حوار مع الأستاذ والفنان العراقي الباحث في علوم الموسيقى، الدكتور باسم حنا بطرس

حاوره حسين السكاف: الإشكالية التي عرفتتها الساحة الموسيقية العراقية حول تاريخ تأسيس " الفرقة السمفونية الوطنية العراقية "، هي إشكالية أشخاص وحقب زمنية مرتبكة مرت بتاريخ تلك الفرقة الموسيقية المهمة بفاعليتها وأثرها الواضح في تاريخ الحركة الموسيقية العراقية والعربية. من أجل ذلك ومن أجل إنصاف السجل التاريخي لتاريخ الفنان والموسيقى على حد سواء، أستضيف شخصية موسيقية عراقية عربية، عاصرت وبشكل مؤثر حركة تطور الموسيقى العراقية منذ بداية العقد الرابع من القرن المنصرم حتى يومنا هذا. أستضيف وأحاور الأستاذ الفنان باسم حنا بطرس، الباحث في علوم الموسيقى، وعضو المجلس الدولي للموسيقى في اليونسكو، وهو أيضاً عضو المجمع العربي للموسيقى - جامعة الدول العربية - ممثل العراق، ومن مؤسسي الفرقة السمفونية الوطنية العراقية، والفرقة السمفونية الوطنية الأردنية، وكذلك فرقة سومر لموسيقى الصالة ورباعي هايدن الوتري (العراق).

* أنت تنتمي إلى عائلة موسيقية عريقة ومعروفة على الصعيد الأكاديمي العراقي، فوالدك الموسيقار حنا بطرس، مؤسس أول معهد موسيقي في العراق، فهل حدثتنا عن تلك الأجواء العائلية التي كنت تعيشها؟
- يتأثرالمرء بالمحيط الذي ينشأ ويعيش فيه. هكذا هي الحقيقة. محيط عائلتنا كان مشبعاً بالثقافة، في زمن القفْر الثقافي العام. الوالدان تربويان، فالوالدة خريجة المدرسة الأميركية للبنات في الموصل (تربية الأطفال)، والوالد رجل تربوي أدباً وثقافةً وفناً. نشأنا نحن الأبناء الأربعة للعائلة (بطرس، صباح، باسم، وسمير) في أجواء الثقافة المجمعية – إن جاز التعبير – داخل البيت: إذ كان الوالد يستقبل في بيتنا الكائن آنذاك في محلة الجنابيين – في منطقة راس القرية ببغداد، أيام الجمعة رجالات الثقافة من الموسيقيين وقساوسة وأدباء وشخصيات إجتماعية مرموقة. وكانت الأحاديث والنقاشات التي تدور هناك، لها طعماً خاصاً، وغالباً ما كنت أرى أن دارنا في تلك الزيارات كانت تأخذ بأجوائها صورة الصالونات الثقافية. وكما نقول في العراق، فقد فتحنا عيوننا على بيت فيه مكتبة عامرة وجهاز حاكي (كرامافون) ومجموعة متنامية من الأسطوانات الشمعية القرصية. كل ذلك كان له الأثر الواضح في بناء مداركنا وثقافاتنا وإهتماماتنا.

