حين يكون لاعب البوكر وهابيا

حوار شامل مع نجيب الزامل (1/2)

حاوره أحمد عدنان: يبدو أن انطباع إحدى الزميلات عن نجيب الزامل " هو كلاعب البوكر، يعرف كيف يستفز الآخرين ببرود، ولكن لا يمكنني أن أنكر أنه خفيف الظل للغاية" يعطينا مسحا شاملا ودقيقا لنجيب الزامل على الصعيد الشخصي، أما نجيب صاحب الملكات الإبداعية المتعددة والثقافة الموسوعية، فقد ظلم نفسه حين أشغلها بالشق الاقتصادي من الشأن العام بحكم مهنته في الأوراق الثبوتية (رجل أعمال)، يمزح الزامل حين يزور مدينة جدة غرب السعودية : (الوهابيون هنا ملزمون بتغيير العملة)، ولعلي أضيف : وحين تحاورهم (إيلاف) ملزمون بالرد على الأسئلة.

* نجيب الزامل، الكاتب ورجل الأعمال، كيف التقت هاتان الصفتان في شخصك،في حين جرت العادة أنهما شخصيتان متصارعتان؟

- لم تلتق الصفتان إن أردت على وجه الدقة، إن كانت الدقة هنا تعني اختيارا. فأنا جبلتي بنيت منذ الصغر على الشغف المرضي بالقراءة، ولقد قرأت أمهات الكتب قبل أن أنهي مرحلتي الابتدائية، وهي رحلة بدأت ولم تنته. وأثرت على كل تكويني العقلي والسلوكي، وأثرت علي بالمدرسة فكنت يوما أستعلي على المنهج الضيق بعد فسوحات واسعة في القراءة، وقد كان من أثر الموقع علي ( حيث الإنجليزية سائدة) ان اطلعت على القامات الإنجليزية والأجنبية المترجمة إلى الإنجليزية في أول ولعي المبكر، وكنت في قريتي العمالية الصغيرة ( رأس تنورة) قد ُأخذت عن الواقع من كثر القراءة في الأدب المصور والمكتوب الذي تخرجه دور النشر الأمريكية، حتى إني كدت أعتقد أني من سكان نيويورك أو لندن أو باريس أو شنغهاي وكلكتا، وأني أعرف كل حارة وشارع.. لقد كان حلما مبكرا ثريا ولكنه لم يجار الواقع بفروق شاهقة فجعلت مني كائنا مستوحشا أو QUEER كما تعرف الإنجليزية. كانت طفولة مغرقة مع القراءة ومتعبة لأنها موحشة ومقفرة في التواصل مع الأتراب. مع الزمن نمت الناحية الاجتماعية لدي بل تغلبت تماما على أجواء الكتب المشحونة، وعرفت أن أفصل تحصيلي عن واقعي، وكانت هذه طفرة وإنجاز عانيت منها أيضا.. فأتذكر أني في المرحلة الجامعية تعلقت بالأصدقاء أيضا تعلقا مرضيا، فكانت شقتي تمتليئ بالأصدقاء والزملاء، وتخرج أفواج وتأتي أفواج، وكأني ألاحق ما مضى من عمري الفائت، أو كأني خائف أن يقتنصني الاستيحاش والوحدة وأنا لوحدي، وهذا أيضا كان ثمنه غاليا.
لم يأت التوازن إلا بعد تجارب كانت كل مرة تبالغ في أثمانها، ثم عدت متزنا قدر الإمكان بين الكتاب والناس، فلم يعد جبران ولا إليوت ولا أزيموف ولا العقاد ولا جوته ولا زكي نجيب محمود وأنيس منصور وخليل نعيمه ومي زيادة وموم وبوكوالد من أصدقائي، صاروا مجرد كتب على الرفوف.
وكنت قد قررت ألا أشارك في الأعمال فاتجهت للعمل الحكومي، ونلت نجاحا مرضيا، وكانت الدروب مفتوحة في التقدم بالموانئ، وكانت مرحلة حافلة شاركت بدور صغير جدا في بناء أكبر ورشة عمل بحرية، وفي تولي أول مركزتدريب بحري في الخليج.. ولكن الذي ناداني للعمل الخاص ليست الجينات التي في داخلي، ولا ولعي بالإنماء المالي، فهما كانا لا يعنيان شيئا من اهتماماتي الأولى لكنها رغبة الوالد والأخوان.. فكان ما كان.. هل أنا نادم؟ لقد أنجزت الكثير جدا في الميدان العملي نجحت هنا وأخفقت هناك.. ولكنها أيام ندفعها وتدفعنا.. هل أنا راض؟ لا أفكر بهذا السؤال.. وإلا كان معلقا فوق رأسي كسيف اقليدس. ولكني ما زلت تهزني صفة الكاتب أكثر من صفة رجال الأعمال، مع اعتقادي الأكيد أن بناة الدول هم رجال الأعمال وليس غيرهم، أحببناهم أم لا.. حقيقة دامغة!

