أبرز رموز خدمة الخطة السورية في لبنان (1)
عدنان عضوم: القضاء في خدمة الطموح

بلال خبيز من بيروت: يوم تسلم مدعي عام التمييز اللبناني والوزير المستقيلة حكومته عدنان عضوم مهامه كمدع عام للتمييز في لبنان لسنوات قليلة خلت، كان يصعب على المرء ان يتخيل ان هذا القاضي المغمور سياسياً يمكنه ان يلعب في المقبل من الأيام دوراً سياسياً اساسياً في لبنان.
الوزير عدنان عضوم خلف المدعي العام التمييزي القاضي الراحل منيف عويدات في هذا المنصب بعد إحالة الأخير على التقاعد. فلم يكد يمضي اسبوع واحد على شغور المنصب القضائي حتى تم تعيينه في الاسبوع الأول من شهر آب اغسطس عام 1995 في المنصب نفسه.
المنصب الذي كان قبل توقيع اتفاق الطائف في العام 1989 محصوراً في القضاة الموارنة، هو منصب بالغ الأهمية في النظام السياسي اللبناني، وكان شاغله يدعى على الدوام "حاكم لبنان القضائي". وكان القاضي الراحل منيف عويدات اول سني يشغل هذا المنصب في تاريخ لبنان.
اما القاضي عدنان عضوم فكان قبل توليه مهام المدعي العام التمييزي قد ذاع صيته كقاض اثناء توليه رئاسة المحكمة التجارية بين الأعوام 1983 و1993، وقد اصدر احكاماً في قضايا افلاس وتعثر عدد من البنوك في مطلع التسعينات وصفت يومذاك بالأحكام المهمة نظراً لأثرها في لجم كابوس التعثر الذي حاق بالمصارف اللبنانية في تلك المرحلة. وكان قد تسلم رئاسة محكمة جنايات جبل لبنان بين عامي 1993 و1995 حتى تاريخ تعيينه مدعياً عاماً للتمييز. ومثله مثل غيره من القضاة اللبنانيين عانى عضوم من ضغط الملفات على القضاء، ومحدودية عدد الجسم القضائي في لبنان بالنظر إلى عدد القضايا التي تحال عليه، ومن ثم، صعوبة انجاز النظر في كافة الملفات، حيث كان ينظر في ثلاثين ملفاً شهرياً اثناء رئاسته لمحكمة جنايات جبل لبنان في حين كان يرده شهرياً اكثر من تسعين ملفاً.
المشكلة الثانية التي عانى منها الجسم القضائي طويلاً في لبنان خصوصاً في سنوات الحرب الأهلية وما تلاها، تمثلت بالمرتبات الضئيلة التي كان يتقاضاها القضاة والتي اعتبرها البعض من القانونيين اللبنانيين سبباً رئيسياً في تفشي الفساد بين القضاة. على كل حال كان الوزير عضوم وقبل تعيينه في منصبه كمدع عام تمييزي بوقت قصير قد هدد بالاستقالة لهذه الأسباب التي تتعلق بكرامة القاضي العاجز عن تأمين لقمة شريفة والمطلوب منه ان يحكم بالعدل.
لاحظت حكومات الرئيس الشهيد رفيق الحريري هذا الأمر وسرعان ما عمدت اثناء تولي القاضي بهيج طبارة مهامه كوزير للعدل، إلى رفع مرتبات القضاة ومساواة رئيس مجلس القضاء الأعلى بالوزير من حيث البدل المالي والتقديمات التي يحصل عليها ووضع جدول الرواتب على هذا الأساس.