* القارئ لتاريخ الموسيقى العراقية، يجد أن بعض الدراسات تشير إلى أن الشريف محيي الدين حيدر هو من قام بتأسيس معهد الموسيقى في بغداد عام 1936، ألا تعتقد بأن في ذلك ظلم للجهود التي بذلها الموسيقار حنا بطرس في تأسيس ذلك المعهد؟
- تأسيس " المعهد الموسيقي – معهد الفنون الجميلة فيما بعد " لا يحتاج إلى إجتهاد من يؤرِّخ له، الوثائق هي مصدر كتابة التاريخ. وعليه وببساطة يكفي أن نطلِّع على الوثيقة الصادرة بتاريخ (10 نيسان سنة 1979) عن عمادة معهد الفنون الجميلة، بعنوان ( نبذة تاريخية عن قسم الفنون الموسيقية منذ تأسيس المعهد وإلى يومنا هذا) إعداد الأستاذ فريد الله ويردي ومساهمة الأستاذ حمدي محمد صالح قدّوري، وكلاهما من قدامى طلبة المعهد الموسيقي.
جاء في مقدمة الوثيقة مايلي: " والفضل في قيام المعهد الموسيقي يرجع إلى همَّة الأستاذ حنا بطرس ". وعلاوة على ذلك فأن الحقيقة التاريخية تقول بأن فكرة تأسيس المعهد الموسيقي جاءت من خلال المشروع أو " الطلب " الذي تقدم إلى وزارة " المعارف " من قبل الأستاذين التربويين الدكتور متّى عقراوي والدكتور فاضل الجمالي – وهما من مؤسسي منظمة اليونسكو - حيث جاء في نفس ورقة المشروع ترشيح الموسيقار حنا بطرس لتنفيذه ووضع الخطوات الأساسية له.
أفتتح المعهد في أيلول/سبتمبر عام 1936 بإدارة الفنان حنا بطرس، متخِّذاً مبنى نادي المعلمين الكائن إلى يومنا هذا في جهة "الشط" لنهر دجلة، قبالة سينما الزورءا في منطقة المربعة ببغداد، وبعد عدة شهور أي في مطلع عام 1937 تم إستقدام أساتذة من الخارج وهم: الشريف محي الدين حيدر (لإدارة المعهد وتدريس العود والفيولونسيل، تركي من أصل حجازي، ينمتي للعائلة الهاشمية المالكة)، وعبدو الطبّاع (لتدريس الناي، من سوريا)، ونوبار ملخصيان (أرمني من تركيا، لتدريس القانون)، وأنيس جميل سعيد (فرنسي من أصل تركي، للكمان الغربي)، ومن ثم جاء ساندو آلبو (من رومانيا، للكمان) وجوليان هرتز (من رومانيا، للبيانو). ومن هنا يتضح بأن المعهد الموسيقي كان قائماً عند مجيء محي الدين حيدر.

* مرت الأغنية العراقية بفترة ذهبية هي فترة السبعينيات، فما هي بإعتقادك أجمل فترة مرت بها الحياة الموسيقية العراقية؟
-الفترة الجميلة هي التي تجد فيها مجتمعاً يهوى الموسيقى ممارسةً وتلقيّاً دون حواجز تُفرَض عليه، سواء كانت من الدولة أو من الأعراف الإجتماعية/الدينية، عند ذاك تصبح الموسيقى متاحة للشعب كلِّه كالهواء الذي يستنشقه بحرية. من هذا المنطلق، جاهدت فصائل الحركة الموسيقية جهاد بطولي لإختراق مثل تلك الحواجز وتصاعد الأمر ببلوغ مستوى من الذروة فترة السبعينيات حين إنتشرت الموسيقى في كل مكان من البلاد. وهذا يحتاج إلى بحث موسع.

* ما علاقة الموسيقار باسم حنا بطرس بالأغنية العراقية؟
- أنا ابن العراق، ابن بغداد المدينة العامرة، علاقتي بالأغنية بشكل عام، عراقية أو عربية، فيها شيء من الحذر. كنا نستمع إلى الأغنية (محلية أو من الخارج) من خلال جهازالحاكي، حتى إقتنائنا جهاز الراديو أول مرة عام 1947، عندها أخذنا نسمع دون تكلف عناء التفتيش، ولكن يبقى المزاج ودوره المهم في الإستماع الإنتقائي.

