لماذا حامت الشبهات حول النظام السوري في اغتيال الزعيم اللبناني رفيق الحريري، رغم ادعاء الفلسطيني أحمد تيسير أبو عدس، أنه المسؤول عن الاغتيال، ممثلاً لتنظيم يطلق على نفسه "جماعة الدعوة والحرب المقدسة في بلاد الشام"؟ هناك خمسة أسباب على الأقل وراء اعتقاد اللبنانيين ومعظم الرأي العام العالمي أن النظام السوري ضالع في حادث الاغتيال:

السبب الأول، هو سوابق مماثلة مع معارضين للوجود السوري في لبنان، وهو وجود عسكري وسياسي ومخابراتي، بدأ أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، التي إنفجرت في ربيع 1975، واستمرت حتى 1990. وكان هذا الوجود السوري في البداية بناء على دعوة الرئيس اللبناني، سليمان فرنجية الذي أفلتت من يديه زمام الأمور. فأرسل الرئيس السوري حافظ الأسد، وقتها (1976) أكثر من ثلاثين ألف جندي، استطاعوا إلى حد ما استعادة بعض الأمن وبعض النظام. ولكن مع توصل اللبنانيين لمصالحة وطنية عام 1989/1990، بموجب اتفاق الطائف، بدأ اللبنانيون يتبرمون من الوجود السوري في بلادهم، ويطلقون عليه وصف "الاحتلال". ولوحظ أن كل من عبّر عن امتعاضه من الوجود السوري، بين الزعماء اللبنانيين، كان مصيره الاغتيال أو محاولة الاغتيال. وقد بدأ هذا المسلسل مبكراً باغتيال الزعيم اللبناني الكبير كمال جنبلاط في أواخر السبعينات، ثم الرئيس اللبناني المنتخب بشير الجميل في أوائل الثمانينات، وأخيراً وزير لبناني مرموق هو مروان حمادة، الذي جرت محاولة للقضاء على حياته، مشابهة تماماً لخطة اغتيال الحريري. وكان مروان حمادة قد استقال احتجاجاً على الضغط السوري على البرلمان اللبناني لتمديد رئاسة إميل لحود، لثلاث سنوات اضافية، بالمخالفة للدستور، الذي يحدد شغل المنصب لمرة واحدة، هي ست سنوات. وكان رفيق الحريري رئيساً للوزراء، فاستقال بدوره، وانضم للمعارضين لاستمرار الاحتلال السوري فطاوله ما طاول المعارضين السابقين.

السبب الثاني، للارتياب في النظام السوري، هو أن حجم وطريقة تنفيذ الاغتيال لا تقوى عليه إلا أجهزة على كفاية عالية ولديها موارد ضخمة. وهذان الشرطان يتوفران لدول أخرى في المنطقة إلى جانب سوريا - وفي مقدمتها إسرائيل وليبيا وإيران، وكذلك لتنظيمات عقائدية مسلحة مثل "القاعدة"، و"حزب الله" و"حماس". وهذه جميعاً لها سوابق في هذا النوع من العمليات الانتحارية الفدائية. ومع ذلك لم تتجه أصابع الاتهام إلا لسوريا. وكان بعض ما قيل لاستبعاد الآخرين هو أنه ليس لهم مصلحة في اغتيال رفيق الحريري.

السبب الثالث، للارتياب في النظام السوري، هو أنه الطرف الفاعل الوحيد، الذي له قوات (15 الفاً) وعملاء وأعوان في لبنان. كما أن سوريا هي التي قامت ببناء وتدريب الجيش اللبناني وأجهزة الأمن والمخابرات. وبالتالي فهي الأقدر على الاختراق، ونقل وإخفاء هذه الكمية الضخمة من المتفجرات والتي قُدرت ما بين خمسة وعشرة أطنان من الديناميت القادر على اختراق السيارات المصفحة. وقد قيل أن سيارات رفيق الحريري الخاصة لم تكن فقط مصفحة، ولكن أيضاً مزودة بأجهزة للتشويش على وإفساد مفعول أجهزة التفجير عن بُعد. ولا يمكن الحصول على أجهزة مضادة إلا لدولة لديها إمكانات مادية واستخباراتية ضخمة وخططت لمثل هذه العملية بدأب وتصميم.

