مايلفت النظر تعدد الأراء والأفكار في الكتابات والتصريحات التي يطرحها الأخوة سواء من المهتمين في القضايا القانونية والسياسية العراقية أو من المختصين في قضايا القانون في العراق، وخصوصاً بعد انطلاق الأصوات التي تطالب برفع مظالم العراق والجرائم البشعة التي أرتكبت بحق اهله الأبرياء من نماذج باعت اجسادها وضمائرها للشر والجريمة، ومن بين المطالبة العراقية الشعبية أن يتم رفع شكاوى الناس بواسطة الحكومة العراقية المؤقتة الى المحاكم والمحافل الدولية، مما يتطلب اولاً أن نستعرض حقيقة أنشاء وتشكيل المحكمة الجنائية الدولية، وللفائدة نستعرض ظروف تاسيس المحكمة الجنائية الدولية.
غير أن من المصادفات أن تكون الولايات المتحدة والعراق في العهد الصدامي البائد من بين الدول التي رفضت الأقرار والموافقة على معاهدة المحكمة الجنائية الدولية، وبعد سقوط صدام وقبل اشهر بادرت الحكومة المؤقتة للأنضمام والأعتراف بالمحكمة الجنائية الدولية الا انها تداركت ذلك الانضمام بسحبه في الوقت الحاضر وابقت العراق من بين الدول التي لم تقر بالمعاهدة وحسناً فعلت لحين النتهاء من محاكمة الدكتاتور وزمرة الشر التي أنتهت اجراءات التحقيق معها وتمت أحالة أضابيرها التحقيقية الى المحكمة الجنائية المركزية.
فقد تطورت العلاقات الدولية تبعاً للتطور والتفاهم الأنساني، وبدأت الدول تهتم بالقوانين الدولية التي تنظم علاقاتها وتحكم معاهداتها وأتفاقياتها الثنائية اوتركن الى التمسك بتطبيق المعاهدات المنعقدة بين دولتين او مجموعة من الدول، وبدأت تسعى حثيثاً الى مفاهيم متمدنة وأعراف تتناسب مع حقوق الأنسان وضمان كرامته ومايفرضه تطور العصر والعبور الى الألفية الثالثة وبما يضمن أستمرار الحياة البشرية وحمايتها من الأنتهاكات والمجازر والحروب والأبادة وحفظ كرامة الناس وحقوقها من التعسف والأفعال الجرمية وبما يضمن حماية حقوق الأنسان ويحميها بشكل عام كبديل عن الحروب والأنتهاكات الأنسانية التي كانت تحكم العلاقات بين الدول ، وبغية ايجاد سبل للعمل وفق صيغ قانونية متفق عليها، تنادت البشرية لتقنين الأسس العامة لحقوق الأنسان في الحياة والذي شكلت العامل المشترك لدساتير جميع دول الأرض فخرجت البشرية بالتوقيع على ميثاق الأعلان العالمي لحقوق الأنسان.
ومع أن الأعلان العالمي لحقوق الأنســـان الصادر في باريس في العاشر من كانون الأول ( ديسمبر ) في العام 1948 يعد من أهم وأشمل التطورات القانونية الدولية على الرغم من عدم وجود صيغة الألزام فيه عند صدوره، الا انه أصبح مصدراً قانونياً ووثيقة مهمة من وثائق القانون الدولي التي اكتسبت قبولا واسعا وخطوة انسانية مهمة للاعتراف بكرامة الانسان وحقه في الحياة الحرة الكريمة ، وصار علامة من علامات التطور الحضاري ومقياس حضاري من خلال تمسك أو عدم تمسك الدول بنصوصه.
وتشكل اهمية الاعلان العالمي في تمسك اغلب الدول الاعضاء بماورد فيه وتضمين النصوص القانونية الوطنية لهذه الدول بماينسجم وماجاء بالأعلان العالمي لحقوق الأنسان.
ومن بين أهم ماجاء في الأعلان العالمي منع جرائم الأبادة الجماعية والمعاقبة عليها والأقتصاص من مرتكبي جرائم الحروب والتحريض على الأبادة الجماعية والأشتراك فيها وعدم شمول هذه الجرائم بمبدأ التقادم المسقط للعقوبة بالأضافة الى شمول العقوبة لأي من الحكام المتمعين بحصانتهم الدستورية والتي تغطي سلطتهم وأفعالهم الجرمية أو الموظفين العامين أو الأفراد.
