أرجئ اجتماع مجلس رجال الأعمال اللبناني السوري الذي كان مقرراً الأحد الماضي في دمشق من دون تحديد موعد له. والسبب كما نقلت الصحف غياب رئيس الوزراء السوري ناجي العطري خارج البلاد. ولا ندري ماذا كان على المجلس أن يبحث في علاقات لبنان وسوريا الاقتصادية لو كان السيد العطري في دمشق. ولا ماذا استبقت الظروف التي أعقبت اغتيال الرئيس رفيق الحريري من "عقل بارد" للبحث في تلك العلاقات على قاعدة المنافع المشتركة.

ملف العلاقات الاقتصادية اللبنانية السورية ومن ضمنه الاتفاقات الثنائية التي عقدت بين لبنان وسوريا عــسّ كثيراً تحت وطأة الملف السياسي الأثقل والهجين وبات هو نفسه في حاجة الى اعادة نظر جذرية. لأن مقادير التكاذب والتملق ما بين الملفين كفيلة بافراغ التعاون الاقتصادي الجاد والنظيف المطلوب أساساً بين لبنان وسوريا من المنافع المشتركة لكليهما.

في ظل المسار الطويل من "العلاقات المميزة" بين البلدين، القائم على اختلال كبير في ميزان القوى لمصلحة سوريا، والذي فرض هيمنة شاملة على الشقيق الأصغر وقراراته السياسية والاقتصادية لم نلحظ أثراً لكل الاتفاقات الثنائية التي عقدت، الا في الجانب السلبي على الاقتصاد اللبناني. ذلك أن الأنشطة الاقتصادية غير الشرعية التي مورست وتمارس لمصلحة الاقتصاد السوري، وبقوة الأمر الواقع والمحروسة بعناية من المسؤولين في البلدين، لم تترك للأنشطة الشرعية، وللتبادل التجاري والاستثماري المعمول به بين الدول لأن يكون واقعاً ثابتاً ودائماً في العلاقات الاقتصادية بين لبنان وسوريا.

لم تبرم اتفاقات اقتصادية بين لبنان وسوريا قابلة للتطبيق. ليس بسبب التعارض في طبيعة النظامين الاقتصاديين فحسب، بل وفي ظل الحدود المفتوحة في اتجاه واحد الى لبنان، وبوابات التهريب الموازية لتلك الحدود. فقد كان مطلوباً في ظل تعارض النظامين الاقتصاديين شبك علاقات بين قطاع خاص متحرر من القيود وآخر مثقل بها ما زال في جزء منه يحاول مرونة وفكاكاً بصعوبات كبيرة. وليس على سبيل الحصر: لم تقلع الشركة القابضة "هولدنغ" التي تقرر انشاؤها برأسمال 50 مليون دولار شراكة بين القطاعين الخاص في كل من لبنان وسوريا. ولم يكتمل الاكتتاب في رأس المال لأن سوريا لم يكن لديها تشريع يسمح بقيام هذا النوع من الشركات. ولم ينجح تأسيس الشركة بعد توافر التشريع. لأن رجال الأعمال من البلدين ترددوا، ورغم الكلام الدائم عن "العلاقات المميزة"، في الاختبار الأول للتشريع بعد صدوره.

لم تكن الاتفاقات التي ابرمت بالقول الفصل من حكومتي البلدين بعيدة عن الالتباس. هكذا في اتفاق تقاسم مياه العاصي واتفاق استجرار الغاز السوري لإنتاج الكهرباء من ضمن مشروع اقليمي. وأما الاتفاقية الزراعية فقد قال فيها المزارعون اللبنانيون ما يكفي. اذ مازال قطاع هائل من سوق استهلاك الخضر والفاكهة والانتاج الداجن من الحليب ومشتقاته ممسكاً به كلياً من غير المزارع والتاجر اللبنانيين. قطاع النقل كذلك، سواء في الشاحنات أو في سيارات الأجرة يستنزف الاقتصاد اللبناني تحت نظر الدولة وحراستها. ولو كان لـ "العلاقات المميزة" أن تصل الى الجو لوقعت شركة طيران الشرق الأوسط في المسار نفسه بعد مفاوضات طلب اليها اجراؤها مع شقيقتها شركة الطيران السورية.

