أبهر العراقيون المراقبين من شتى أنحاء الدنيا بهذا الإقبال المبهج على صناديق الاقتراع، وقال العراقيون كلمتهم في إعلان للعالم أنهم مع الحرية والديمقراطية، وأنهم ضد ديكتاتورية الطوائف أو المذاهب أو الفرد أو النصوص الدينية التي سلّوها عليهم. ذهب العراقيون إلى صناديق الاقتراع ليعمدوها بالدم قائلين لا لأعداء الحرية والديمقراطية، ولا لمن قاطع الانتخابات، ولا كبيرة لقاطعي الرؤوس، ولا أكبر لمن عينوا أنفسهم علماء دين وسياسة وقتال في العراق، أما اللا الأكبر فكانت لكل المتاجرين بقضايا الشعوب ما بين فلسطين والعراق من "قومجية" و"إسلامجية"، حتى دفع الشعبان أفدح ضريبة للعروبة المأسوف على شبابها. عندما ذهب العراقيون ليقولوا نعم لانتخابات حرة فقد قالوا لا لكل ما عداها. وقال أيضاً: إن القوات الأجنبية الموجودة في أرضه قد حدث بشأنها إجماع وطني انعقد أمره على اعتبارها قوات صديقة وحليفة تؤدي دوراً في وقت مأزوم، وأن لهذا الحلف ضرورته وأثره الكبير في الحفاظ على الأمن القومي للعراق، بل ولكل ما يحيط بالعراق. وهو أمر يصبح مشروعاً عندما تقره الشعوب، وتحدده أطر قانونية وبروتوكولية، وهو حال القواعد الأميركية في البلاد العربية والإسلامية وفي اليابان وشرق آسيا، أو كما سوريا في لبنان. عندما صوت العراق بهذا الزخم العظيم قلب كل الموازين وضبط كل المفاهيم لتصبح للمصطلحات دلالات جديدة حددها لنا شعب العراق عندما اقترع على الحرية.

فهل ستظل "المقاومة" التي طالما طبل لها الفاشيون الطائفيون رغم بشاعتها رأياً ومنهجاً وفعلاً على كل المستويات، هل ستظل تحمل دلالة المقاومة الوطنية؟ إن المقاومة كعمل عسكري غرضه مصلحة الوطن والمواطنين، كي توصف بأنها وطنية فلابد أن تقرها كل أطياف ومفردات الوطن التشكيلية، وتكون بهذا المعنى مساحة يتبارى فيها أبناء الوطن لكسب شرف الدفاع عنه ضد أجنبي يحتل ترابه.

ولكن ماذا عن هذا المعنى بعد الاقتراع الشعبي العراقي الجارف؟ اقتراع نضالي عمده الدم بالصدق والإصرار، ضد ما ظل زمناً يحمل في نشراتنا الإخبارية عنوان "المقاومة في العراق"، تلك المقاومة التي قاومت الحرية، وقاومت وصول الناس إلى حيث يعلنون صوتهم تحت تهديد القتل بالمتفجرات، ومع ذلك ذهب العراقيون، ليحولوا قوات التحالف إلى قوات حليفة موجودة بالتراضي بين الأطراف، وليحولوا ما أسماه الإعلام العربي مقاومة إلى إرهاب علني مجرم يشرع سلاحه ضد الوطن والمواطنين ومصالح الوطن.

لقد أثبت العراقيون نضجهم السياسي الذي دفعوا ثمنه قهراً عظيماً تباعد بهم عن شعارات العروبة الفخمة التي كانت السبيل الأقوم للهزائم. ورغم الدمار، ورغم تكالب كل فضائيات أهل الإسلام والعروبة على أكل لحم أخيهم جريحاً وقبل حتى أن يموت، ورغم استيلاد هذه القنوات لمزيد من مشايخ الإرهاب والكراهية، وتحفيز مزيد من الشباب للموت والقتل، ورغم حملة الكراهية من على منابر الوعظ والإرشاد ضد الأميركان، وضد الحكومة المؤقتة، في كل مساجد المسلمين، كل هذا فشل في إقناع المواطن العراقي بمصداقية أشباح الماضي، لأن العراقيين عاينوا كل الحدث وتسلسلت بينهم العذابات وما سال من دماء، كرّس في ضميرهم اليقين برفض الفاشية، أرضية كانت أم سمائية، فرفضوا العودة إلى ما هو وراء التاريخ واختاروا المستقبل. لقد اختار العراق أن يبصق في وجه كل ذيول الفاشية العربية من متكهنين وأحبار و"قومجية" و"إسلامجية". وأن يسقط كلمة المقاومة عما تقوم به قاعدة الفرق لتتحول إلى إرهاب لا يحتاج فذلكة عربية لتحديد المصطلح، ويبدأ الشعب العراقي بشكل حضاري مقاومته ضد المقاومة. مقاومة جديدة ضد الإرهاب المتسلل إليه عبر الحدود المتحالفة مع رفاق الدم في الداخل من خونة.

آن للغريب أن يرحل، والغريب لم يعد كما كان في مفاهيم العربان غريب العنصر أو الدين أو القبيلة، إنما هو اليوم الغريب الذي يضر بمصلحة الوطن ويشن عليه حملات الكراهية والقتل. على من أسموا أنفسهم بالمقاومة العراقية أن يرحلوا عن العراق بعد أن قال العراقيون كلمتهم وحددوا موقفهم. وعلى كل ذيول الفاشية في الإعلام العربي أن تحاول اليوم مداراة سوءتها بعد أن كشفتها الكرامة العراقية. فإن استمرت الهجمات الإرهابية وفضائياتها العربية فإن العراق اليوم لن يقف وحده ومعه دول التحالف، بل سيقف معه العالم أجمع وضمير العالم كله في ملحمة بدأها ووضع شروطها شعب العراق عندما بدأ مقاومة المقاومة بصناديق الاقتراع المطهرة بدمه.