واشنطن - عصام محمد

فقد كشف تقرير محدود التداول وزعته المنظمة الصهيونية الامريكية عن ان اربعة من قيادات ايباك استدعوا للشهادة امام الهيئة في ولاية فيرجينيا، والاربعة هم هوارد كوهر مدير المنظمة وريتشارد فيشمان مديرها الاداري ورينيه روثشتاين المسؤولة عن الاتصالات ورافاييل دانزيجر مسؤول الابحاث.
وعلى الرغم من ان التقرير جاء وكأنه اشارة تحذير من المنظمة تعني ان التحقيق حول تجسس ايباك لحساب اسرائيل لم يتوقف فانه اثار بعض الفضول في العاصمة الامريكية التي بذلت دوائر معينة فيها جهدا هائلا «لدفن« القصة بأكملها. وسرعان ما تتابعت حقائق لم تكن معروفة من قبل، ولكنها اصبحت الان متداولة وان كان على نطاق ضيق، اذ ان اجهزة الاعلام الامريكية لا تبدي حماسا لبث اي تقارير تتعلق باتهام عاملين في ايباك بالتجسس لحساب اسرائيل.
من هذه الحقائق مثلا ان الامر تضمن معلومات تفيد بعمليات لاختطاف اسرائيليين في كردستان بشمال العراق، ومعلومات اخرى تفيد بتسلم المعارض العراقي السابق احمد الجلبي معلومات امريكية سرية من مسؤولين في البنتاجون، ثم ملامح لصورة الحرب الصامتة التي تدور داخل اجهزة الحكومة الامريكية حول اتجاه قضية ايباك.

ولكن أين تأتي معلومات الاسرائيليين في شمال العراق واحمد الجلبي وغيرها في سياق هذه القصة التي تزداد تعقيدا وغموضا كل يوم وتواصل خلال كل ذلك تحركها خلف الكواليس؟ يتعين للاجابة عن هذا السؤال العودة - ولو باختصار - الى البداية.
فقد بدأت «الحكاية« برصد مكتب التحقيقات الفيدرالي الاجتماع في مطعم بمقاطعة اليكساندريا بولاية فيرجينيا بين فرانكلين واثنين من قيادات ايباك هما مدير سياسة المنظمة ستيف روزن ومسؤول الشؤون الايرانية بها كيث وايزمان. كان ذلك في يونيو 2003، وسجل المكتب بالصوت والصورة وقائع الاجتماع حيث تبين ان فرانكلين سلم روزن ووايزمان وثيقة سرية وضعها البنتاجون حول ايران.
ولم يداهم ضباط المكتب المجتمعون، ولكنهم ذهبوا في اليوم التالي الى منزل لاري فرانكلين وابلغوه انهم يعرفون ما حدث في المطعم في الليلة السابقة، وعرضوا عليه تسجيلا لما حدث فانهار فرانكلين تماما. ساعتها عرض ديفيد زادي مدير قسم مكافحة التجسس في مكتب التحقيقات الفيدرالي على فرانكلين صفقة محددة، ان يتعاون فرانكلين مع المحققين بصورة كاملة، اي ان يفعل بالضبط ما يطلبون منه، مقابل ظروف مخففة عند النظر في قضية قيامه بتسليم وثيقة سرية اعدتها الحكومة الامريكية للعاملين في ايباك. ووافق فرانكلين.
بعد ذلك طلب زادي من فرانكلين ان يبلغ روزن بان السلطات الامريكية تتابع سرا معلومات وصلت اليها عن خطة لاختطاف اسرائيليين في كردستان. واتصل فرانكلين بروزن وأبلغه بذلك فقام روزن بالاتصال بأحد العاملين بالسفارة الاسرائيلية عن طريق ارسال رسالة اليكترونية تم ضبطها بعد ذلك على جهاز الحاسوب الخاص به وابلغه فيها بالمعلومات التي حصل عليها من فرانكلين.

