تتسم شخصية "العبراني الجديد"، أي المستوطن الصهيوني، بعدائها للفكر وتركيزها على الفعل. وقد نجحت النخبة الصهيونية الحاكمة في ترسيخ هذه الرؤية في وجدان الأجيال الأولى من المستوطنين الصهاينة، حيث عبَّرت عن نفسها فيما يُسمى عملية "الريادة" (ويُطلق عليها بالعبرية اسم "حاليتسيوت"، ويُسمى الرائد "حالوتس"). ويعني هذا المصطلح الصهيوني أن اليهودي يهاجر من بلده إلى أرض خالية من السكان ليكتشفها ويكون رائداً فيها، وإن تصادف ووُجد فيها سكان أصليون فبوسعه، على الطريقة الاستعمارية الاستيطانية الإحلالية، أن يقضي عليهم، إما عن طريق الإبادة أو الطرد. وبالفعل، ظهر جيل من المستوطنين المقاتلين الذين يدينون بالولاء الكامل للدولة الصهيونية، ويجسدون ما يمكن تسميته "شخصية الطرزان الصهيوني". وقد ظل هذا الوضع قائماً حتى عام 1967، إلا إنه بدأ يتغير بشكل متصاعد منذ ذلك الحين، وهو أمر يُلفت النظر، إذ أن "الانتصار" الذي حققته الدولة الصهيونية لم يؤدِّ إلى مزيد من التماسك الاجتماعي والثقة فيما ترفعه هذه الدولة من شعارات، بل تمخض عن نتائج عكسية تماماً. فعلى سبيل المثال، أشار طالب في جامعة تل أبيب، في مقال كتبه في تلك الفترة تحت عنوان "الطالب المخصي"، إلى عدم اكتراث الشباب الإسرائيلي بعالم السياسة والقضايا العامة، فبينما شهدت الجامعات في مختلف بلدان أوروبا وأميركا حركات احتجاج شبابية عارمة في أواخر الستينيات، كان الشباب في الجامعات الإسرائيلية مشغولاً بشيء واحد هو: نفسه. ولهذا، أصبح يُطلق على الجيل الجديد في إسرائيل تعبير "جيل الإكسبرسو"، والذي عُرِّف في القاموس العالمي للعامية العبرية، الذي حرره "دان بن أموتز" و"ناتيفا بن يهودا"، بأنه يشير إلى الشبان الذين لا يؤمنون بفكرة "الريادة" الصهيونية فيقضون جل وقتهم في شرب الإكسبرسو في المقاهي وفي تبادل الأحاديث التافهة. ولا يختلف هذا المصطلح عن مصطلح آخر شائع وهو "روش قطان"، وهو عبارة عبرية تعني "الرأس الصغير"، ويدل على الإنسان العلماني الاستهلاكي الذي يهتم بمصالحه الخاصة واحتياجاته المباشرة ولا يشغل باله بالأهداف القومية الصهيونية أو بعالم الأفكار والقيم، فمعدته كبيرة ورأسه صغير.

وتسوق دراسات علماء الاجتماع في إسرائيل عدة أسباب لهذا الوضع، وفي مقدمتها:

1- أن الشباب الإسرائيلي يعيش في حضارة "الآن وهنا"، فالبحث عن المعنى يتم في إطار رأسمالي تنافسي استهلاكي يُعلي من النزعة الفردية، مما يعني العزوف عن قضايا الحياة العامة والصالح العام والانغماس في إشباع الحاجات الشخصية، التي يلتمسها الشباب في النوادي الليلية أو في شركات التقنيات المتقدمة (الهاي تك) أو حتى في محيط العائلة. ويرى "شيراليف آري" (صحيفة هآرتس، 29 مارس 2002) أن الشاب الإسرائيلي الذي يغرق نفسه في الموسيقى الصاخبة يعتبر نفسه مجرد كائن سلبي لا يملك السيطرة على حياته.

2- أن الشاب الإسرائيلي لا يلتحق بالجامعة إلا بعد إنهاء فترة الخدمة العسكرية، التي تزيد من تشوه شخصيته وتقضي على ذاتيته. وعادةً ما يكون في هذه المرحلة أكبر سناً من طلاب الجامعات في البلدان الأخرى، وعليه بعد التخرج أن يصارع لتعويض ما فاته وتلبية المطالب الحيوية الملحَّة، مثل الحصول على وظيفة وتأسيس أسرة، مما يعني مزيداً من الانصراف عن الشأن العام.

3- أن وفود مهاجرين جدد ذوي خلفيات اجتماعية وقومية وعرقية وثقافية متباينة يمثل احدى الخصائص الأساسية لدولة إسرائيل، مما يؤدي إلى طرح قضية الهوية على الدوام، ويحول دون تجذر الإحساس بالاستقرار والانتماء إلى مجتمع مترابط يتسم بالانسجام، وهو الأمر الذي يقود بدوره إلى الانكباب على الذات أو البحث عن ملاذ في محيط العائلة أو الطائفة أو المجموعة العرقية، بينما تتراجع القضايا العامة إلى أدنى سلم الأولويات.