وما يطمئن ان سوق العمل والحرف المهنية كلها من دون استثناء وحرف المهن التجارية الجوالة باتت في عهدة وزارة العمل وقيادة الاتحاد العمالي العام. فـ "التنسيق بين الجهازين" على ما يرام ومنذ سنوات. ونحن موعودون الآن من الوزارة بشركة حصرية لتوحيد استقدام العمالة الاسيوية والافريقية في شركة واحدة. كفى الله العمال اللبنانيين شر سوء التنظيم مجلبة للبطالة!

هل هذه النماذج وسيلة العلاقات الاقتصادية الفضلى بين دولتين شقيقتين يبنى عليها للمدى الأبعد؟

لبنان أفاد كثيراً، ومنذ عقد الخمسينات في علاقته الاقتصادية بسوريا استثمارات لكبار رجال الأعمال تعتبر مؤسساتهم اليوم من أعمدة الاقتصاد اللبناني في قطاعات حيوية كالصناعة والمصارف والسياحة. بيد أن هذه العلاقات بنيت على أسس صحيحة وثابتة ومستدامة رغم تعرض العلاقات السياسية بين البلدين لموجات عابرة من عدم الاستقرار. الآن، وبعد أكثر من نصف قرن، وفي ظل العلاقات المميزة "مساراً ومصيراً" يراد بناء علاقات على أسس أبعد ما تكون عن العلاقات المطلوبة بين بلدين يمكن أن يشكل واحدهما للآخر عناصر تكامل على كل المستويات وسوقاً استهلاكية واسعة في ظل الميل المتزايد بين الدول نحو التكتلات الاقتصادية الاقليمية. ويمكن أن يكون ثنائياً مميزاً فعلياً في أي تكتل تنضم اليه دول عربية أخرى في المنطقة.

رئيس اتحاد غرفة التجارة والصناعة في سوريا راتب الشلاح قدر في حديث صحافي له حجم الودائع العائدة الى السوريين في الجهاز المصرفي اللبناني بنحو عشرة مليارات دولار. قد يكون الحجم اقل او أكثر ليس هذا الموضوع. بل أن أصحابها شاؤوا ايداعها في المكان الآمن، وفي مؤسسات ذات صدى، وبمردود جيد طالما شاركوا بحصة مجزية من هذا المردود سواء مباشرة في المصارف أو في سوق سندات الخزانة او في لعبة الليرة والدولار في سنوات الحرب. تماماً كما فعل اللبنانيون أيضاً وغيرهم.

والمتحدث وريث عائلة لها باع في عالم الأعمال في سوريا، يعلم أن المؤسسات المصرفية في لبنان في مستواها الراهن هي شباك تمويلي لا غنى لسوريا عنه في وقت تتعرض فيه لضغوط العقوبات الدولية كي تسحب قواتها وأجهزة مخابراتها من لبنان. والشباك هذا سيكون موضع سؤال اذا فرضت عقوبات قاسية لا نريدها أصلاً من أي نوع كانت ونال منها لبنان رذاذاً لأن الحرص على تلك المؤسسات ومودعيها ومن بينهم المودعون السوريون هو في المقام الأول. وفي سبيل هذا الهدف لن تكون المصارف اللبنانية مستعدة لتلقي أي اسقاطات سياسية حرصاً على "المسار والمصير".

لم يفسر رئيس اتحاد الغرف السورية قوله إن المصارف اللبنانية التي فتحت فروعاً لها في سوريا لم تجذب الودائع السورية في الخارج التي قدرها بنحو 60 مليار دولار، (صندوق النقد الدولي لديه رقم أعلى) بينما المصارف نفسها في لبنان مع مصارف لبنانية أخرى تمكنت من جذب مليارات من الودائع السورية. يقيني أنه يعلم السبب!.

ان المنطقة العربية هي العمق الاقليمي للاقتصاد اللبناني. وسوريا هي بوابة هذا العمق، تماماً كما هو لبنان عمق الاقتصاد السوري المالي والمصرفي والخدماتي وعمق العمالة الفائضة عن سوق العمل لديها ونسبتها تزيد عن 20 في المئة. والاقتصاد اللبناني، بكل قطاعاته يجبه هذه الأيام تحديات كبيرة وجدية ناجمة عن علاقة غير سوية للبنان مع سوريا تمس كرامته وسيادته وقراره الحر. ولا مصلحة قومية ووطنية لسوريا في دوام الحال ولا اقتصادها سيبقى في منأى اذا تعرض الاقتصاد اللبناني لهزةٍ جديدة. حينئذ لا تعود تجدي الاتفاقات الاقتصادية الثنائية المعقودة بالخيار الحر فكيف باتفاقات أمر الواقع المجحفة؟

صحافي