من أراد ان يتعرف على نموذج لإعلام "الفتنة" فليرجع الى ما نشرته الصحف العربية في الاسبوع الماضى من اخبار محرفة وملفقة، تلقفها نفر من المتربصين، الذين راحوا يجلدوننا بها، ويصيحون ويهللون، وهم يندبون حظوظ العرب والمسلمين وأيامهم.

(1)
الكلام الذى قاله الدكتور يوسف القرضاوى في نقابة الصحفيين المصريين عن مقاومة الامريكيين في العراق كان عنوانا مهما في تلك الاخبار، ذلك ان الصيغة التى نشر بها مضمون كلامه في الكثير من الصحف العربية اقامت الدنيا ولم تقعدها. ورغم ان محاضرته التى ألقاها بالنقابة مساء 31/8 كانت حول " التعددية السياسية في المفهوم الاسلامى "، الا ان الصحف لم تهتم بدفاعه القوى عن الفكرة، وركزت على اجابة له على سؤال لاحد الحاضرين حول رأيه في اختطاف الامريكيين المدنيين في العراق، وقتلهم والتمثيل بجثثهم، لاجبار القوات الامريكية على الخروج من العراق، كما حدث من قبل في الصومال.
ما نشرته الصحف وتناقلته وكالات الانباء ان الشيخ القرضاوى ايد قتل جميع الامريكيين في العراق، دون تمييز بين عسكريين ومدنيين، لكنه اعترض على التمثيل بجثثهم، باعتبار ان ذلك منهي عنه شرعا. ولان آفة الاخبار رواتها، فان البعض نقل الكلام بحسبانه " فتوى " اجازت قتل الامريكيين على العموم، وتحدثت جريدة الوطن الكويتية " عدد 5/9 "عن ان الشيخ دعا الى " وجوب قتل المدنيين من الغربيين في العراق " هكذا مرة واحدة.

ولان المتحدث هو الشيخ يوسف القرضاوى، اهم مرجع دينى بين اهل السنة في زماننا، ولان الامر يتعلق باجازة قتل المدنيين، وهو امر بالغ الحساسية، ناهيك عن ان المقصود هو الامريكيون وعامة الغربيين، وهم كما تعلم من الدرجة الاولى الممتازة في تصنيفات البشر ـ ليسوا افغانا او عربا او افارقة مثلا ـ فان الكلام اثار ضجة واسعة النطاق في مختلف الاوساط، داخل العالم العربى وخارجه. وقدتنبهت الى ذلك من ملاحظتى لِكَمِّ التدافع الاعلامى الغربى صوب كل من تصوروا ان له صلة بالموضوع. وسعي كبريات الصحف والتليفزيونات الى معرفة حجم التأييد او المعارضة لتلك الدعوة الخطيرة. ولاننى تلقيت في يوم واحد اربعة اتصالات في هذا الصدد من مراسلين اوروبيين وامريكيين، فلك ان تتصور حجم الضغط الذى تعرض له من هم اهم منى واثقل وزنا.

لم يقف الامر عند ذلك الحد، وانما كان للكلام صداه في العالم العربى ايضا. اذ نشرت عدة صحف سيلا من التعليقات التى سارعت الى التنديد بموقف الشيخ، وركزت على امرين : اولهما ان الرجل كشف عن حقيقة " اعتداله " الذى يدعيه، واظهر للجميع وجها متطرفا وتفكيرا ارهابيا، الامر الثاني ان تيار الاعتدال اسطورة ووهم، وانه يكتم تطرفه ويخفيه. وهو منطق اريد به التأكيد على ان الناشطين المسلمين جميعا ارهابيون ومتطرفون، والذين يدَّعون الاعتدال منهم يتظاهرون بذلك فقط، في حين ان موقفهم الحقيقى هو في مربع التطرف والارهاب، الامر الذى يعنى انه ليس بين الناشطين الاسلاميين متطرفين ومعتدلين، وانما هم في حقيقة الامر بين متطرف اسفر عن وجهه وكشف اوراقه، ومتطرف آخر كان أكثر حذقا ومهارة فأخفى قناعاته واظهر سمت الاعتدال وتبنى شعاراته.