* شغلت منصب أمين سر اللجنة الوطنية العراقية للموسيقى فترة طويلة، فهل حدثتنا عن هذا المنصب والمهمات المناطة به؟
- عملي كأمين سر اللجنة الوطنية العراقية للموسيقى كان للفترة الممتدة من العام 1974 لغاية تقاعدي وظيفياً في العام 1992. كانت اللجنة تظم نخبة من ألمع رجالات الفن الموسيقي الذين كانوا يمثلون المؤسسات الموسيقية العراقية التي كانت ترشحهم كأحضاء في اللجنة. كنا نخطط لبرامج مستقبلية في سبيل النهوض بالواقع الموسيقي إرتقاءً بالذائقة الموسيقية عند المجتمع. حيث قمنا بالكثير من الأنشطة المحلية والعربية والدولية. أوصلنا صوت الموسيقى العراقية إلى العالم أجمع عبر المنظمات الدولية.
لذلك أعتبرها فترة مثيرة ورائدة في حياتي الفنية: لأننا تعاملنا مع الموسيقى من منظور ثقافي، وصار العالَم الموسيقي يعرفنا حتى بشخوصنا. وبخاصة هيئة الرئاسة للجنة المكونة من رئيسها الفنان منيربشير، إضافةً إلى كونه مستشاراً فنيا لوزارة الإعلام، ونائب الرئيس الفنا منذر جميل حافظ وأمين السر باسم حنا بطرس.

* في المنشور " أيام بغداد " الصادر عن اللجنة الوطنية العراقية للموسيقى عام 1983، قلت في تقديمك له: " منذ عام 1932، حيث شهدت القاهرة إنعقاد أول مؤتمر للموسيقى العربية، الذي خرج بالعديد من التوصيات والدراسات الموضوعية، إنقطع التواصل الأكاديمي في الموسيقى العربية حتى عام 1964 حين شهدت بغداد إنعقاد المؤتمر الثاني للموسيقى العربية " ترى ما سبب هذه القطيعة التي دامت أكثر من ثلاثين عاماً؟
-أجل، وأكرر ما ذهبتُ إليه في تلك المقدمة: فالمؤتمر الأول المنعقد في القاهرة عام 1932 خرج بتوصيات علمية ذات أهمية كبيرة. لم تجد أمامها سبل التنفيذ، لأن مشاركات الحواضر العربية فيه كانت أدائية أكثر من كونها فكرية أو علمية.
لذلك بقيت التوصيات منضوية بين صحائف المجلد الضخم الصادر عن المؤتمر، وكل ما جرى متابعته كان على يد علماء الموسيقى الباحثين الأجانب الذي شاركوا بأعمال المؤتمر، وحصلوا على كنز كبير من التسجيلات للأداءات الفنية الحية التي قدمت في المؤتمر.
حتى كان العام 1964، وبمبادرة من باحث موسيقي عراقي كان مغموراً، هو الأستاذ زكريا يوسف، دعت الحكومة العراقية إلى إحتضان أعمال المؤتمر الثاني للموسيقى العربية، وأفضل ما صدر عن ذلك المؤتمر توصيتة لجامعة الدول العربية بتأسيس مجمع الموسيقى العربية، الذي رأى النور بعد عشر سنوات أخرى من الزمن، واليوم يعرف بـ (المجمع العربي للموسيقى).

* شاركت في أكثر من مؤتمر عربي يختص بالموسيقى العربية، كيف تقيم نتائج المؤتمرات العربية للموسيقى، وهل تجد إنعقادها في وقتنا الحاضر ضرورة ملحة؟
- مؤتمرات الموسيقى العربية لها وجهان لا ثالث لها. وجه التمثيل الحكومي للدول العربية، وهذا يعني القبول بمَن ترشحه دولته لتمثيلها في أعمال المؤتمر – سواء كان باحثاً - وهو الأفضل - أو موسيقياً أو مغنياً، أو إدارياً في دائرة ما تعنى بالموسيقى. أما الوجه الثاني، وهو الأهم، مشاركة باحثين مختصين في مجال البحث الموسيقي، يقدمون أبحاثهم وتجري مناقشتها لتخرج بالتالي توصيات مهمة بكل تأكيد.
وعند عودة الموفدين كل إلى بلده، يتم رفع تقاريرهم إلى الجهات الحكومية المختصة، فإما تأخذ بها، أو تُركَن داخل الملفات ويطويها النسيان. لكني وبكل أمانة أقول: إنها مؤتمرات رائدة تبقى ثقافتنا العربية بحاجة إلى معين نتائجها – قدر تعلق الأمر بالموسيقى العربية.