* كنت على مقربة من معالي الوزير فايز بدر – رحمه الله – إبان عملك في الموانئ، ماذا تقول عن تلك الشخصية في سطر واحد؟
- كان بركانا من الذكاء والغضب، انفجر ومضى!

* هل خسارة صفقة تجارية تتزاوى لديك مع منع مقال لك أو حذف مقطع منه، ألا ترى ان الرقيب كتب عليه (طول العمر) قياسا بأقرانه؟
- من الصعب المقارنة فعندما أضيع لي فرصة عمل أو أديرها خطا فلا ألوم إلا نفسي، ولكن في الرقيب فهي حالة أخرى وبضرر آخر، فإن الأفكار هي التي تبني كل حضورنا أمام القارئ، وهب التي ترسم هذا الحضور باستقلاليته واختلافه وتميزه، وبصمته العقلية التي لا تتكرر أبدا مثل بصمات الأنامل. ولي تعريف للرقيب إذن، وهو أن " الرقيب مثل عامل المناجم النهرية، يفصل الذهب عن الوحل، ولكنه يا للغرابة.. ينشر الوحل!"، أما الحديث عن (طول العمر) فإن السحالي هي أبلد المخلوقات، قضت عمرها تراقب التاريخ من غير أن تفعل شيئا وهي التي تعمر تقريبا بلا نهاية، و نستفيد من ذلك أن أصحاب العقول هم الذين يموتون لأن العقل يأكل من الحياة.. ألا ترى أن هذا كاف؟!!

* المنطقة الشرقية في السعودية، تمتاز بتلاقي مذهبي السنة والشيعة على الأرض، هل من الممكن أن نقول أن هذا التلاقي وصل إلى درجة التلاقح والتعايش، أم أن ثمة حواجز تحول دون ذلك؟
- تلاقح؟!! حلوة دي! لا يا أخي لم نتلاقح.. ولا كان في آمالنا أن نتلاقح، كنا راضين أن نتحاب ونتعايش جنبا إلى جنب، لسنا نخلا نتلاقح بمجرد اقتراب بعضنا مع بعض ومع أول هبة ريح صيفية يتم الإخصاب، نحن بشر بتطلعات وموروثات مختلفة، ولكن في زمن جدي وأبي كان التعايش انموذجيا، ذلك التعايش الذي أشبهه بعناق الموجة مع الشاطي بسلام وتلقائية طبيعية لإكمال دور كوني، ولكن لا الشاطيء يموع في الموجة ولا الموجة تأخذ الساحل.. وأنا أقول أجمل العلاقات التبادلية هي التي يجب أن نتعلمها من آليات الطبيعية التبادلية عند الحيوان والنبات وعناصر الأرض، وأجرام السماء. كنت قدر رويت يوما أن جدي النجدي جدا الذي مازال طازجا من طين عنيزة، كان أقرب أصدقائه من الشيعة بل تزاملوا بالتجارة، وعندما شب يوما حريق أنقذ صديق له اسمه ميرزا عليوات كتبه الدينية ( تصور) وكانت تلك الكتب عند جدي من اغلى المقتنيات، وكان مجلس أبي صورة بسيطة وتلقائية للتلاحم الإنساني تنسى فيه الفروقات الأثنية والمذهبية أو أنها حين تأتي تكون مجرد موضوعا من المواضيع..كانوا إخوة وأشقاء وأصدقاء ولكن علاقة جميلة تربطهم هي تماما علاقة الموجة مع الساحل.. الآن.. لا يا أخي! لم نعد كالسابق وابتعدنا عن بعضنا بالشسوعات، وهل السنة فقط والشيعة، لا حتى بين الفصيلة الواحدة ( إن أحببت اللقب) تتباعد شظايا بين التطرف والاعتدال والخروج.. وصارت كرة ثلج ملتهبة وتدور وتكبر.. كان الزمان الأول أكثر منطقية، ونرجو أن نذهب كلنا لنتأمل عناقا أزليا، وبلا اتحاد مفروض، بين الموجة والساحل.. لعلنا نتعلم!