منذ تولي القاضي عضوم منصبه المهم في الجسم القضائي بدا طموحه السياسي طاغياً على همومه الأخرى. وكثيراً ما تعرض لانتقادات حادة من المعارضين والسياسيين تتهمه بتجاوز حدود دوره، بدءاً من زيارة رئيس الجمهورية خلافاً للبروتوكول، وصولاً إلى علاقاته بالقوى النافذة محلياً واقليمياً والتي كان يحرص على تنميتها حرصاً شديداً وحتى علاقاته المعلنة بمسؤولي الاستخبارات السورية في لبنان. وكان الزعيم الدرزي النائب والوزير السابق وليد جنبلاط قد شن هجوماً حاداً على الوزير عضوم إثر زيارته النائب والوزير مروان حماده في مستشفى الجامعة الأميركية إثر محاولة اغتياله برفقة رئيس شعبة الأمن والاستطلاع في القوات السورية العاملة في لبنان العميد رستم غزالي.
طوال عهد الرئيس اميل لحود تردد اسم عضوم لتولي رئاسة الحكومة، خصوصاً ان العهد الحالي في لبنان اصلى منذ بداياته الرئيس الحريري حرباً ضارية لم تخف وتيرتها ابداً، وشهدت ذروتها في معركة التمديد التي ازاحت الحريري عن منصب الرئاسة الثالثة وجعلته هدفاً للاغتيال. لكن المراقبين السياسيين في لبنان كانوا يعرفون ان الوزير عضوم لا يمتلك الأرجحية التي تخوله ان يكون ممثلاً للطائفة السنية في الحكم على نحو يرضي الطائفة ويرسي توازناً مطلوباً في لبنان على الدوام. فالوزير والمدعي العام يتحدر من منطقة سنية لم تنجح قراها على امتداد التاريخ اللبناني في استيلاد زعامات سنية قادرة على حشد الطائفة او تحقيق وزن فعلي فيها. الزعامات السنية في لبنان اقتصرت على ثلاث مدن رئيسية: بيروت، طرابلس وصيدا، والعائلات السياسية السنية كانت تصدر من هذه المدن الكبرى الثلاث. لكن العقدين الأخيرين من التاريخ اللبناني شهدا ضموراً في المؤهلين من وجهاء السنة السياسيين لقيادة الطائفة الوازنة والحاسمة في موازين االاجتماع اللبناني. إلى حد ان ثمة من يقول ان الرئيس الحريري هو آخر زعماء هذه الطائفة الكبار في لبنان وحتى في سورية كما يرى البعض.
مسألة مناقشة ظروف الطائفة السنية وطبيعة دورها في الاجتماع اللبناني تحتاج بحثاً منفصلاً، لكن ما اود الإشارة إليه في هذا المقام، يتعلق بكون السيد عضوم صاحب الاسم المتداول في مجال ترؤس الحكومات اللبنانية لم يكن يصدر عن وزن راسخ في المعادلة اللبنانية. وهو تالياً كان مرشحاً في وصفه موظفاً متميزاً وليس في وصفه زعيماً سياسياً بامتياز، ومسألة ولادة الزعامات في لبنان مسألة بالغة التعقيد وتحتاج تمحيصاً وبحثاً ودقيقين. وهو بصفته هذه كان موظفاً لامعاً وسياسياً خافتاً. لهذا كان يحتاج على الدوام إلى دعم من نوع آخر، هو في التعريف من خارج طائفته وعزوته، وهو ثانياً وفي طبيعة الحال من خارج الطوائف الأخرى وعزواتها إذا شاء ان يكون مقرراً او مؤثراً في المعادلة الداخلية وليس مجرد وزير يشغل منصباً في الوقت الضائع كما جرى لشخصيات عديدة في تاريخ السياسة اللبنانية.
لهذه الأسباب كان السيد عضوم يكتسب قوته وارجحيته من ولاء لا تشوبه شائبة لنظام الوصاية السورية في لبنان وممثليها الأمنيين. لكن الولاء وحده لا يكفي لترشيحه لهذا المنصب، لذا كان لا بد للسيد عضوم ان يلبي حاجة ملحة لدى النظام السوري في امساكه بكل اعصاب الحياة السياسية في لبنان. والحق ان الإدارة السورية توسلت في سيطرتها على مقاليد الحياة في لبنان عموماً بوسائل عديدة، ليس اولها وآخرها التدخل السافر والمستمر والعالي الوتيرة في عمل القضاء. وربما كان الجسم القضائي اقل حصون السيادة اللبنانية مناعة امام التدخلات السياسية الداخلية والخارجية. ولنا ان نذكر محاكمة انطون سعادة وتجريمه واعدامه بعيد ساعات على اعتقاله في مطلع العهد الاستقلالي، حيث تشير وقائع تلك المحاكمة من دون لبس إلى تبعية القضاء وانعدام مناعته حيال الضغوط السياسية واضطراره النزول عند احكامها الجائرة.