ونصت المادة السادسة من الأتفاقية الخاصة بمنع جرائم الأبادة الجماعية والمعاقبة عليها والتي اقرت وبدأ تنفيذها بتاريخ 12 كانون الثاني 1951 على مايلي :
(( يحاكم الأشخاص المتهمون بأرتكاب الأبادة الجماعية أو أي من الأفعال الأخرى المذكورة في المادة الثالثة أمام محكمة مختصة من محاكم الدولة التي ارتكب الفعل على أرضها، أو أمام محكمة جزائية دولية تكون ذات أختصاص أزاء من يكون من الأطراف المتعاقدة قد أعترف بولايتها. )).
ومعروف أن لكل دولة الحق في محاكمة مواطنيها بسبب جرائم الحرب أو الجرائم المرتكبة ضد الأنسانية، الا أن جرائم بعض الأفراد والهيئات تعدت النطاق الوطني لتصيب دول أخرى ومجاميع بشرية خارج نطاق عمل السلطات وسيادتها ، وتتعاون الدول بعضها مع بعض على أساس ثنائي أو متعدد الأطراف بغية أيقاف الجرائم والحيلولة دون وقوعها، وتتم مؤازرة الدول وتكاتفها في تعقب وملاحقة وأعتقال ومحاكمة الذين يشتبه بأنهم ارتكبوا مثل هذه الجرائم، وفي معاقبتهم بعد ادانتهم بالفعل.
وتطورالتطبيق العملي لهذه النصوص منذ صدور معاهدة فرساي مرورا بتشكيل المحكمة الجنائية الدولية الخاصة براوندا لعام 1994 والتي منحت سلطة محاكمة الاشخاص الذين ارتكبوا او امروا بارتكاب انتهاكات جسيمة للمادة 3 المشتركة بين اتفاقيات جنيف المبرمة في 12 في اب 1949لحماية ضحايا الحرب، وصولا الى حاجة المجتمع الانساني الى محكمة دائمية تقوم بتطبيق النصوص القانونية الواضحة بناء على التحقيقات الجارية من قبل اللجان المختصة.
ويذكر الدكتور شريف بسيوني في كتابه مدخل لدراسة القانون الانساني الدولي في الصفحة 127 : (( انه تم تشكيل خمس لجان تحقيق دولية منذ عام 1919 هي لجنة تحديد مسؤوليات مبتدئي الحرب وتنفيذ العقوبات ولجنة الامم المتحدة لجرائم الحرب ولجنة الشرق الاقصى ولجنة الخبراء الخاصة بيوغسلافيا السابقة 1992 ولجنة الخبراء الخاصة برواندا 1994، كما تشكلت اربع محاكم دولية خاصة هي المحكمة العسكرية الدولية لمحاكمة كبار مجرمي الحرب على الساحة الاوربية 1945 والمحكمة العسكرية الدولية لمحاكمة كبار مجرمي الحرب في الشرق الاقصى 1946، وثلاث محاكمات دولية منذ العام 1919 هي المحاكمات التي اجرتها المحكمة العليا الألمانية ( 1921 – 1923 ) والمحاكمات التي اجراها الحلفاء الاربعة الكبار على الساحة الاوربية ( 1946 – 1955 ) والمحاكمات التي اجرتها الدول المتحالفة في الشرق الاقصى بناء على توجيهات لجنة الشرق الاقصى. )).
وفي الفترة الممتدة من 1995 ولغاية 1998 كانت الدعوة والحاجة ملحة لأنشاء نظام قضائي دولي وتجسيد هذه الرغبة البشرية بأنشاء المحكمة الجنائية الدولية، وأزاء التطور السياسي العالمي تمت متابعة الأختصاص الجنائي الذي يعرقل عملية معاقبة مرتكبي جرائم الحروب والأبادة الجماعية والجرائم الأخرى ضد الجنس البشري من قبل المجموعة القانونية الدولية، حيث أن الأختصاص الشخصي والمكاني والموضوعي يتناقض مع مفهوم السيادة الوطنية لكل قطر، والتي تعتبر الكيان الوطني هو الملزم وأن الألتزام ببنود ميثاق اللائحة هو الزام اخلاقي، حيث يرتب القانون الوطني أختصاصاً شخصياً ومكانياً وموضوعياً بخصوص بحث الجريمة المرتكبة ضمن مواد قوانينه الجزائية ( الجنائية )، وهذه القوانين لايمكن تطبيقها بطبيعة الحال على مرتكبيها ممن لم يزل مسيطراً على السلطة وخصوصاً في الأنظمة الدكتاتورية أو غير الديمقراطية .
وتأسيساً على المباديء العامة لحقوق الأنسان ومن اجل ايجاد صيغ عالمية تحمي البشرية وتعاقب الجاني، لجأت المجموعات القانونية الدولية الى أجتماعات وندوات وتجمعات وتمخضت هذه الأجتماعات واللقاءات الى أقرار النظام الأساسي للمحكمة حيث اقرته الجمعية العامة الأمم المتحدة.