* أرامكو، في المنطقة الشرقية، كانت في أذهان البعض يوما، صورة من صور الاستعمار الأمريكي، وفي أذهان الآخرين، إحياء اقتصاديا للمنطقة، السؤال : ماذا قدمت أرامكو للمنطقة الشرقية في السعودية سلبا وإيجابا؟

- أرامكو في ذهنية الناس بالشرقية ليست شركة خصوصا في العقود الوسطى من القرن المنصرم، أو أنها ليست مجرد شركة هي حياة وثقافة كاملة، لم يكن يعني الناس حينئذ من كان الأمريكان وما كانت الأغراض والقضايا والأهداف، ولا شغلوا بالهم كثيرا حول الأسباب وراء وجودهم، لذا كنا سعيدين، ولم نجابه بأسا أبدا. لم نر يوما قسيسا نصرانيا يبشرنا بالمسيحية في أرامكو، بل كانت مدراس ارامكو أيام الأمريكان تعتني بالمسجد، وتعنى بالمكتبات وفيها ذخائر اسلامية. بالمرحلة المتوسطة قرأت الأصفهاني، وابن رشد، والذهبي، وحي بين يقظان لابن طفيل،وكتاب عن الفتاوى في واقعات العصر لابن سعدي، وقرأت ابن تيمية، والأشعري، وكتب لسيد قطب، وللذهبي، وابن مسعود،وابن بطوطة، ومقدمة ابن خلدون، ولا أنسى كتابا ألفه رحالة سوري عن الجالية الإسلامية في سيام ( تايلاند الآن) وذهبت بعد أعوام إلى تايلاند وزرت الأمكنة الذي كانت مازالت عالقة في ذهني منذ الطفولة، ورأيت أن ما قاله الكاتب قبل خمسين عاما مازال شاهدا بكل مناظره وكأنه حفظ مجمدا.
أرامكو علمت الناس الوقت، وهذا قاد طفرة فكرية تقدمية في أذهان أهل المنطقة، وعلمتهم النظام، فتحت أرامكو ثقافات العالم أمام أهل المنطقة لقد كان لأبي صديقا أيطاليا وكان مثل أعز أصدقائة ولما مات في جنوه راح أبي من ضمن المواسين، وكان.. ومازال له أصدقاء في بلدان كثيره بعضهم تبادل مهم فيما بعد الأعمال. علمت أرامكو الصغار في المدارس النجارة في الورش، وقد خرّجت نجارين مبدعين أكلتهم فيما بعد الطفرة والبيروقراطية! أرامكو كانت مجتمعا، ولم تكن لنا شركة، أرامكو لم تغير سطرا في كتاب إيماننا جاء الأمريكان وذهبوا ولا نتذكر أنا رأينا صليبا، أو إنجيلا، بل كنت أرتاد مكتبة كلها كتب انجليزية في الحي السكني لكبار موظفي أرامكو ولم أعرف أني رأيت شيئا يضير الذوق المسلم. أتدري لماذا؟ لأنها- أي أرامكو- ببساطة لم تكن متفتقة من ذهنيات الساسة، كانت عملا ربحيا بحتا لذا صلحت وأصلحت. لو كانت أرامكو ماضية في تطبيقاتها المدنية لكانت مدننا من أجمل المدن، أرامكو بحصافة عززت مظاهر التقدم العملي، وعززت الفكر المجتمعي القائم ولم تعارضه، بل ساهمت في الإمداد بالمعرفة.. وإني أعترف بذلك.

يتبع