فارس خشّان: سقطت حكومة عمر كرامي في ساحة الشهداء التي افترشتها "الثورة الحمراء والبيضاء"، منذ استشهاد الرئيس رفيق الحريري، بعدما كان هناك مَنْ يعمل، ليلاً ونهاراً، لإسقاط الشارع بها، متكئاً على أكثرية نيابية يُحركها بآلة تحكم عن بُعد.
كان هَوْل الحدث كبيراً على الموالاة، ففيما كانت تحضّر النفس للانقضاض على المعارضة، تجد نفسها فجأة أمام معارضة حقّقت أول انتصاراتها في مسيرتها الاستقلالية.
قبل أقلّ من 24 ساعة على تقديم كرامي استقالته أمام مجلس النواب، كانت الموالاة واثقة من تحكمها باللعبة الداخلية.
كرامي، ومن خلال تلفزيون "العربية" الفضائي يُعلن أنه لن يستقيل إلا إذا طلب منه ذلك "لقاء عين التينة"، ولكنّه حين شعر بوطأة كلمات نيابية صادرة عن روح استشهادية تجسّدت في بهيّة الحريري ومروان حمادة وبهدير نحو مائتي ألف معتصم في ساحة الشهداء المقابلة لساحة النجمة، وبنذير اضراب عام شلَّ البلاد من أقصاها إلى أقصاها، أهمل "سيد عين التينة".. ورفع الراية البيضاء.
الأجهزة الأمنية تستدعي ناصر قنديل وباسم يموت وعدنان عرقجي وتطلب منهم التظاهر بأنهم سيقودون تظاهرة في الوقت والمكان اللذين سيعتصم فيهما جمهور المعارضة، مما يُعطي مبرراً لوزير الداخلية والبلديات سليمان فرنجية لمنع الاعتصام المعارض.
البلاد تنتظر ألا تتمكن وفود المعتصمين من الوصول إلى "الساحة الحمراء والبيضاء"، فتُحاصَر الطرق وتُزنّر العاصمة كما لو كانت ساحة حرب، وينتشر الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي لمنع الناس من الوصول إلى مقصدهم، ولكن المفاجأة الكبرى أن الحشود راحت تستولد الحشود، والأمل بالوصول كان يمحو عذاب الانتظار على الطرق العامة، ولم يكن أمام الجيش اللبناني سوى خيار من اثنين، إما القمع ـ وهذا يخلق هوّة بينه وبين جماهير نادت به سيّداً على أرضه من دون أي شريك ـ وإما الليونة ـ وهذه تؤدي إلى تمكن الحشود من الوصول ولو متأخرة إلى مقر اعتصامها المغطّى بلوحة متجانسة من الأعلام اللبنانية فقط.
ابتعد الجيش عن خيار القمع فوظيفته الأساسية مساندة قوى الأمن الداخلي عند حصول أي اضطراب، فإذا منعت المتظاهرين من عبور نقاط تواجدها وحدث تمرّد تدخل للمؤازرة.
نجح الاعتصام بقوة غير مسبوقة وسقطت الحكومة بانهيار رئيسها. عمر كرامي شعر أنه يُقاتل طواحين الهواء، وحيداً، وإن موهوماً أنه بحماية أجهزة السلطة. عليه أن يغتال الرئيس رفيق الحريري معنوياً ليحمي الأجهزة الأمنية. عليه أن يقدم بياناً عن إنجازاته في ملف معالجة الاغتيال من كل النواحي، وهو لا يملك معطى واحداً يقدمه لأهل الشهيد وللشعب الذي رفعه إلى مستوى الاسطورة، حتى على مستوى تقني كالإجابة عن طريقة حصول التفجير في محلة "سان جورج" في 14 شباط 2005. القوى الأمنية المنتشرة على الطرق مكبَّلة بتعليمات لتحاشي أي صدام مع مَن يريد الاعتصام، لأن "الدنيا انتخابات"، ولأن دول القرار تراقب عن كثب.. لا بل إن أكبر وفد انضم إلى الاعتصام متأخراً ساعتين هو ذاك الذي اختار الوصول إلى ساحة النجمة من ناحية الصيفي، حيث كان الخبير الدولي بيتر فيتزجيرالد وفريقه المكلّف من الأمين العام للأمم المتحدة الاستقصاء عن جريمة اغتيال الرئيس الحريري، يراقب بإعجاب الاعتصام سائلاً مترجماً كان برفقته عن الشعارات التي يرفعها هؤلاء وعن الجهة التي يظنون أنها اغتالت زعيمهم الوطني الكبير.