* من المعروف بأنك أحد مؤسسي الفرقة السمفونية العراقية، نتمنى عليك أن تحدثنا عن ظروف تأسيسها، ومن هم الذين شاركوك هذا العمل؟
- كانت البداية الفعلية لهذه الفرقة ضمن إطار معهد الفنون الجميلة، وذلك في العام 1941 (أرجو الإنتباه لهذا التاريخ)، حيث تشكلت في المعهد أوركسترا وترية قدمت حفلتها على حدائق " الكلية الطبية الملكية العراقية " ببغداد وبقيادة الموسيقار حنا بطرس. وفي العام 1948، تم تأسيس " جمعية بغداد الفلهارمونيك " التي إحتضنت فرقة بغداد الفلهارمونيك المؤلفة من أساتذة وطلبة معهد الفنون الجميلة وعناصر من موسيقى الجيش ومؤسسات أخرى. وقام بقيادتها إستاذ الكمان (ساندو آلبو). وكنت شخصياً في بداية عهدي - الصف الثاني في المعهد – ومن ضمن أعضائها. إستمرت الفرقة في تقديم فعالياتها بمناهج من الموسيقى الكلاسيكية بشكل فخري، حتى العام 1959، حين قررالزعيم عبد الكريم قاسم إعتبار الفرقة " فرقة رسمية للدولة " ومنذ ذلك الوقت صار إسمها (الفرقة السمفونية الوطنية العراقية).
نحن من الجيل الثالث الذي أسس الفرقة السمفونية الوطنية العراقية؛ وبخاصة في دورنا بإعادة تأسيس الفرقة مطلع السبعينات، وكنا كل من إحسان إبراهيم أدهم، أسعد محمد علي، منذر جميل حافظ، وباسم حنا بطرس.

* هل هذا يعني بأن الفرقة قد إنحلت وغابت عن الساحة الفنية العراقية لفترة من الزمن؟
- باختصار، جرى إعادة تأسيسها بعد توقف قسري دام من العام 1966 حتى 1970. فجرى تكليفنا كـ " لجنة تحضيرية " من قبل وزارة الإعلام بموافقة الوزير " شفيق الكمالي " عن طريق السيدة لمعان البكري في القيام بهذه المهمة، فتم إستدعاء العازفين القدامى والجدد وإستقدام القائد الألماني السابق " هانز كونتر مومر " وتعاقدت الوزارة معه وعازفين بمستويات ممتازة من أوربا الغربية. إضافة إلى الإستعانة بالخبراء الأجانب العاملين في مدرسة الموسيقى والبالية كعازفين في الفرقة. وهكذا كانت عودة الفرقة بشكل مبهر، حيث خصصت لها مخصصات مالية، وتم شراء آلات موسيقية من أوربا بنوعيات جيدة، وتوفرت المدونات الموسيقية لمختلف المؤلفين، وأخذ العمل طابعه الجماعي بين أعضاء الفرقة وقائدها حيث كانت تجري نقاشات ودراسات حول الأعمال المراد تقديمها، لذا تجد أن أغلب الأعمال التي خرجت لمسامع المتلقي تمتاز بالتقنية العالية.
إستمرت الفرقة بعملها بتقديم الحفلات للجمهور على قاعة الخلد وقاعة الشعب ومن بعد المسارح الجديدة " المسرح الوطني، ومسرح الرشيد " وشهدت زيادة نوعية في جمهورها وبخاصة من الشباب والطلبة.

