رجال سورية في لبنان
سامي الخطيب رجل المراحل الانتقالية

بلال خبيز من بيروت:كان اللواء سامي الخطيب عام 1969 ضابطاً في الجيش اللبناني في الشعبة الثانية، حين هرب مواطن سوري إلى لبنان بأموال حكومية. يومذاك كان الرئيس حافظ الأسد وزيراً للدفاع في سورية، وطلب من الضابط سامي الخطيب تسليمه السارق، فقام بالفعل باعتقاله وتسليمه للسلطات السورية. ومن يومها، يقول اللواء سامي الخطيب، نشأت بين الرئيس الراحل حافظ الأسد واللواء سامي الخطيب صداقة قوية وعلاقة ثقة.
هذه العلاقة سرعان ما تم استثمارها بعد محاكمات ضباط الشعبة الثانية في اوائل السبعينات حين استطاع الحلف الثلاثي ان يهزم الدولة الأمنية في لبنان وان يلاحق ضباطها. حوكم سامي الخطيب وسرح من مخابرات الجيش، لينتقل ملحقاً عسكرياً في سفارة لبنان بباكستان، ومن ثم فصل من منصبه، وقرر مذاك احتراف العمل السياسي.
عاش الخطيب سنوات في سورية منفياً ولاجئاً سياسياً. لكنه عاد إلى لبنان مع دخول قوات الردع العربية في العام 1976. كان يومذاك برتبة مقدم، لكن القيادة السورية طلبت إليه ان يتولى مهمة قيادة قوات الردع العربية التي كانت تضم ست فرق عسكرية، من دول عربية متعددة، ويجدر بقائدها ان يكون ضابطاً برتبة جنرال فما فوق. رقي إلى الرتبة المطلوبة، وقاد قوات الردع العربية. لكن هذه القيادة مثلما هو معروف ومثلما يظهر من طريقة ترقية اللواء لم تكن غير قيادة صورية. كان الرئيس الأسد يريد قائداً لبنانياً يمكن الوثوق به ولم يكن ثمة من هو انسب من سامي الخطيب.
سامي الخطيب كان ضابطاً عادياً في الشعبة الثانية في الجيش اللبناني. لكن دور الشعبة الثانية كان متضخماً وكبيراً إلى الحد الذي جعل لبنان يمر بأزمات طاحنة للفكاك من اسر رقابتها. يومذاك ايضاً كان ثمة دولة امنية تتحكم بكل شاردة وواردة في لبنان، وكان ضباط الشعبة الثانية يتدخلون مع المخاتير في القرى والبلدات ويضغطون على الزعماء المناطقيين ويقيمون علاقات مع القوى والأحزاب، وكثيراً ما اشيع في لبنان عن دور الشعبة الثانية في تنظيم التظاهرات في الشارع.
في بدايات عمله في الشعبة الثانية تولى الملازم اول سامي الخطيب مهمة التحقيق مع القوميين السوريين اثر انقلابهم الفاشل على اللواء فؤاد شهاب عام 1961. كانت سجون الشعبة الثانية رهيبة، على ما يروي احد كبار القوميين عبدالله قبرصي، ومارس فيها المحققون ابشع انواع التعذيب في حق المعتقلين. عبدالله قبرصي يتذكر ان حفلات الضرب والشتم لا تحصى وانه اثناء التحقيق معه قام احد ضباط الجيش برفع جزمته العسكرية في وجهه قائلاً له : "بوس صباطي ولاه". ويضيف ان الضابط الذي كان مسؤولاً عن التحقيق معه هو سامي الخطيب نفسه، الذي لم يوجه له اهانات او كلمات نابية، لكنه كان يتعامل معه بمزيج من الليونة والشماتة في الوقت نفسه. على كل حال كان الملازم اول سامي الخطيب يومذاك يعرف بلا شك، وبحسب منطق التحقيقات، بما يجري مع المعتقلين ويقره ويوافق عليه.
يعترض سامي الخطيب على حيثيات الحكم عليه سياسياً وقضائياً. فهو يعتبر نفسه ضابطاً صغيراً لم يفعل غير تلقي الأوامر وتنفيذها. لكن حظه على ما يبدو ساقه إلى هذه السيرة الحافلة. إذ كلفه رئيسه المباشر في الشعبة الثانية ان يرافق قائد الجيش العماد اميل البستاني إلى القاهرة للتفاوض مع الفلسطينيين بإشراف سامي شرف وتوقيع اتفاق ينظم عملهم العسكري في لبنان. وهذا الاتفاق هو الاتفاق الذي عرف باتفاق القاهرة. حيث كان الضغط العربي على لبنان يقضي بالسماح للمقاومة الفلسطينية بتنفيذ عملياتها من جنوب لبنان. يومذاك لم يشأ الرئيس اللبناني الراحل شارل حلو ان يؤخذ عليه توقيع اتفاق ينتقص من حدود السيادة اللبنانية في شكل مفضوح، وتخلف رئيس الحكومة الراحل رشيد كرامي عن اللحاق بقائد الجيش متذرعاً بوعكة صحية. فوجد قائد الجيش نفسه ملزماً باجراء المفاوضات وتوقيع الاتفاق. كان يومذاك سامي الخطيب سكرتيره لكنه كان مكلفاً من رئيسه بنقل وقائع المفاوضات إلى ادارة الشعبة الثانية. فكان يرسلها يوماً بيوم.