ونظرا لان ايباك ليست مسجلة حتى الآن كمنظمة تعمل لحساب حكومة أجنبية وذلك حتى تواصل تمتعها بالاعفاءات الضريبية التي تحصل عليها كمنظمة للعمل العام لا تهدف الى الربح فان ابلاغ روزن السفارة الاسرائيلية بالمعلومات التي حصل عليها تؤكد الشبهة بأنه يتجسس لحساب اسرائيل.
فضلا عن ذلك فقد اتصل فرانكلين بشخصيات امريكية معروفة مثل ريتشارد بيرل العضو في مجلس الدفاع الاستشاري واحد اشرس المدافعين عن اسرائيل وعن أرييل شارون في واشنطن وفتح معهم - على الهاتف - قصة حصول احمد الجلبي على معلومات تتعلق بتمكن الولايات المتحدة من فك شفرة الاتصال بين الحكومة الايرانية واتباعها في العراق. وكان الجلبي قد حصل على هذه المعلومة السرية الحساسة من «مصدر ما« داخل البنتاجون وابلغ بها طهران على الفور مما أدى الى قيام الايرانيين بتغيير شفرتهم. وعند تغيير الشفرة اشتبه الامريكيون ان تكون طهران قد علمت بأنهم تمكنوا من حل الشفرة القديمة وانهم غيروها لهذا السبب. وما لبثت واشنطن ان تأكدت من ذلك عبر مصادر لها في طهران.
بقي عند ذلك معرفة الـ«مصدر ما« الذي سرب تلك المعلومة الى أحمد الجلبي مما ادى الى وصولها الى طهران، اذ سيصبح هذا المصدر متهما بالتجسس أو على الاقل بالكشف عن معلومات سرية امريكية بالغة الحساسية. ولذا فقد تم تكليف فرانكلين بمحاولة استدراج اكثر الاشخاص محلا للشك للحديث حول هذه القصة وتسجيل مكالماته معهم. الا ان بيرل شعر بأن حديث فرانكلين معه على الهاتف يخرج عن الاطار المعتاد وحذر الباقين من اي تناول لقضية الشفرة الايرانية مع فرانكلين.

وقام بيرل باتخاذ خطوة اخرى اكثر اهمية، اذ اتصل بتلاميذه في البنتاجون وطلب منهم «تطويق« اثر تعاون فرانكلين مع مكتب التحقيقات الفيدرالي ومحاولة فهم العلاقة بين الجانبين قبل ان يستغل المكتب شهادة فرانكلين لادانة العاملين في ايباك. وهكذا بدأ التلاميذ جولة من الاتصالات الجانبية بفرانكلين لاقناعه بوقف تعاونه مع المكتب. كان فرانكلين آنذاك قد اوقف عن العمل بدون راتب الى حين الانتهاء من التحقيق. ونظرا لان لديه خمسة اطفال والان زوجته قعيدة تنتقل على كرسي متحرك، ولان مصدر رزقه الوحيد هو راتبه فانه اضطر للعمل في وظائف ثانوية شاقة لكسب قوت اسرته. ومنح هذا الوضع الانساني «التلاميذ« في البنتاجون فرصة ذهبية.
فقد بدأت الاتصالات بفرانكلين لاقناعه بامرين، الاول هو انه راهن على الجانب الخاسر وان المكتب سرعان ما سيذهب لاسباب سياسية الى اغلاق التحقيق لينتهي الامر بفقدان فرانكلين لوظيفته بصورة دائمة دون ان يكون هناك ما جناه. ولذا فان عليه ان يوقف تعاونه مع مكتب التحقيقات الفيدرالي وان يراهن على الجانب الذي سيفوز في نهاية المطاف. الامر الثاني هو ان فرانكلين تلقى وعدا بان يعود الى وظيفته اذا ما فهم علاقته بالمكتب وانه بالتالي لن يحمل هموم كسب قوته وقوت عياله، اي انه سيخرج سالما من المحنة التي يمر بها.
واستسلم فرانكلين وقرر قطع علاقته بمكتب التحقيقات الفيدرالي. فقد قام فجأة بتوكيل محام شهير في واشنطن يدعى بلاتو كاشيريس الذي سبق ان دافع عن الرئيس بيل كلينتون في فضيحة علاقته بمونيكا لوينسكي والذي يتقاضى نحو اربعة آلاف دولار على ساعة العمل الواحدة في اي قضية يقبل بتبنيها. ويعني ذلك انه لو قال له واحد منا «مساء الخير« ورد هو على هذه التحية فان ذلك قد يكلف من قالها مائة دولار مثلا بقياس ما استغرقه ذلك المحامي في سماعها والرد عليها!