* هل تعتقد بأن الذوق الموسيقي العراقي كان بحاجة إلى فرقة سمفونية؟
- الذوق العراقي توّاق دائماً للتعرف على مختلف التيارات الثقافية. فالموسيقى السمفونية دخلت أسماع الإنسان العراقي من خلال أجواق موسيقى الكشافة ومن ثم الجيش، وكذلك المدارس الأهلية كـ " مدارس الراهبات ". إضافةً إلى المصنفات السينمائية، حتى العربية منها، التي كانت تستخدم فصولاً من الموسيقى السمفونية. وكذلك إستخدام الموسيقى الكلاسيكية – هكذا كانت تُعرَّف كمقدمات في برامج إذاعية وتلفزيونية (تمثيلية الأسبوع لعبد الله العزاوي، وبرنامج الرياضة في أسبوع الذي كان يعتمد الموسيقى العالمية كمقدمة للبرنامج). كان تهافت الشباب لحضور الحفلات السمفونية له ميزة خاصة، أيام كنا نعتمد هوية الطالب في إقتناء تذكرة الدخول بالسعر المخفَّض، إضافة إلى قيام الفرقة بتقديم حفلات خاصة للطلبة في الجامعات والمعسكرات التدريبية الصيفية، وكذلك المحافظات.
كانت السمفونية خير منهل لتنمية قدرات الأداء الفني لطلبة مدرسة الموسيقى والبالية ومعهد الفنون الجميلة، وكذلك تشجيع التاليف الموسيقي الآلي، فصار لنا فيه رصيدٌ متنامٍ من المؤلفات، إلا أن ذلك لا يعني أن الشعب بمجمله يتذوق هكذا نوع من الموسيقى، كما أن الذائقة عند الناس غير متساوية ولا متفردة. تبقى فنون التراث الموسيقي بكل أشكالها الأكثر تأثيراً على الناس لأنها تعبِّر عن وجدانهم، كما أنها لا تحتاج إلى إجتهاد في تذوِّق المادة المسموعة. لا ننسى أن تراثنا الموسيقي هو غنائي بأغلبه، فالكلمة تلعب دورها المباشر في إستمالة المستمع.

* في إحدى مقالاتك المنشورة على صفحات مجلة فنون للعام 1979 كتبت: " في عام 1948 تقرر تشكيل أوركسترا في المعهد من الأساتذة والطلبة ... " ترى ماهي ظروف تشكيل هذه الفرقة وكم دامت؟
- كل معهد موسيقي يسعى لتشكيل فرق للأداء الموسيقي، لأن من شأن الفرقة الموسيقية أن تمنح الطالب الدارس فرص التعرف إلى منافذ العلوم الموسيقية (Musicology) من خلال التطبيق العملي عند العزف في الفرقة.
عند تأسيس المعهد الموسيقي في العام 1937، كانت بنيته الأساسية الأولى جوق الموسيقى الهوائية، الذي إستقطب عناية الطلبة الجدد، فقد كان هذا الجوق أول شكل من أشكال الفرقة السمفونية، لكنه كان مقتصر على آلات النفخ الهوائية والآلات القارعة. في العام 1941، وبعد أن تحول المعهد إلى معهد للفنون الجميلة وتحديداً في العام 1948 جرى تأسيس " جمعية بغداد الفيلهارمونيك "، كنتُ آنذاك طالباً بفرع الجلو " الفيولونسيل: Violoncello " حيث تم إدراجي عازفاً مع كل من أستاذي (هاكوب قيومجيان – وهو أول خريج في الجلو تتلمذ على محي الدين حيدر) وزميلي في الدراسة لويس ميشو الذي كان أقدم مني بثلاث سنوات. لذلك فقد عايشت هذه الفرقة التي ضمَّت أساتذة المعهد وطلبته، إلى جانب عازفين خارجيين. وقدمت مناهج كبيرة لمؤلفين أوربيين أمثال (باخ، موزارت، شوبان، بيزيه، بيتهوفن – وغيرهم) وهذا يأتي في صلب الموسيقى السمفونية، فكانت حفلاتها على قاعة المعهد حين كان في منطقة الكسرة قبالة البلاط الملكي.
دامت الفرقة تعمل بشكل فخري - دون أجور - بل كان الأعضاء يدفعون رسم إشتراكهم في عضوية جمعية بغداد الفيلهارمونيك وقدره نصف دينار في السنة. وهي الفرقة التي تحولَّت في العام 1959 إلى " الفرقة السمفونية الوطنية العراقية " كما أسلفت.