السبب الرابع، تراكم الضغوط على النظام السوري. من ذلك التوافق الفرنسي- الأميركي، النادر الحدوث في السنوات الأخيرة، على تحرير لبنان من الاحتلال السوري وسعيها لاستصدار قرار من مجلس الأمن (رقم 1559) في الخريف الماضي، والذي يدعو إلى جلاء كل القوات الأجنبية من لبنان، وعدم تدخل أي دولة في شؤونه المحلية. وكان الأكثر حرصاً على جلاء السوريين هم الموارنة المسيحيون، ثم انضم إليهم الدروز المسلمون. وظل بقية المسلمين "السُنة" و"الشيعة" يتمسكون بتواجد سوريا. ولكن المسلمين "السنة" أو فريقاً كبيراً منهم على الأقل يقوده رفيق الحريري انضم اخيراً إلى الموارنة والدروز، ولم يعد في الساحة اللبنانية من يجهر بالدفاع عن الوجود السوري في لبنان إلا زعماء الشيعة، وخاصة "حزب الله"، القريب جداً من إيران، والتي هي الحليف الاستراتيجي الوحيد للنظام السوري في المنطقة. وربما اعتقدت سوريا، أو بالأحرى النظام البعثي الحاكم فيها، أن اغتيال رفيق الحريري يمكن أن يشعل حرباً أهلية جديدة، تعطي سوريا ذريعة الاستمرار في لبنان لاستعادة الأمن والنظام. فقد كان ذلك هو سبب وجودها هناك في المقام الأول (1976) أي منذ حوالى ثلاثين سنة. أي أن سوريا تواجه الضغوط الدولية عليها، كما تصاعد المطالبات الداخلية للإصلاح، بالدخول في مغامرة إقليمية محكومة!

السبب الخامس، هو خوف النظام البعثي المستبد في سوريا من الحصار الديموقراطي. فقد رأى اخيراً أن العراق وفلسطين تشهدان تحولاً ديموقراطياً، رغم الاحتلال. وقد شهد المراقبون الدوليون أن الانتخابات التي تمت في البلدين خلال شهر كانون الثاني 2005، كانت على درجة عالية من الشفافية والنزاهة، ولم يفز فيها أحد بالنسب المئوية الهزلية المضحكة (99.9%) مثلما يحدث في سوريا ومصر وعراق صدام حسين. وكان لبنان مقبلاً على انتخابات نيابية في ربيع 2005. وكان الحريري وحلفاؤه يستعدون لخوضها ببرنامج يقوم على استعادة استقلال لبنان كاملاً (أي خروج الاحتلال) وبناء اقتصاده وتحديث كل مؤسساته. وكانت استطلاعات الرأي العام تشير إلى احتمال فوز تكتل الحريري بغالبية مريحة (60%). وكان من شأن ذلك توجيه صفعة موجعة لسوريا وحلفائها. فاستبق النظام السوري الأمر بالتخلص من الحريري. أو هكذا يعتقد اللبنانيون.

لقد كان رفيق الحريري شخصية خلافية، ولكنه كان عملاقاً في سلوكه الخاص والعام. بدأ حياته مهندساً، ثم مقاولاً في السعودية في أواخر الستينات. وتزامن ذلك مع الطفرة النفطية، فأصبح مليونيراً، ثم مليارديراً. عاد إلى لبنان بعد الحرب الأهلية، وأخذ على عاتقه أن يعيد تعمير لبنان وإعادة بناء قلب العاصمة بيروت. أيده كثيرون واعجبوا به. وعارضه كثيرون ومقتوه. ولكن الجميع كانوا يعملون له حساباً يسيراً أو عسيراً. وكانت آخر أحلام رفيق الحريري هو تحرير التراب اللبناني. ولم يعش الرجل ليرى تحقيق حلمه. ولكن طوفان الخوف والغضب الذي اجتاح لبنان، وتردد صداه في كل العواصم العالمية قد يجبر النظام السوري أن يحمل عصاه ويرحل من لبنان. ويكون رفيق الحريري، حتى بتعرضه للاغتيال، قد أطلق صيحته الأخيرة في تحرير لبنان. رحم الله الرجل وعاش لبنان.

(القاهرة)

استاذ جامعي - رئيس مركز ابن خلدون للدراسات ومعارض مصري بارز