لقد تم التوصل الى هذه الصيغة الدولية بانشاء المحكمة الجنائية الدولية والموافقة على المشروع من قبل 60 دولة، في الوقت الذي ابدت الولايات المتحدة الامريكية تحفظها على الاتفاق الدولي على اساس انه ينبغي ان تقوم الدولة المعنية بتسليم مواطنها المتهم بهذه الجرائم بموافقة مسبقة لتتم محاكمته امام المحكمة الجنائية الدولية، في حين وقعت الولايات المتحدة الأمريكبة بعدئذ على الاتفاقية بصيغتها النهائية قبل انتهاء الوقت المحدد في 21 تشرين الثاني 2000 اذ بلغت الدول الموقعة بالموافقة 139 دولة في حين بقيت 50 دولة لم توقع عليها لحد الان.
أن الحاجة التي خلصت من المحاكمات الدولية السابقة والتجارب القضائية الدولية لكون هذه المحاكم كانت تتخصص في محاكمات ذات نزاعات خاصة، وأثارت تطبيقاتها القضائية تساؤلات جوهرية حول أنطباق مباديء الشرعية الدولية والعدالة بالنظر للعدم وجود نصوص عقابية متفق عليها، بالأضافة الى عدم الشعور بمساوة في التعامل مع المتهمين مما يخل بتوازن العدالة.
وقد اختصت المحكمة الدولية الخاصة بيوغسلافيا السابقة بالنظر في جرائم القتل العمد والتعذيب والممارسة اللاانسانية واحداث المعاناة الشديدة او الحاق اذى خطير بالجسم او بالصحة والحاق تدمير واسع النطاق بالممتلكات والاستيلاء عليها دون ان تكون هناك ضرورة عسكرية لهذا الأستيلاء و كونه يشكل مخالفة القانون بصورة عبثية وارغام اسرى الحرب وتعمد حرمانهم من حقوق المحاكمات العادلة والنظامية والابعاد والحبس غير المشروع واخذ المدنيين كرهائن. ويمكن أن يكون نفس الأختصاص الممنوح للمحكمة الدولية في راوندا.
وقد اوردت نفس الأنتهاكات والجرائم ضمن نصوص النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية المعتمد بتاريخ 17 تموز 1998 وتوسعت في شمول الأتهاكات الخطيرة للقوانين والأعراف السارية على المنازعات الدولية المسلحة، وتعمد توجيه هجمات ضد موظفين مستخدمين أو منشآت أو مواد أو وحدات أو مركبات مستخدمة في مهمة المساعدات الأنسانية أو حفظ السلام، وكذلك تعمد شن هجوم مع العلم بأن هذا الهجوم سيسفر عن خسائر تبعية في الأرواح أو عن أصابات بين المدنيين أو الحاق أضرار مدنية أو واسعة النطاق، ومهاجمة أو قصف المدن أ والقرى أو المساكن أو المباني العزلاء التي لاتكون أهدافــاً عسكرية بأية وسيلة كانت، وقتل أو جرح مقاتل أستسلم أو القى سلاحة، وتعمد توجيه هجملت ضد المباني الدينية او التعليمية او الفنية او العلمية او الاثار التاريخية والمستشفيات، وقتل الافراد او قوات الجيش المعادي غدرا وتدمير الممتلكات والغاء حقوق الطرف الاخر واستخدام الغازات والسموم والاعتداء على الكرامة والاغتصاب وأساءه استعمال الهدنة وكافة الأنتهاكات الخطيرة التي اوردتها اتفاقية جنيف.
كما أن المحكمة الجنائية الدولية بأقتران موافقة الدول الاعضاء تصبح أمتداداً قانونياً تشير لها في دساتيرها وقوانينها كونها ليست بديلاً عن القوانين الجنائية الوطنية ولاتمس بأية صيغة كانت السيادة الوطنية وتعمل وفق القواعد والأصول المتفق عليها والتي لاتتعارض أو تتناقض بأي حال من الأحوال مع القوانين الوطنية، وبذلك تصبح المحكمة الجنائية الدولية تستمد سلطتها وشرعيتها من موافقة الدول الأعضاء الموقعين على نظامها الأساسي وتصبح هذه المحكمة جزء من نظامها الوطني.
وتعتمد المحكمة في شرعيتها القانونية بالأضافة الى نظامها الأساسي والمعاهدة الموقعة بين أطرافها الدولية، فأنها تستند على المباديء العامة للقانون الدجولي أضافة الة القوانين الوطنية للدول الموقعة عليها، وعلى السوابق القضائية في القرارات التي سبق وأن اصدرتها المحكمة المذكورة.