* قدمت تلك الفرقة أول منهاج " حفل " لها عام 1949، هل تذكر لنا طبيعة الجمهور الذي حضرها؟
- كان الجمهور من النخبة العراقية المثقفة وبعض من الأجانب، حيث كانت قاعة معهد الفنون الجميلة التي تسع 300 مقعد، تزدحم بهم. وكان أول منهاج يشتمل على: السمفونية الناقصة لشوبرت، كونشيرتو الكمان والأوركسترا الوترية في مقام (مي) الكبير ليوهان سبستيان باخ، وكونشيرتو رقم (1) للبيانو والأوركسترا لشوبان، والسمفونية رقم 103 " الساعة " لهايدن.

*بعد أن أعتبرت الفرقة السمفونية فرقة عراقية رسمية وأصبح يصرف لأعضائها راتب شهري، صدر قرار وزاري بإيقاف تلك الفرقة تحت ذريعة أن الفرقة السمفونية قفزة لا يستوعبها الجمهور العراقي، ترى من كان ذلك الوزير ومتى كان تاريخ القرار، وكيف كان وقع ذلك القرار في نفوس الفنانين من أعضاء الفرقة؟
- كان فيصل السامر - وهو من العناصر المثقفة - وزيراً للإرشاد في حكومة عبد الكريم قاسم عند إعتبار الفرقة السمفونية فرقة رسمية للدولة، عملت الفرقة بشكل هادئ وطبيعي. بعد فترة حصل تغيير وزاري تم بموجبه تعيين " إسماعيل العارف " وزيراً للإرشاد. ولم يكن ذلك الرجل مقتنعاً بجدوى وجود الفرقة السمفونية، كونها تقدم " ثقافة أجنبية " لا تخدم قضية الشعب حسب رأيه، لذلك قرر تجميد عملها بدون إنذار مسبق. وحين تسائل بعض أعضاء اللجنة الإدارية للفرقة حول السبب، أتى الرد على أن الفرقة السمفونية التي عملت لما يقرب من عقدين من الزمن بشكل فخري - بدون رواتب – يمكنها أن تعود ثانيةً للعمل المجاني " الفخري ". وهكذا استمرت الفرقة بإقامة التدريبات، مرة في بيت منذر جميل حافظ، ومرة أخرى في موقع آخر. كانت المسألة مزاجية، مزاج شخص الوزير في قبوله أو رفضه. كما حصل في العام 1965– 1966 حين قررت حكومة ناجي طالب - بشخص وزيرها دريد الدملوجي - إستصدار قرار يقول مطلعه: " بناءً على مقتضيات المصلحة العامة، فقد قرر إلغاء الفرقة السمفونية الوطنية العراقية ... الخ ". وتم وقفها نهائياً حتى العام 1970– 1971.

*هل تحدثنا عن أعمال فرقة " موسيقى الصالة " التي إنبثقت من صلب الفرقة السمفونية العراقية؟
- موسيقى الحجرة (أو موسيقى الصالة – بتعبير أكثر أكثر دقة لمصطلح Chamber Music) هي من صلب عمل الفرق السمفونية. قدمت هذه الفرقة الكثير من الحفلات على المسارح والقاعات وكذلك دار الإذاعة والتلفزيون العراقية.
وأذكر بعض الأعمال التي قدمتها هذه الفرقة، مثل حفلة لها على مسرح مكتبة الطفل العربي في شارع دمشق، وكانت بدون قائد موسيقي، حيث قدمت شئً من الموسيقى الكلاسيكية، كان من بين فقراته " سويت – ممتاليات " ليوهان سباستيان باخ، عزف فيه زميلنا إحسان أدهم على الفلوت المنفرد. كما قدَّمنا حفلة على قاعة الخلد لمجاميع عزفية مصغرة لموسيقى الصالة منبثقة من الفرقة السمفونية، بدلاً عن الفرقة السمفونية بكاملها.