لأسباب عديدة كان الجسم القضائي هشاً امام التدخلات السياسية، لكن اعمق هذه الأسباب أثراً يتعلق بطبيعة تركيب الكيان اللبناني الذي لا تتغير قواه المؤثرة والمقررة ولا تتبدل. فالنظام يبدو إلى حد بعيد وخصوصاً بعد اتفاق الطائف، اشبه ما يكون بفدرالية طوائف او اقليات. وهذه القوى الممسكة بأعنة التطور الدولتي اللبناني لا تخضع في اوزانها وقدرتها على التأثير إلى مواردها المباشرة وغير المباشرة. لأنها في طبيعة الحال ليست ناتجة عن ادوار اقتصادية او سياسية او اجتماعية. بل تتكاثر وتكبر ويتعاظم اثرها بالانجاب والولادة وليس بالأدوار مثلما يفترض في الدول الحديثة.
وهذا يجعل اقصاء طرف من اطرافها عن التأثير في المعادلات الداخلية بالغ الصعوبة والعسر ومنذراً على الدوام بتجدد حرب اهلية باردة احياناً وساخنة في احيان اخرى. وفي ظل نظام هذه بعض ابرز مكوناته الأصلية، يصعب على الموظفين الرسميين ان يشغلوا دوراً حاسماً وحاداً خصوصاً خلال الأزمات. لكن هذا التركيب نفسه هو ما بعث القلق على الدوام في روع الإدارة السورية التي لم تنجح في الإمساك بأعنة البلد امساكاً منتظماً يوماً واحداً. توسلت الإدارة السورية لتثبيت هيمنتها على السياسة اللبنانية وسيلتين حاسمتين. اولاهما تتعلق ببث الفرقة وتجديد اسباب النزاع بين الطوائف الكبرى، وتالياً جعل البلد في حال من الحرب الأهلية الباردة، او لنقل الابقاء عليها جمراً تحت الرماد. وضبط هذه النزاعات ومنعها من الانفلاش بقوة القمع المرعي دولياً والمجاز اميركياً منذ عاصفة الصحراء. والثانية جنحت نحو ايلاء المؤسسات الرسمية ادواراً كبيرة، بدءاً بالجيش واجهزة المخابرات مروراً بصناديق المساعدات كمجلس الجنوب ووزارة المهجرين وصولاً إلى القضاء. لكنها في كل ذلك كانت تضبط جنوح هذه الاجهزة إلى لعب دورها. كان ثمة جيش متضخم الحجم لكنه لا يمارس اي دور، وصناديق مساعدات تعنى بتمتين اللحمة الوطنية لكنها تتحول عن وظيفتها إلى ابتزاز النظام السياسي وبيعه ولاء طوائفها بأموال الخزينة، وصولاً إلى القضاء الذي انيطت به مهام التمييز في الملاحقات والاستنساب المدروس جيداً في فتح المفات توقيتاً وتنفيذاً واستهدافاً. ثمة من يفتح ملف ميشال عون حين يرى ذلك مناسباً ويقفله حين يرى ذلك افضل له، وثمة من يهدد الرئيس الأسبق امين الجميل بفتح ملفاته ثم يعود إلى لفلفة الموضوع ما ان يحقق التهديد هدفه.
وباختصار كانت الإدارة السورية تعمد إلى التخويف اليومي للقوى السياسية لتضمن سكوتها إذا لم تستطع ضمان ولائها، وفي هذا السياق كان الوزير المستقيلة حكومته عدنان عضوم افضل من خدم الخطة السورية بلا كلل طوال تسلمه مهام منصبه الحساس.