ومع سقوط الحكومة سقطت الموالاة في اسوداد أخذها إلى ترقب المزيد من العنف لتعويمها، فبدأت العويل والنحيب على دخول البلاد في فراغ دستوري، وعلى دخول الاستحقاقات كالانتخابات النيابية في المجهول، وعلى مستقبل البلاد، واضعة إشكالياتها عند المعارضة وكأنها هي التي تحكم وهي التي تقرر وهي التي تخضع للمساءلة!
وبهذا المعنى، حققت "الثورة الحمراء والبيضاء" أول انتصاراتها، لأنها هي التي أسقطت الحكومة من دون قيد أو شرط، ومن دون أن تضطر الى التورط بلعبة المقايضات.
ولا يمكن قياس مدى أهمية ترحيل هذه الحكومة إلا باعتماد المعايير التي سبق وأنتجتها.
وليس سراً أن الحكومة الحالية هي من صنع سوريا. لقد أرادتها دمشق لتستكمل بها عدة المواجهة مع الداخل لتفوِّت عليه فرصة مد أي جسر مع المجتمع الدولي الضاغط، فكانت الحكومة امتداداً طبيعياً لتجاهل إرادة اللبنانيين كما تجلى في فرض تمديد ولاية الرئيس اميل لحود على اللبنانيين.
وعلى هذا الأساس تمّ تركيبها من شخصيات وقوى مضمونة الولاء ومستعدة لخوض معارك داخلية طاحنة، من دون خشية فقدان قواعد شعبية لانعدامها أصلاً.
وهكذا أتى عمر كرامي الى رئاستها وأعطي ما كان ممنوعاً أن يأخذه الرئيس رفيق الحريري في عهد لحود، على قاعدة أن يصرف رصيد صلاحياته كما يُطلب منه. ومع كرامي أتى عدنان عضوم ليمسك القضاء "من فوق وتحت"، ووئام وهاب ليؤدي دور الشتّام وسليمان فرنجية ليدافع بلا حساب عن "صمود الخط" وطلال ارسلان ليُنظّر في ثقافة عالم الحيوان، ومحمود عبد الخالق ليتلهى بقومية المآدب، وعدنان القصار وموريس الصحناوي ليعوّضا عن خدمات بنك المدينة، ويوسف سلامة تدليلاً على "الصورة المحترمة" للخطاب السيادي، وابراهيم الضاهر لترتاح وزارة التنمية الإدارية من "الثرثرات البقرادونية"، وجان لوي قرداحي ليُكمل إنجازاته التاريخية في تخريب قطاع الاتصالات فتكسب الدولة مزيداً من الخسائر كما حصل في دعوى التحكيم التي أقامتها شركة "سيليس" ضد الدولة اللبنانية.
وكان يُفترض أن تتحمّل هذه الحكومة كل الضغوط الناجمة عن المواجهة التي ستكون مجرد واجهة لها، وبالتالي كان بإمكان من صنعها أن يضرب مباشرة أو بواسطة الأجهزة الأمنية الحليفة القوى المعارضة له، وتنبري هذه الحكومة لتدافع عمّا يحصل وتتحمّل تبعاته وتصمد.
ولم يغب عن البال بعد أن الرئيس كرامي تلقى دعماً مباشراً من الرئيس السوري بشار الأسد عندما هاجمه النائب باسم السبع في جلسة مناقشة البيان الوزاري، من خلال مكالمة هاتفية استمرت ساعتين سبقت لقاء بينهما، كما ان الوزير عدنان عضوم كان ضيف الأسد، عندما تعرّض لهجوم من رئيس "اللقاء الديموقراطي" النائب وليد جنبلاط.
إذاً، سقوط هذه الحكومة ليس تفصيلاً في معركة المعارضة، ولكن لا يمكن اعتباره كل شيء، بطبيعة الحال، لأن المطلوب بالمحصلة هو إسقاط النهج الذي يولّد حكومات مماثلة ويبيح اشعال الحرب تحت اقدام كل من يُعارض ويُفشّل كل انجاز تاريخي ويحرم البلاد من حقها في تقرير مصيرها.
المهم أن هذه الحكومة سقطت تحت ضربات الشارع. هو مؤشر الى سقوط اليد الحديدية لأن لا حمايات سياسية لها بعد اليوم، فالقوى المصطنعة تزول بسرعة والقوى الحيَّة ترفضها.
في ساحة النجمة كانت الحكومة غائبة فعلياً ولو حضرت جسدياً، فتمّ استهداف الأصيل بخطابات المعارضة، وفي ساحة الشهداء مثلت الحكومة كدُمية بالنسبة للمعتصمين فيما كانت العين على النهج الذي صنعها ليتلاعب باللبنانيين من خلالها.
حكومة الأقنعة سقطت فمتى دور مَن صَنعها؟
الجواب في عهدة ساحة الشهداء حيث يركض مفجّر الثورة البيضاء والحمراء فخوراً بشعب توحّد ليقبض على المستقبل بيده.