لم يكن البابا الراحل مجرد رجل دين يشغل منصبا دينيا مرموقا في عالم المليار كاثوليكي، بل وكان أولا إنسانا يؤمن بقيم الكرامة البشرية والحرية والتضامن والحوار بين الثقافات والأديان والمذاهب والشعوب.

كان البابا يوحنا يبشر بمعتقداته الاجتماعية التقليدية في شؤون الإجهاض والطلاق والحياة الجنسية، والتي كان يخالفه فيها الكثيرون من الكاثوليك أنفسهم، ولكنه، وخلافا لمعظم رجالات الدين المسلمين، لم يدع يوما للعنف والكراهية، وعارض الحروب كمبدأ أخلاقي وروحي ولكن بلا تمييز موضوعي بين حرب ظالمة وحرب عادلة كحرب إسقاط صدام. كانت معارضته غير سياسية ولا متشنجة، شأن تحركات اليسار الأوروبي، وهيجان القوميين والإسلاميين والشارع الضائع في البلدان العربية والمسلمة؛ وإذا كان كوفي أنان قد اختار مساء أمس نعي البابا كالمدافع الثابت عن السلام، فهو محق تماما، ولكن دون أن نعرف ما إذا كان مدحه يبطن الإشارة لموقفه هو من حرب العراق، عندما أعلن كونها غير شرعية، مع أنها كانت منسجمة مع موازين العدالة ومع قرارات مجلس الأمن!!
كانت شخصية يوحنا بولص الثاني فريدة بين رجال الدين والسياسة معا، فقد كانت له جاذبية شخصية توحي بالطمأنينة والصفاء بين الشعوب والثقافات والمذاهب والأديان. كان يكره العنف وسفك الدمن ويدعو لدعم الفقراء ومعالجة الفقر، وزار عددا هائلا من بلدان العالم رغم مرضه وتعبه الجسدي، والتقى بالشخصيات المعروفة في الشرق والغرب وإفريقيا والقارات الأخرى، وزار حتى كوبا الشيوعية الرافضة للدين واستقبله كاسترو، الذي رآها فرصة ذهبية لتحسين وجه نظامه الشمولي المنغلق. وكان بالبابا، وخلافا لفقهائنا الكبار والصغار، صديقا للمرأة حتى قال في خطبة له: أيتها المرأة:شكرا لك لكونك امرأة."
اعتبره العدد الكبير من شباب العالم، [طبعا لا أقصد هنا عالمينا العتيدين العربي والإسلامي!!]، صديقا وأبا يندمج معهم، حتى راح يغني مرة مع تجمع هائل للشباب، وهو خروج على المواصفات الدينية في الوقار المبالغ فيه والجد لحد العبوس؛ وكان أيضا يطعّم خطبه بالنكات ويضحك مع ضحك الجمهور. وبعبارة كان قريبا من القلب لأنه كان إنسانا من الصميم قبل أن يكون بابا الكنيسة الكبرى.
كان على رأس إمارة دينية هي الفاتيكان ذات العلاقات الدبلوماسية مع عشرات الدول ومنظمات دولية كاليونسكو، ولكنه لم يتدخل لا كرجل دين ولا كرئيس للإمارة في الشؤون السياسية لإيطاليا أو غيرها من الدول ذات الأغلبية الكاثوليكية، ولم يدع لتأييد لائحة انتخابية دون غيرها، ولم يضع اسمه على واحدة منها، ولو فعل ذلك لكانت الدول ومعظم الكاثوليك أنفسهم سيرفضون موقفه لكونه سياسيا بحتا وتدخلا في تفاصيل السياسة، في حين أن الواجب الحقيقة للبابا والفاتيكان أخلاقي وروحي وثقافي.