هذا الخطاب جاء متطابقا مع رؤية الغلاة في الولايات المتحدة خاصة، التى اعتبرت كل المسلمين " اشرارا " وذهبت في التجريح الى التعاليم ذاتها بحسبانها مصدر الشر ومنبعه الحقيقى، فيما سمعت من صحفى امريكى صديق مقيم بالقاهرة، فان الكلام الذى نسب الى الشيخ القرضاوى ازعجهم كثيرا، في حين ان التعليقات التى صدرت عن اولئك النفر من الكتاب العرب اراحتهم بدورها كثيرا.


(2)
حصلت على تسجيل لكلام الشيخ في نقابة الصحفيين المصريين. ووجدت في رده على السؤال أنه قال :«ان الامريكيين الذين جاؤوا الى العراق غزاة، ومن ثم فكلهم محاربون وقتالهم واجب.. ولكن التمثيل بالجثث لا تقره اخلاق الاسلام.. ودستور الحرب في الاسلام دستور اخلاقى، وبمقتضى ذلك الدستور فينبغى الا يقتل الا من يقاتل. ومن ثم فكل من لا يحمل السلاح ليس لنا ان نقاتله.
هذه عبارات وردت بالنص في كلام الشيخ الذى عزز رأيه باستشهادات من احاديث النبى عليه الصلاة والسلام في الموضوع، وبوقائع من تجارب المسلمين في العهد الراشدى، خصوصا خلافة سيدنا أبي بكر وما صدر عنه من نصائح للمحاربين المسلمين دعتهم الى عدم المساس بالمدنيين المسالمين.

وإزاء التشويه الذى تعرض له كلامه، والضجة التى أحدثها في عواصم العالم، فانه سارع بعد النشر الى نفى ما نسب اليه، من خلال بيان بعث به الى مكتب جريدة " الحياة " اللندنية في بيروت " وكانت قد ابرزت الزعم بانه دعا الى قتل الامريكيين "، كما عقد مؤتمرا صحفيا لذات الغرض في النادى الدبلوماسى بالدوحة حضره بعض اعضاء السفارتين الأمريكية والفرنسية، الى جانب حشد كبير من مراسلى الصحف ووكالات الانباء، وفى هذا المؤتمر اكد " ان الإسلام لا يجيز خطف المدنيين او قتلهم " ودعا الى ضبط تعريف " المدنى " حتى لا يحدث اى التباس في شأنه، وهو ما أدى الى تهدئة الزوبعة، حتى اشعار آخر على الاقل. لاننى لا أستبعد ان يتجاهل البعض نفى الشيخ القرضاوى وتصويباته، ويتعامل مع الموقف الاول الذى نسب اليه على انه التعبير الحقيقى عن رأيه. وهو الموقف الذى يتفق مع هواهم، ويؤيد الصورة النمطية المنفرة التى يعملون على تسويقها.


(3)
خذ ايضا ما جرى في عملية احتجاز طلاب احدى المدارس الروسية في اوسيتيا الشمالية، التى انتهت بمقتل اكثر من 300 شخص بينهم 150 طفلا، وهو الحادث الفظيع الذى وقع في 1/9 وأثار قدرا غير قليل من الغضب والاشمئزاز في العالم كله، واذ اتهم الشيشانيون في العملية، فان الاخبار الاولى تحدثت عن اشتراك عشرة من العرب مع الفاعلين الذين بلغ عددهم 32 شخصا. كما تحدثت الاخبار عن العثور في مكان قريب من الحادث على كراسة بها كتابات عربية، سيرا على درب الذين اعتادوا عند وقوع اى مصيبة على الحديث عن رؤية " وجوه شرق اوسطية " في موقعها أو قريبا منها.
ما ان اذيع خبر اشتراك العرب العشرة حتى أبرزته بعض الصحف العربية على صفحاتها الاولى. وتحول في خطاب بعض الكتاب العرب الى مادة للتعليق والتشهير بأولئك " العرب الاشرار " الذين اصبحوا ينشرون الموت والرعب في مختلف انحاء العالم، في الوقت ذاته تسابق آخرون في جلد الهوية الاسلامية التى نعوا عليها انها لم تعد تقترن في الذهن العام سوى باشعة الارهاب والموت في كل مكان. احدث ما قرأته في هذا الصدد مقالة نشرت تحت عنوان : الصورة السوداء الآن : الاسلاميون العرب ضد العالم. وفيها ذكر الكاتب انه منذ احداث سبتمبر 2001 "والاسلاميون العرب يواصلون ترويع العالم بأحداث مشابهة " " الحياة اللندنية 10/9"ـ ومقالة اخرى عنوانها : الحقيقة المؤلمة ان كل الارهابيين مسلمون. وفيها تحدث الكاتب عن سجل المسلمين السيئ في العالم، معتبرا انه بمثابة صورة " قاسية ومخجلة ومهينة " ـ الشرق الاوسط 4/9.