كان اتفاق القاهرة لعنة على كل من وقعه وساهم فيه من اللبنانيين. لاحقت لعنته الرئيس حلو حتى مماته، وبسببه تضاءلت حظوظ قائد الجيش القوي الجنرال بستاني في الوصول إلى سدة الرئاسة. وكان من حظ سامي الخطيب ان ترميه اقداره من باكستان إلى سورية ليعود إلى لبنان مع جيشها معززاً مكرماً.
سامي الخطيب رجل مهمات صعبة. فهو، وبعدما انفك عقد قوات الردع العربية وتحولت قوات سورية صافية وخالصة الولاء، قبل في العام 1990 مهمة قيادة ألوية الجيش الموجودة في المناطق الواقعة تحت السيطرة السورية. يومها كان الجيش جيشين، واحد مسيحي او يغلب عليه الانتماء المسيحي بقيادة الجنرال ميشال عون، وآخر اسلامي بقيادة اللواء سامي الخطيب، وكان يتبع في تراتبيته لحكومة تقيم في الشطر الغربي من بيروت ويرأسها الدكتور سليم الحص. قبل قيام الجيش السوري، تحت تغطية اميركية ووعد اسرائيلي بعدم التدخل، بإخراج ميشال عون من قصر بعبدا الذي كان يتحصن فيه. عين الجنرال اميل لحود قائداً للجيش. ووجد الخطيب نفسه مرة اخرى يقوم بمهمة انتقالية كما كان طوال تاريخه. لكن الرئيس الأسد طلب من الرئيس الحص، وفي سياق مشاوراته معه، ان يعين اللواء سامي الخطيب مديراً عاماً لقوى الأمن الداخلي. رفض الحص، فهذا المنصب يعود في العادة والعرف إلى زعماء الطائفة السنية اولاً وثانياً لم يكن الحص رجلاً يسهل على اي كان تغيير قناعاته. لكن جواب الرئيس الأسد على الحص اتى سريعاً. كلف عمر كرامي بتشكيل الحكومة وطلب إليه ان يعين اللواء الخطيب وزيراً للداخلية. وهذا ما كان. عوضت القيادة السورية على اللواء بتعيينه وزيراً تتبع له قيادة الأمن الداخلي والأمن العام على حد سواء.
كرامي سقط في الشارع، وتلك علامة من علامات تاريخه السياسي، اذ ان حكومته الثانية سقطت في الشارع ايضاً، وكلف رشيد الصلح بتشكيل الحكومة التي اشرفت على الانتخابات الأولى بعد الحرب الأهلية. كان اللواء الخطيب وزيراً للداخلية في هذه الحكومة ايضاً واشرف من منصبه كوزير على اول انتخابات بعد الحرب. حملته الانتخابات نائباً عن احد المقعدين السنيين في قضاء البقاع الغربي، وبقي نائباً إلى يومنا هذا. لكن الحص اكتسح في انتخابات بيروت خصمه رشيد الصلح وشكل كتلة نيابية معارضة، عارضت رئيس الحكومة الوافد من عالم الاعمال انذاك الشهيد رفيق الحريري، وانهت دور الصلح السياسي.
جاء الحريري بتوافق دولي واقليمي، ويمكن ان يقال انه ابن التدويل الذي يحكى اليوم عنه واحد بناته الأساسيين. والحق ان الإدارة السورية التي حكمت لبنان طوال هذا الزمن كانت تتعامل مع القادة والقوى السياسية اللبنانية بمنطق مزدوج: الدعم من ناحية والتخويف وتفريخ الخصوم من ناحية ثانية. في هذا الصدد كان سامي الخطيب فزاعة تشهر كل حين في وجه قوى سياسية وتشكيلات حاشدة. مع تسلم الحريري اول منصب رسمياً له لم تعد السياسة في لبنان شأناً امنياً صرفاً يدار بواسطة ضباط المخابرات وحدهم. واصبح للعبة السياسية الداخلية قوانينها وقواها الوازنة وان كانت دائماً تلجم نفسها عن الدخول في مغامرات خاسرة وشائكة مع ضباط الأمن السوريين. في هذا المجال كان الخطيب إلى آخرين من موالي سورية الخلص في لبنان، فزاعات ترفع في وجه القوى السياسية لتنتظم وتمتثل لأمر العمليات المخابراتي. لكنهم كانوا ايضاً، وبسبب انتدابهم سورياً لهذا الدور، يغامرون بتدمير مستقبلهم السياسي على نحو لا رجعة فيه ولا توبة بعده.
على كل حال لا يمكننا ان نضع مستقبل الخطيب السياسي في مقارنة مع مستقبل ناصر قنديل مثلاً. فالرجل اصبح اليوم شيخاً ولم يعد مستقبله امامه، ومن منطق الأمور ان يذهب إلى تقاعد بعد هذا العمر الحافل. لذا يمكن للمرء ان يؤرخ سيرته السياسية اليوم من دون ان يغامر بتقلبات قد تحدث في المقبل من الأيام. كان سامي الخطيب والحق يقال، رجل مهمات طارئة. رجل مراحل انتقالية. جاهز عند الحاجة ومستعد لتنفيذ ما يطلب منه. لكنه كان على الدوام مرؤوساً ولم يكن مرة رئيساً. انه الموظف المثالي حتى حين يكون وزيراً ونائباً. وما يفصله عن زعامة حاشدة ليس اقل من برزخ هائل لا يمكن حصره بالعين المجردة.