة لمحاكمة شكاوي المطبوعات، غضب القاضي وزاد الحكم. وبما أن المحكمة شرعية وتأتمر بأمر الشارع، كان لزاماً على القاضي ألا يحكم وهو غضبان، فقد قال الرسول (ص) "لا يقضي القاضي حين يقضي وهو غضبان" ومثل هذا عند مالك أن يكون عطشانا أو جائعا أو خائفا أو غير ذلك من العوارض التي تعوقه عن الفهم. و إذا حكم وهو غضبان، يحتمل أن يقال: لا ينفذ حكمه فيما وقع عليه النص وهو الغضبان، لأن النهي يدل على فساد المنهى عنه. ( بداية المجتهد ونهاية المقتصد للإمام ابن رشد القرطبي، كتاب الأقضية، الباب السادس، متى يقضي). والأهم في الأمر أن القاضي حاول منع الفكر وإبداء الرأي بجلد أستاذ جامعي يُفترض فيه أن يربي أجيال المستقبل. ولعمري هذه إهانة لا يعادلها إلا إهانة ضرب المرأة ضرباً غير مبرح، كما يقول الفقهاء. ولولا تدخل ولي العهد سمو الأمير عبد الله بن عبد العزيز لوقف هذا الحكم الممعن في احتقاره للعقل، لتحدثت كل بلاد العالم بتخلف العقلية الإسلامية.

وفي بعض الحالات ينقلب السحر على الساحر وتأتي الفتاوى بنتائج عكسية على المفتي لأن المجتمعات الإسلامية مجتمعات ذكورية أبوية لا تعترف بحق إبداء الرأي للمواطنين، فقد قررت محكمة الجنايات الكويتية برئاسة المستشار وائل العتيقي حبس الخطيب الديني الشيخ حامد العلي عامين مع وقف التنفيذ لإدانته بالطعن علنا وفي مكان عام في حقوق الأمير وسلطته لسماحه بالمشاركة في حرب تحرير العراق العام الماضي ( الشرق الأوسط 20 يونيو 2004). فالمواطن في غير بلادنا يحق له أن ينتقد ويهاجم قرارات حكامه دون خوف أو وجل.

ومنذ بداية الألفية الأولى قبل الميلاد وحتى اليوم ونحن في الألفية الثالثة بعد الميلاد، لم يكف رجالات الدين عن محاولة كبت العقل وادعاء امتلاكهم للحقيقة دون أن ينجحوا في مسعاهم. ولن ينجحوا لأن التطور هو سنة الحياة، وقد أظهر تطور الرسالات السماوية والعدد الهائل من الرسل والأنبياء أن لا شئ يظل راكداً وجامداً دون أن يموت أو يتطور. فهل آن لرجالات الإسلام أن يحترموا العقل ويكفوا عن عبادة النقل ؟ نأمل ذلك.