فى اليوم العاشر بعد وقوع مذبحة المدرسة الروسية، ظهرت مفاجأة غيرت من بعض معالم المشهد. اذ تبين ان العرب ابرياء من الدم الذى اريق في اوسيتيا، وان الذين قاموا بالعملية لم يكن بينهم احد منهم. وانما كان اغلبهم من الشيشانيين والباقون من ابناء انجوشيا واوسيتيا ذاتها واوكرانيا. وهو ما اعلنته وكالة الانباء الروسية " انترفاكس " ونشرته صحف 10/9. ومن الملاحظات ذات المغزى في هذا الصدد ان الذين ابرزوا خبر مشاركة العرب في الجريمة ونشروه على الصفحات الاولى، اوردوا النفى ضمن اخبار الصفحات الداخلية، وهو ذات الموقف الذى اتخذوه في ابراز التصريحات التى نسبت الى الدكتور القرضاوى في البداية، ثم في دفن بيان التكذيب الذى اصدره المؤتمر الصحفى الذى عقده في الصفحات الداخلية بعد ذلك !


(4)
فى ملف " أعلام الفتنة " نماذج اخرى كثيرة، لا يتسع المجال لاستعراض المزيد منها. لكنى اخص بالذكر حالة تثير الانتباه مررت بها مؤخرا. فقد كتب احدهم مقالا في " الشرق الاوسط " تبنى فيه الدعوة الى ما اسماه " التفكير بدلا من التكفير ". واذ يبدو ظاهرها بريئا لاول وهلة، الا انها في حقيقتها مسكونة بالسذاجة والتسطيح الشديدين، لان الذين هاجموا مركز التجارة العالمية في الولايات المتحدة مثلا ـ وهم المحسوبون على معسكر التكفير ـ اعملوا التفكير مليا حتى بلغوا منه مرتبة عالية، مكنتهم من النجاح في انجاز عملهم الشيطانى، الذى لم يخطر على بال مؤسسات التفكير في الولايات المتحدة.
ولكى يؤيد صاحبنا دعوته، فانه افترض وجود عربى مسلم في غرفة واحدة مع ممثلين لمختلف الدول والملل والنحل والاعراق، وعرض للكيفية التى تواصل بها مع الآخرين " ما دخل هذا بالموضوع " ـ وكانت النتيجة التى توصل اليها ان ذلك العربى المسلم عجز عن اى تواصل، لانه حسب تعبيره " معاد للعالم كله " و" مكفر للعالم كله". " لاحظ انها ذات الفكرة التى ركز عليها صاحب مقالة " الاسلاميون العرب ضد العالم " الذى سبق الاشارة اليها " ـ ولم يكتف صاحبنا بذلك، انما رسم صورة بائسة للعربى المسلم بدا فيها غبيا ومتعصبا وعنصريا، حتى قلت ان اى كاره للعرب والمسلمين او حاقد عليهم، اذا ما اراد ان يعزز حملته ويقوى حجته، فما عليه الا ان يترجم هذا دون اى تعليق، فقط ما عليه الا ان يذكر ان هذه صورة قدمها عربى مسلم " لن يذكر انه يحمل الجنسية الامريكية " ونشرتها صحيفة عربية سيارة.

ما أريد ان الفت النظر اليه ان هذا الخطاب " المفخخ" لم يعد استثنائيا في منابر الاعلام العربى، ولكن صار له حضوره الذى اصبح يتزايد مع تسارع وتيرة الانحناء والتراجع في الحالة العربية، ان شئت فقل ان صعودهم مرتبط ارتباطا وثيقا باجواء الهبوط العربي.