وأحياناً ما تضيف الدراسات الإسرائيلية ما تسميه "المشكلة الأمنية"، أي استمرار الانتفاضة الفلسطينية، إلى جملة الأسباب التي تدفع الشباب الإسرائيلي إلى الانصراف عن السياسة، ولكنها تذكرها بشكل عابر وكأنها مجرد مشكلة ثانوية عارضة، كما أنها لا تتطرق إلى أزمة الصهيونية الأعمق على صعيد النظرية والممارسة. والواقع أن هذين العنصرين يفوقان في أهميتهما ومقدرتهما التفسيرية ما يورده علماء الاجتماع الإسرائيليون من أسباب. فصحيح أن الشباب الإسرائيلي لا يكترث بالسياسة، ولكنه يشعر بمأزق إسرائيل التاريخي، باعتبارها جيباً استيطانياً أقامه الغرب الاستعماري في منطقة ذات أهمية استراتيجية، يرتبط سكانها الأصليون بتشكيل حضاري راسخ هو التشكيل العربي. وقد قيل للمستوطنين إنه سيكون من السهل عليهم التخلص من هؤلاء السكان الأصليين والتمتع بخيرات الأرض التي اغتصبوها عنوةً في ظل الحماية والدعم الغربيين. إلا إن الواقع الذي يصطدم به هؤلاء المستوطنون كل يوم يختلف تماماً عن تلك الصورة الوردية. فأصحاب الأرض الأصليون يرفضون الخضوع لمنطق التغييب أو التهميش، ويتزايدون بأعداد كبيرة، ويواصلون إبداع أشكال جديدة من المقاومة في مواجهة المحتل. ولهذا، يشعر كثير من أبناء الأجيال الجديدة من المستوطنين أنهم خُدعوا، وأن الرؤية الصهيونية هي أكذوبة ليس لها أساس في الواقع، وأنها وصلت بهم في نهاية الأمر إلى طريق مسدود.

إلا أن هؤلاء الشباب لا يجدون مخرجاً من هذه الورطة التاريخية، فعليهم أن يقضوا ثلاث سنوات على الأقل في الخدمة العسكرية يدافعون عن أفكار لا يؤمنون بها ويقاتلون ويُقتلون من أجل كذبة، وهو الأمر الذي يؤدي إلى اضطراب رؤيتهم واختلال منظومة القيم لديهم. فهم، على سبيل المثال، يطالبون بالمساواة بين الجنسين ولكنهم يرفضون المساواة مع العرب، ويطالبون بالحقوق الديمقراطية، ولكنهم يرفضون أن يتمتع بها العرب. ويُلاحظ أن عدداً كبيراً ممن وُلدوا على أرض فلسطين يعتقدون أن احتلال الأراضي الفلسطينية بالقوة "مسألة طبيعية"، وأن الضفة الغربية ليست أرضاً محتلة بل هي أرض توراتية متنازع عليها، ومن ثم لا يحق لليهود التنازل عنها للعرب، الذين يُشار إليهم باسم "عرب يهودا والسامرة"، وليس عرب فلسطين أو حتى عرب الضفة الغربية، مما يعني تجريدهم من أي انتماء قومي أو تاريخي ويجعل حرمانهم من حقوقهم مسألة عادية لا تثير أية مشكلات أخلاقية. وبالرغم من هذا كله، يتزايد فرار أولئك الشباب أنفسهم من الخدمة العسكرية، فهم يدركون أن حروب إسرائيل لم تحقق لها السلام أو الاستقرار، كما لا يمكن اعتبارها دفاعاً عن النفس.

وينعكس اضطراب الرؤية هذا في عدد من الظواهر الاجتماعية المرضية. فعلى سبيل المثال، نشرت صحيفة يديعوت أحرونوت (3 يونيو 2004) نتائج بحث أجراه فريق من جامعة "بار إيلان" بالتعاون مع وزارات الصحة والتعليم والثقافة في إسرائيل، ووُصف فيه الشباب الإسرائيلي بأنه عنيف ويفرط في تعاطي المشروبات الكحولية ويعاني خوفاً وجودياً. ومن الظواهر التي أبرزها البحث ظاهرة الانتحار، حيث ذكر 13 في المئة من الطلاب في سن الخامسة عشرة أنهم فكروا في الانتحار بجدية، وذكر 9 في المئة إنهم أعدوا خطة انتحار، بينما قال 6 في المئة أنهم حاولوا الانتحار مرة واحدة على الأقل خلال السنة الأخيرة، مما يعبر عن شيوع الإحساس باليأس الكامل وعدم جدوى الحياة في "أرض الميعاد." والله أعلم.