والجدير بالذكر أن اعمالا تحضيرية ومفاوضات متكررة ورفيعة المستوى جرت للتوصل الى اعداد النظام الاساسي للمحكمة الدولية استمرت لسنوات طويلة وبذلت فيها جهود عالية المستوى في الخبرة والمستوى القانونيين، وعارضت الولايات المتحدة العديد من أقتراحات المندوبين والوفود حتى تكلل الجهد الأنساني في مرحلته الأخيرة بأقرار مشروع النظام الأساسي الذي تضمن تعريف الجرائم واختصاص المحكمة واليات البدء والتكامل ودور الأدعاء العام ومجلس الأمن وآالية التطبيق المحتمل للنصوص والحكام الموضوعية للمحكمة.
ومن الجدير بالذكر أنه وفقاً لنص المادة ( 11 ) من النظام الأساسي للمحكمة تمارس المحكمة عملها وصلاحياتها القضائية وفقاً للأختصاص الزمني أعتباراً من لحظة النفاذ، أي أن المحكمة تمارس أختصاصها في النظر بالأعمال والأنتهاكات والجرائم المرتكبة بعد نفاذ نظامها الأساسي ( في اليوم الأول من الشهر التالي وبمرور 60 يوماً على أيداع الوثيقة التي تم التصديق عليها لدى الأمين العام للأمم المتحدة )، يعني هذا في اليوم الأول من الشهر السابع ( تموز ) من العام 2002، وعلى الرغم من الخلل الذي ولده النص المذكور في أفلات العديد من المتهمين والمجرمين من العقاب، الا أن ذلك الأمر لايلغي أمكانية معاقبة مرتكب هذه الافعال داخلياً، كما لايلغي حق دولته وشعبه في طلب أحالته على هذه المحكمة من دولة طرف في النظام الأساسي، وكأن تكون المحكمة الوطنية، وهو ماحصل في العراق مؤخراً حين تمت أحالة قضايا المتهم صدام وزمرته الى المحكمة العراقية المركزية المختصة في الجرائم المرتكبة من العهد الصدامي البائد.
وتلتزم المحكمة الجنائية الدولية بالمباديء العامة للقانون، أذ لايمكن محاكمة المتهم مرتين عن نفس التهمة، يعني هذا انه اذا حوكم المتهم أمام قانون بلاده فلايمكن للمحكمة الجنائية أعادة محاكمته مرة أخرى لعدم جواز المحاكمة مع عدم جواز تكرار فرض العقوبة.
أن الدافع الأساس لأنشاء لأنشاء مثل هذه المحاكم بروز جرائم ومجازر وأنتهاكات صارخة تستهين بحياة الأنسان وتهدد الجنس البشري يتم ارتكابها من قبل اشخاص يحتمون باغطية السيادة والحصانة، وبغية ايجاد ضوابط وضمانات يلزم المجتمع البشري بعدم تمكن المجرم من الافلات من قبضة العدالة والعقاب باية صفة كانت وعلى المستوى العالمي، مما يمكن ان يجعل ذلك دافعا اكيدا لانضمام بقية الدول الى الموافقة على هذه المحكمة التي سيكون مقرها مدينة لاهاي في هولندا، ويمكن تصور الدافع الذي فرض نفسه على الدول من خلال وقائع المجازر البشرية المرتكبة والحروب البشعة والمروعة والسريعة والكارثية التي وقعت في العديد من بلدان العراق ومن بين اهمها العراق في السنوات الاخيرة، اضافة الى التعدي الصارخ على حق الانسان في الحياة وحريته على ان امرا لم تتم معالجته ضمن نصوص نظام المحكمة ولافي مؤتمر روما، وهو الصلاحيات المخولة الى مجلس الامن فيما يخص تعريف العدوان ومن هي الجهة التي تقررر وقوعه، والامر الثاني حول الصلاحية بايقاف الاجراءات التي يتضمنها حق النقض ( الفيتو ) التي يملكها حصرا مجلس الامن، والامر يؤدي الى حدوث تداخل وسلطة تابعة، في حين ان المنطق القانوني يقضي باستقلالية المحكمة عن اي جهة كانت مادامت تمثل هذا الاجماع والالزام الدولي، كما انها ايضا من يملك صلاحية التفسير والاجتهاد والتقرير، ومع كل ماتقدم تبقى عملية قيام المحكمة مؤشرا قويا على ان البشرية تخطو خطوة جديدة على طريق اتخاذ اسس كفيلة باحترام حقوق الانسان وحماية البشرية من الانتهاكات وجرائم الحروب. ومن خلال ماتقدم نستطيع ان نتعرف على مرجعية النظر في الشكاوى التي يمكن ان يقيمها الأفراد على الدول والجماعات للمطالبة بحقوقهم المادية والمعنوية أن كان لها مقتضى.