* في عام 1992 تقدمت بطلب إحالتك إلى التقاعد، ترى ما هي الأسباب التي دعتك لذلك، وما هو آخر عمل أنجزته قبل التقاعد الفعلي؟
- جرى التنويه لتعييني مديراً عاماً لدائرة الفنون الموسيقية خلفاً لمنير بشير الذي بلغ السن القانونية للتقاعد. فاعتذرت عن ذلك، وتقدمت بطلب الإحالة للتقاعد، وكنت مصرَّاً في الطلب. فكان آخر عمل بادرتُ له هو الإحتفال بالذكرى الخمسين لتأسيس الفرقة السمفونية الوطنية العراقية، كان إحتفالاً مهيباً أقيم ليومين متتالين على قاعة الرباط.

*لماذا قررت الخروج من العراق، وهل وجدت ضالتك في المكان الذي تعيش به الآن ؟
- السفر عندي حالة دائمة، وقد سافرت كثيراً منذ صغري. عملتُ خلال السنوات 1992 - 2000، في المعهد الوطني للموسيقى في الأردن، بإقامة ورخصة عمل رسميتين، وكنت أتنقل كثيراً وبحريَّة بين بغداد وعمان، بمعدل مرة كل شهرين، كان آخرها سفرتي إلى بغداد في آب 2000 وجواز سفري يحمل التأشيرة والإقامة النيوزيلندية الدائمة، لتوديع الأقارب والأصدقاء. دخلنا نيوزيلندا، هذا البلد القصيّ والبعيد عن مناطق الفوضى، بجوازاتنا العراقية بكل حريَّة؛ إنه بلد جميل هادئ، تتوافر فيه كل أسباب حياة الإستقرار. هكذا حللنا في أرضه منذ تشرين ثانٍ 2000، وحصلنا من بعد على الجنسية والجواز. فتحقق لنا الإستقرار.

*الفترة الدموية التي كان العراق غارقاً بها، وأقصد حروب الدكتاتور بين الأعوام 1980-1991، كيف أثرت على الساحة الفنية العراقية، خصوصاً وأن تلك الفترة وكما هو معروف قد أفرزت شوائب موسيقية كثيرة تعلقت في أذيال المسيرة الفنية العراقية؟
- ما كان تأثيرها فقط على الساحة الفنية العراقية؛ بل طالت كلَّ نسمة هواء فأفسدّتْها. أجل، كان وقعها خطيراً في كل مناحي الحياة. والحياة الموسيقية جزء منها، واصلت مسيرتها بتعثّر أحياناً. لكنها إستمرَّت كما هي حال المساقات الثقافية الأخرى.

* ما علاقتة الموسيقار باسم حنا بطرس بالشعر؟
- 19- أتحسس جماليات الشعر حين أسمعه يُتلى من شاعرٍ مُجيد، أو يُغنَّى من مغنٍّ بارع. والشعر موسيقى كما في صوت الآلة. لكني بالتأكيد لستُ شاعراً.

* ما نوعية الإنتاج الموسيقي للموسيقار باسم حنا بطرس بعد أن عاش الغربة؟
- أنا لا أعيش الغربة؛ لأني أعيش مع عائلتي، وهذا هو المهم بغض النظر عن تسمية المكان. عملت متطوعاً مع فرقة سمفونية للهواة، ومع أخرى لمعهد موسيقي: المهم أني قدمتُ قبل سنتين عملاً موسيقياً عراقياً من مؤلفات والدي حنا بطرس هو (الروندو الشرقي Rondo Oriental)، الذي سبق لفرقتنا السمفونية العراقية تقديمه داخل العراق وخارجه، للتعريف بأن العراقيين يمتلكون المعرفة والثقافة ويتعاملون بها حياتياً، ليس كما نقلت وسائل الإعلام وبخاصة عند الغزو ومن ثم الإحتلال أخباراً وصوراً من أعمال الشغب والسطو والنهب والخطف والذبح والشعارات الزائفة!.
أما حياتي العامة فهي ثقافية بكلٍّ مجالاتها: كتاباتي مستمرة في بعض مواقع الإنترنيت، وفي بعض المجلات: هدفي من الكتابة منح القارئ وبخاصة القارئ العراقي، فرص الإبتعاد عن أجواء الطروحات السياسية – لاأستثني منها شئ، والعودة به للتعايش مع الذائقة الثقاقية.
ومحليّاً، فأنا أشرف وأقود وأعزف مع جوقة كنيستنا العراقية في منطقة جنوب أوكلند، إضافةً إلى تقديم محاضرات في محافلنا الثقافية العراقية والعربية، والسفر بين الحين والآخر، وبحسب توافر الفرص.