انتخب عام 1978 وبعد ثلاث سنوات فقط أقدم إرهابي تركي مسلم على محاولة اغتياله؟ فيا للمفارقة! ادعى المجرم أنه أراد قتل زعيم "الصليبيين"، وفي التحقيق زعم أنه دبر المؤامرة منفردا، ولم يصدقه أحد، ولكن لم تكن هناك أدلة ملموسة ودامغة على كونها كانت مؤامرة دبرتها المخابرات السوفيتية والألمانية الشرقية كما راج، وهي نظرية لا تزال قائمة ولكن لا دليل على أية من الفرضيتين. والحق أن انتخاب بابا من بولونيا الشيوعية، ونداءات البابا المأخوذة من الإنجيل: "لا تخافوا"، أزعجت السوفيت كثيرا وراحت ترفع معنويات الناس، حتى قال مساعد لبريجنيف: " نفضل أن نرى الكاتب سولجونستين أمينا عاما للأمم المتحدة ولا نرى البابا مكانه.، والكاتب المذكور كما يعرف الجميع فضح مظالم ستالين في رواياته واضطهد وسجن وهرب للغرب حيث استقبل بحفاوة كبرى. إن هناك من وصفوا البابا بالطابور الخامس الغربي لنسف المعسكر الشيوعي، ولكن الاتحاد السوفيتي كان منخورا من داخله ولا علاج غير سقوطه وتفككه مع بقية "المعسكر". ربما كون البابا من بولونيا أثارت مشاعر الاعتزاز الوطني البولوني، رغم أن البولونيين لم يكونوا من الشعوب المعروفة بحماس كبير للدين، ومن الصدف أن حركة فالسيا النقابية في بولونيا ظهرت بعد حوالي عام ونصف من زيارة البابا على ما نتذكر، وكانت تلك الحركة بداية الثورات البيضاء ضد الأنظمة الشمولية الشرقية. وكل هذا لا ينفي دورا معنويا وأخلاقيا للبابا في ما وقع للمعسكر الاشتراكي، رغم أن البابا من جهة أخرى أدان مرارا ما سماها ب"اللبرالية الوحشية" وهي كليشة يسارية حيث ان الرأسماليات الديمقراطية اللبرالية لم تعد كما كانت الرأسمالية عند نشوئها وتطورت كثيرا في مجال العدالة الاجتماعية برغم أنه يبقى الكثير للعمل والإصلاح في هذا المجال.
جريمة الإرهابي علي أغسا [ إن كانت ترجمتي لاسمه صحيحة] قد زعزعت جسد البابا إذ اخترقت ثلاث رصاصات معدته وأفقدته ثلاث ليترات من الدم قبل وصوله للمستشفى. وبعد عامين فقط قام يوحنا بولص بزيارة سجن الإرهابي المجرم وقابله في زنزانته واعلن صفحه الشخصي عنه.
عندما دخل البابا في المستشفى في شباط المنصرم زاره العشرات من الشخصيات السياسية الإيطالية من حكوميين وقادة أحزاب وكان بينهم شيوعيون، واعتبرت الصحف تلك ظاهرة جديدة حيث لم تكن العلاقات دائما صافية بين الفاتيكان وبين الدولة الإيطالية والأحزاب العلمانية، ولكن الظاهرة وقعت لمكانة البابا الشخصية لدوره الإنساني، فاحترمه ليس فقط الكاثوليك المتدينون بل و ساسة ومثقفون غير المتدنين.

ارتبط الشأنالعراقي بالبابا منذ محاولات بعض الكرادلة والأساقفة توريطه في زيارة العراق في عهد صدام بحجة الرغبة في زيارة مكان مولد إبراهيم في أور. كانت مناورة صدامية لتجميل الصورة وكسب تأييد البابا. واستمرت المناورات والمداولات حتى قرر البابا عدم الزيارة. واقترن اسمه من جديد بالعراق برفضه حرب تحرير العراق، دون أن يحلل بصفاء وعمق أن عدم الحرب هنا كان يعني بقاء ظلم صدام ومقابره الجماعية ومذابحه لرجال الدين واستمرا حروبه الدموية المتتالية.