(5)
ثمة قواسم مشتركة في خطاب اعلام الفتنة، منها مثلا انه ينهل من مربع فكرى وسياسى واحد تقريبا، تقف رموزه على ارضية التطرف العلمانى، الذى تجاوز فكرة الفصل بين الدين والدولة، وراح يضرب بقوة في ركائز الانتماء العربى والاسلامى، ويتبنى دعوة صريحة الى التغريب الذى بات منحدرا مؤديا في النهاية الى الارتماء في الاحضان الامريكية والاسرائيلية، على حد تعبير الدكتور جلال أمين.
منها ايضا انه يتسم بالتعجل والتسطيح والنماذج التى اشرت اليها تدلل بقوة على ذلك. اذ يبدو فيها واضحا ان ثمة حالة من التربص التى دفعت البعض الى المسارعة بتصيد اخبار بذاتها للانقضاض على ما اعتبروه هدفا تحينوا الفرصة للخلاص منه.

التعميم ايضا سمة اخرى. فأى مسلم يرتكب حماقة او جريمة في اى مكان بالكرة الارضية ينسب فعله الى المسلمين كافة، حتى اذا كانت دوافعه ليست لها علاقة بعقيدته. فالشيشانيون مثلا دوافعهم في صراعهم ضد الروس قومية بحتة وليس دينية. والذين قتلوا النبياليين البوذيين هم انفسهم الذين قتلوا الاتراك المسلمين، ولا احد يمكن ان يدعى انهم بذلك كانوا يسعون لاقامة الخلافة الاسلامية.

لقد تساءل احد كتابنا المحترمين في مقالة نشرت في الاسبوع الماضى : هل يتحمل الاسلام جرائم هذه الجماعات ؟ ـ وحين قرأت ما كتبه قلت : وما دخل الاسلام بالموضوع ؟ ولماذا نتهم الهوية الدينية في كل جريمة يقترفها مسلم ؟ اما الاخطر من كل ما سبق فهو هجومهم الشرس على الهوية الاسلامية. وتركيزهم المستمر على الربط بين الاسلام والارهاب. وهو ما كنا نعيبه على المتعصبين الغربيين الكارهين للاسلام والمسلمين، حتى ان المسلمين في كندا اثاروا احتجاجات واسعة وهددوا باللجوء الى القضاء لان بعض الصحف الموالية للصهيونية دأبت على استخدام مصطلح " الارهاب الاسلامى " لكن هذه المفردات اصبحت ـ للاسف ـ شائعة في العالم العربى، على نحو يدعو للاستغراب والدهشة.

ان احدا لم يتحدث عن الارهاب الارثوذوكسى حين قام الصرب بمذابحهم ضد البوسنويين المسلمين، وكانت الميليشيات الصربية تخرج بمباركة من قساوسة الكنيسة الارثوذوكسية في بلجراد. ولم يتهم احد الجيش الجمهورى الايرلندى حين كان يقوم بتفجير الاماكن العامة في لندن بأنه يجسد الارهاب الكاثوليكى.. لا يجرؤ احد على ان يصف الجرائم الاسرائيلية الوحشية التى ترتكب في الاراضى المحتلة بانها من تجليات الارهاب اليهودي.

تلك كلها خطوط حمراء يقف الجميع امامها ولا يستطيعون اجتيازها. اما " الحائط المائل " والدائرة المستباحة فهى التى تخص المسلمين دون غيرهم، ولذلك فأى عنف يصدر عن اى فرد او جماعة منهم، يحمل مباشرة على عقيدتهم، التى صارت تساق مخفورة يوما بعد يوم الى ساحات المحاكم، وحكم الادانة جاهز امامها باستمرار.
ان دعاة الفتنة يظنون ان الجو سيخلو لهم اذا تحقق لهم مرادهم في التخلص من الهوية الاسلامية، وهم لا يعلمون انهم بما يفعلون يقوضون ركنا ركينا في بناء اذا سقط وانهار فسيكونون انفسهم بين ضحاياه ـ انه عمى القلوب والابصار.