ولكن كيف تمكن فرانكلين من توكيل كاشيريس؟ لا احد يعرف. وقطع فرانكلين بعدها علاقته بدافيد زادي وبمكتب التحقيقات الفيدرالي فيما وجه المحامي مذكرة الى المكتب قال فيها ان تعاون فرانكلين مع زادي تم بالاكراه والتهديد وان كل ما تأسس عليه من اعترافات قدمها فرانكلين تعد باطلة.
وقبل شهرين فقط، ودون ان يلاحظ احد، اعيد فرانكلين الى وظيفته على «أساس جديد« اذ انه اختير لشغل «وظيفة اخرى« في البنتاجون. وحين علم زادي ثارت ثائرته وقال لاحد الصحفيين «ادوين بلاك من نيويورك تايمز« ان اعادة فرانكلين لعمله «جاء رغم ارادتنا« وان المكتب سجل اعتراضه القانوني على ذلك.
وبعد هذه الجولة بدأت الجولة التالية التي اتسمت بالهجوم الصاعق على زادي. فقد استخرج البعض من ملفاته اوراق قضية سابقة اعترض فيها على توظيف شخص تصادف ان كان يهوديا في جهاز امني. واسس زادي اعتراضه على وقائع محددة تثبت ان السلوك الشخصي لذلك المرشح لشغل الوظيفة لا يدعو الى الثقة في مصداقيته، اي ان الامر لم يكن له علاقة بدينه. الا ان المدافعين عن ايباك اتهموا زادي - كما هي العادة - بمعاداة السامية وبدأت حملة للطعن في اهداف المسؤول.
وخلال ذلك عرض المحامون الذين وكلتهم ايباك للدفاع عن مسؤوليها على مكتب التحقيقات الفيدرالي وعلى وكيل النائب العام المشرف على عمل هيئة المحلفين العليا بول ماكنولتي تسوية ودية للقضية. الا ان المكتب وما كنولتي رفضا العرض.
ويتعين هنا ربما شرح مغزى تشكيل هيئة محلفين عليا. ذلك ان هذا الاجراء يتخذ في حالة اتجاه الحكومة لاتهام شخص او عدد من الاشخاص باتهام اساسي. ولمنع الحكومة من اتهام من تريد لاسباب لا تتعلق بارتكابه جريمة محددة فان القانون يقضي بتشكيل هيئة محلفين عليا تنظر بصورة سرية في طبيعة الاتهامات التي تريد الحكومة توجيهها إلى الشخص او الاشخاص المعنيين. واذا ما قررت الهيئة ان هذه الاتهامات تتسم بالوجاهة والمصداقية، اي ان لها اساسا يعتد به فانها تسمح بتوجيه الاتهام لتتحول القضية الى المسار القضائي المعتاد.
ويعني رفض عرض التسوية الودية ان زادي ورجاله متمسكون بمواصلة القضية رغم موقف فرانكلين المتهافت، او ان عرض ايباك للتسوية لم يكن مقنعا للمكتب. وفي كل الاحوال فقد انهارت شائعات التسوية بصورة كاملة مع استدعاء مسؤولي ايباك الاربعة قبل ايام للظهور امام هيئة المحلفين العليا التي لا يدري احد على وجه الدقة تفصيلات ما يدور امامها. ولا يزال كثيرون في انتظار ما سيحدث رغم التعتيم الاعلامي شبه الكامل على هذه القضية بابعادها المعقدة.