خلال الليالي الفائتة من لحظات احتضار البابا كنت أتابع محطات الأخبار الفرنسية الخاصة بالأخبار على طريقة سي.إن. إن، فوجدت صحفيين ومختصين في علوم الدين يتعمدون بدون مناسبة غمز الولايات المتحدة وبوش بذكر الحرب على صدام. وما أن خرج بوش مساء أمس لتلاوة كلمته عن رحيل البابا واصفا إياه ببطل للحرية وكرامة الإنسان والسلام، حتى سارع أكثر المتحاورين في الستديو للسخرية والتشكيك مشيرين بحرب العراق! هؤلاء لم ينسوا وهم في مناسبة حزينة ذات هيبة خاصة الكراهية الفرنسية المتعمقة جذورا لأمريكا. كانوا بذلك دليلا جديدا على كل ما كتبه المفكر الفرنسي [ريفيل]، الذي سبق لنا منذ قريب التعليق عليه، وهو الكتاب المعنون "وسواس العداء لأمريكا"، وحيث يرى أن فرنسا هي أمّ هذه الكراهية وأكبر دعاتها في أوروبا، ولا سيما اليسار والمثقفين. وقد أخذنا "جان فرانسوا ريفيل" إلى محطة من عام 1944، وحيث كانت فرنسا لا تزال محتلة. ففي مايو من ذلك العام، وقبل أيام من الإنزال الأمريكي والبريطاني والفرنسي على الشواطئ الفرنسية، وحيث لم يكن نجاحه حتميا، كتب مؤسس جريدة لوموند اليسارية، هيبر بيف - ميري، ما يلي:
" الأمريكان يشكلون خطرا حقيقيا على فرنسا. إنه خطر يختلف طبعا عن هذا الذي تهددنا به اليوم ألمانيا، أو من الخطر المحتمل أن يهددنا به الروس... إن بإمكان الأمريكان إعاقة قيامنا بالثورة اللازمة، وإن ماديتهم ليست لها العظمة المأساوية للأنظمة الشمولية"، و يقصد طبعا الستالينية والنازية! يورد المؤلف هذا المقتبس العجيب في الصفحة 98 من كتابه مع ذكر المصدر وهو مجلد أصدرته جريدة لوموند نفسها عام 1951.
معذرة لذكرى الفقيد الفذ، الذي لعب دورا هاما في تصفية تركات الكنيسة الكاثوليكية في القرون الوسطى ومحاكمها التفتيشية وحروبها الدينية كالصليبية وضد البروتستانت. لقد
دعا وعمل للمصالحة بين الأديان، وكان يختار مساعديه من مختلف القارات والثقافات، وكان هو مفكرا وله اطلاع واسع على الآداب العالمية،لما بأنه في شبابه كان ممثلا مسرحيا في كراكوفي البولونية.
وفي الثمانينات خلال زيارته لمنظمة اليونسكو التربوية والثقافية بباريس قال في كلمته البليغة في القاعة الكبرى إن جوهر الحضارة والإنسانية هو الثقافة، طبعا ثقافة الحياة لا ثقافة العبودية والموت!.
أحبه الناس حتى غير المتدينين، لأنه كان يشعرهم صادقا وبالقول والفعل بكونه واحدا منهم، ويتجاوب مع هموم الضعفاء منهم.
انظروا رجاء إلى ترقب البشر في ليالي احتضاره وحزنهم الرصين، فكأن احتضاره كان رمزا لتضامن الشعوب وتقاربها، لا عامل نفور وخصام وكراهية وعنف، وحث على "الجهاد" على طريقة مولانا القرضاوي!
إن رحيل يوحنا بولص الثاني خسارة كبرى للبشرية. كان بحق بطلا للحرية والكرامة البشرية والعدالة الاجتماعية.