*هل توافق رأي الشاعر أدونيس في أن أحاسيس المنفى أو الغربة مهمة جداً للمبدع كي يبني ثقافاته بشكلها الصحيح؟
- لكل شخص قناعاته في التعايش مع الظرف، إلاّ أنَّ الأهم – في قناعتي الشخصية – أنْ تتحرك خلايا الفكر عند الإنسان في الإتجاه المتقدم، ينظر بواقعية أولاً، ثم بتفاؤل للتعايش مع المستجدات، فلا يقف تجاهها موقف التصدي الرافض، ولا ينصهر فيها بذوبان فيفقد هويته وشخصيته. هكذا وجدنا المتغيرات في مستويات الإبداع عند المبدعين، إنها لم تلغِ ما مضى، لكنها تعاملت بواقعية مع اليوم الحاضر والمستقبل. هذه رؤيتي عن الإبداع.

* شغلت منصب عميد معهد الدراسات النغمية لفترتين، ترى لماذا كانت فترات قصيرة؟
- كانت مشاغلي الوظيفية والفنية مزدحمة جداً، والمعروف عني هو إني أعطي المهمات التي تناط بي حقها وربما أكثر، لذلك كانت المناصب الإدارية تعرض عليّ بشكل مستمر. وعلى العموم فقد إستلمت عمادة معهد الدراسات النغمية - الموسيقية فيما بعد - لفترتين: الأولى لأربعة شهور وبشكل مؤقت في العام 1984، كان ذلك بالوكالة بسبب إلتحاق عميد المعهد آنذاك " خالد إبراهيم " بالجبهة أيام الحرب العراقية الإيرانية، أما الثانية فكانت بتعيين رسمي كعميد للمعهد في العام الدراسي 1987- 1988.

* كلمة توجهها إلى وزارة الثقافة العراقية، خصوصاً وأن مدير دائرة الشؤون الموسيقية في الوزارة الفنان بيرج كيراكوسيان هو أحد زملائك ومن أصدقائك المقربين.
- أتمنى على دائرة الفنون الموسيقية بوزارةالثقافة - وأنا أحد مؤسسيها – أن لا تتغافل عن الأسماء الفنية التي خدمت الموسيقى العراقية بكل شرف وأمانة، وأن تفتح الأبواب لكل مقترح أو مشروع يخدم الحركة الموسيقية والغنائية العراقية، وأن تأخذ بيد النشأ الجديد لتضعه على الطريق العلمي الصحيح، وأن تنضف الساحة من الشوائب والطفيليات التي علقت بسيرة الحياة الموسيقية العراقية خلال السنين الخوالي. وكنت قد كتبتُ عدداً من الرسائل الإلكترونية إلى الوزارة، وكذلك بعض المناشدات من خلال إذاعة " ساوا " وبشكل مباشرةً إلى السيد بيرج كيراكوسيان، ولكني لم أجد إستجابةً حتى اللحظة.
وهنا أنتهز هذه الفرصة التي منحتني إيها صحيفة إيلاف لأقدم تحياتي ومحبتي لأعضاء الفرقة السمفونية الوطنية العراقية وبخاصة القدامى منهم. وأدعوهم جميعاً أنْ لا يديروا ظهورهم نحونا؛ أملي كبير بأن يتحقق حلمنا القديم في أن تدوم الفرقة لتقدم عطاءها لإنساننا ومجتمعنا العراقي.

*أستاذ باسم أشكرك جداً
الشكر لكم

[email protected]