ذات كتاب فكري هام، قال الفيلسوف الألماني هايدغر:" بشعريةٍ عالية يتجاور الغناء والفكر كجذعين،إنّهما ينموان من الكينونة/ ليبلغا حقيقتهما"..الشاعر مغن والشعر غناء هكذا قالت اليونان القديمة أيضاً..وأقولها تعزية لمغن ٍومفكّر وشاعر وموسيقي.. وصاحب موقف نبيل وكبير يشهد به كل من يتذكّره..
رحل بصمت، الفنان العراقي الكبير رضا علي.. زرياب بغداد الحديثة؛ حديثة في مرور الزمن بغباره وقذائفه وقديمة بأزقتها وأحلام أهلها بالتغيير..
رحل بجسده الوقر المهيب..و بيد بيضاء كالكفن !! لم تصافح طاغية أو ديكتاتوراً..
غاب الملحن الفذ بعد أن غنّت له عشرات الأصوات العربية والعراقية..
رحل بصمت في زحمة الأخبار السياسية، وزمن التجاهل والتجهيل الفني الكبير..
رحل بصمت اعتاده هو بعد أن صمت لأكثر من ثلاثين عاماً..قبيل وصول مدّ الطغاة الى ذروته المخيفة..
مؤلم أن يصمت المغني، لكنه عظيم حين يكون موقفاً سيتـّخذ بعداً فلسفياً آخر،قديم مثاله وقليل ونادر من يعمل به..
يذكرُ ابن الجوزي البغدادي في كتابه(أخبار النساء) خبراً عن الأصمعي يوم صادف أعرابية لا تتكلـَّم،فسألَ عنها فقيل له ليست بخرساء ولكن كان لها حبيب متولّه بنغمتها قد غيّبه الموت..فأقسمت أن لا تتكلم بعده أبدا..
رحل الفنان الكبير رضا علي بعد رحلة فنية حافلة،صَمَتَ في منتصف طريقها ليؤسس لموقف ما سبقه إليه إلا قلّة نادرة من الأبطال..حيث كان يجاهد وضعاً معيشياً صعباً يضطر خلاله للعيش في بؤس تجاهلٍ حكومي كبير. كان خلاله الفنان سعيدا لأنهم نسوه بعد أن الحّوا عليه كثيراً في حملاتهم التدنيسية التي هدّمت أسماء فنية عراقية وعربية كثيرة بسبب لحن أو أغنية للطاغية.
رحل ليبقى أبدي الحضور(ولو بعد حين) في قلوب عراقيين يشغلهم الآن عن الغناء عزاءات كثر فيها قليل مبرّر الحزن، وكثير غير مبرّر..
ربما بحجج دينية ما كان ليعرفها أهل بلاد مابين النهرين.. بعد أن كان كهنتهم يتلقون دروس الغناء في المعبد المقدّس..وبعد أن كان كاهن المعبد لا يستحق مكانه ما لم يكن عذب الصوت و مجيد لعزف عدّة آلات موسيقية..
وقيل عن هذا الإرث الجنوبي إن ملكاً مبجلاً من تلك الأرض كتب على حجر سومري اعتزازه الكبير بقدرته على الغناء والعزف على آلات موسيقية عدّة..
رحل الفنان رضا علي ولما يمتع قلبه بعد بعراق محرر يغني أهله..
رحل وأشباح الرعب الديكتاتوري "الجديد" تطارد الموسيقى وآلاتها في شوارع البلاد..
يوم عدت الى العراق، و لشهر بقيته في مدينة من جنوب الغناء الأصيل..لم أسمع أغنية!..
أين ذهب الغناء ؟. سألت، وما كان من مجيب على سؤال يدخل في الحرمة والجدل.. قلت لشيخ معمم: إما قرأت يا شيخ حديث الجاريتين..قال وما ذاك قلت: ما روته عائشة : ان ابا بكر دخل عليها والنبي عندها يوم فطر او أضحى , وعندها قينتان تغنيان بما تقاذفت الانصار يوم بعاث، فقال ابو بكر: مزمار الشيطان , مرتين فقال النبي(ص) دعهما يا ابا بكر ان لكل قوم عيدا وان عيدنا هذا اليوم . *
وكنت في طريق جامعي لإيصال طالبة من أقاربي إلى حيث ستنهي سنتها الدراسية الأخيرة..وإذا بها تـُـلمِّح قولاً بحرمة فيروز..قلت: بل قد أوتيت تلك المرأة مزمارا من مزامير داوود..وأكملتُ لها حديث عائشة عن الغناء:
وكان يوم عيد يلعب السودان بالدرق والحراب، فإما سألت النبي وإما قال تشتهين تنظرين؟ فقلت: نعم، فأقامني وراءه، خدي على خده وهو يقول: دونكم يا بني أرفدة، حتى اذا مللت قال : حسبك ؟ قلت : نعم , قال : فاذهبي.
يومها كان الفنان رضا علي مريضاً في بغداد..
وكنت أجوب شوارعها الكئيبة بعد فراق دهر،أغني دامع العينين، ومصاباً بدوار وأنا أخترق رمادَ فوضى أشهر تحررها الأولى..
يهفو الدوار برأس من يشتاقها ويصابُ وهو يخافها بدوار
كان الجواهري حاضرا في خوفي من بغداد..وحاضراً في الأغنية بينما يسأم المغني من أنينه الطويل..
في منطقة الباب الشرقي ضحك مني بائع أشرطة الكاسيت الصوتي وأنا أسأله،بل ظنَّ ذلك الشاب العشريني أني أمزح وأنا أسمي ملحنا ومغنيا باسم رضا علي..
كان الجواهري حاضرا وقتها في بيت أشد ألما:
أشكو إليكَ وإن زَوَى ألمي غَضَبٌ تقاصرَ دونهُ الألم
وسيحضر حزني في جنازة هذا المبدع العراقي الكبير.. ربما سيتساءل فنان عراقي عن ألوان العلم حيث يودّع هذا الرمز الوطني ملفوفا به.. هل لفَّ بالعلم حقاً؟.
هل حضر ممثل عن وزارة الثقافة العراقية جنازته؟..
هل عُـزِفَ السلام الوطني العراقي إكراماً لموسيقاه؟..
متى يـُنتبه الى مبدعينا؟..
سأقول حزينا: رحل وليته فكّر في مثل هذه الأيام العراقية،حيث أول رئيس منتخب،وأول برلمان في الطريق الى الديموقراطية..
رحلّ.. وليت هذا الملحن الكبير تخاطر عن مثل هذا الفرح العراقي حيث نقف حيارى وسط إرث موسيقي وشعري هائل بينما يعزف على استحياء نشيد وطني عراقي من كلمات شاعر فلسطيني وألحان أخوين سوريين!.. ربما ثمة ما يبرّر هذا في الحديث عن فنان كبير مثل رضا علي جدد في الأغنية البغدادية وأنطلق بها الى العرب ليكون نجماً لوقت طويل.ولكن ..ترى هل ذكره أهل العراق، ليذكره العرب الآن؟.

* صحيح الـبخاري, كتاب العيدين, باب الحراب والدرق يوم العيد ج 1 / 118 ـ 119, وصـحـيـح مـسـلـم , كـتـاب صلاة العيدين , باب الرخصة في اللعب ج2 / 609.