المفهوم الفكري لـ" البطل" خلال الثقافات المتباينة

"قال هذا فراق بيني وبينك سانبئك بتاويل ما لم تستطع عليه صبرا"
صدق الله العظيم

توفيق التونجي من السويد: كانت طائرة" طيران الشرق الاوسط" الخطوط الجوية اللبنانية وهي تحط في مطار بيروت بعد ان حلقت ودارت كالحمامة فوق المدينة تترنح براكبيها لتهبط بسلام على ارض لبنان. تلك المدينة التي لم تترك مخيلتي منذ ايام مقاعد سينما اطلس الخشبية وشاشتها البيضاء التي كانت بين الحين والاخر تاخذنا نحن الشباب الى تلك الربوع لنرى لبنان ولو على شاشة السينما فنحلق في خيالنا عابرين جبالها وربما نتمشى مع عروسة شرق اوسطية في كورنيشها او نستلقي على الرمال في سواحلها ونحن نشاهد ناظم الغزالي بالجراوية يغني "فوق النخل فوق" الذي دخل في روح اللبنانين فعشقوا صوته ولكنته العراقية "اعتقد اسم الفلم كان"بيروت في الليل" اذا لم تخني ذاكرتي".. اقول حين حطت الطائرة بدواليبها على مدرج المطار و تنفس الركاب الصعداء فهرعت مع الاخرين لاحضن بيروت واشمها كانت الجريدة اللبنانية التي حملتها معي من الطائرة تؤرخ احدى ايام صيف تموز من عام 1973 وفي جانبي الطريق المؤدي الى المدينة كان لي لقاء مع مدينة مختلفة عما كنت قد الفتها في ربوع وطني الصغير وجوانب محبوبتي "بغداد" رغم اني كنت قد قضيت الفترة الماضية لسفرتي وانا اواصل دراستي العالية في تركيا "ايام الخير" كما يردد العراقيون.
حديثي قارئي الكريم ليس عن تلك السفرة بل عن " سوبرمان" تلك المجلة المصورة التي كانت دار المطبوعات المصورة تنشرها وتصلنا الى العراق في الستينيات ثم انقطعت فجأة وكنت في شبابي مولعا بقرائتها ولعل العديدون من اقراني يتذكرونها. كنت في شوق كبير وانا في بيروت ان ارى ما حل بها وفي احدى المكتبات وجدتها امامي معلقة في بوابة المكتبة مع اقرانها فاقتنيت ذلك العدد لارى ما حل بصديقي ورفيق شبابي سوبرمان فوجدته على حاله وكل الذين رافقوا رحلته على كوكب الارض بعد ان جائنا ضيفا من كوكبه الكيربتوني الاخضر ليعيد الحق ويصلح الخلل ويكافح من اجل المظلوم ويدافع عنه امام سطوة المجرمين وكوارث البيئة كمحامي قدير ينوب عن الجميع لا يعرف معنى الكلل والملل فهو الرجل الحديدي ذو البصر والبصيرة الثاقبتين. عم كان سوبرمان رفيقي وبعد ان عشقت الفلسفة وفلسفة الحق وجدت بانه هو بالذات صاحب الفلاسفة ك " فردريك نيتشه" واخرون وفي واقع الامر كان بشكل او باخر قد ولد مرات متاليه على ارض الرافدين من كلكامش الى سندباد و الغول والعفريت والمارد هذا في الخيال الشعبي وكان التراث الديني قد فعل فعلته في الفكر الشرقي فكان العديدون من الاولياء يحملون خصائصا سوبرمانية.
اذن سوبرمان ليس فقط امريكي والشرق ملئ بامثاله رغم ان دوافعهم مختلفة ومقاصدهم متشعبه والخير والشر يختلفان باختلاف المقاييس والقيم والاعراف فليس كل ما هو خير في الشرق ينظر اليه بنفس المقياس في الغرب وربما يتحول دعاة الخير الى شريرين وابناء شياطين والعكس صحيح طبعا. نبقى نحن الغالبية من الناس في حيرة نصدق هذا او ذاك. كنت في حديث صباحي مع زملائي ونحن نتحدث عن "السباب" والكلمات النابية عند ابناء الثقافات المختلفة والفرق بين الشرق والغرب فوجدنا ان الرموز قد لا تختلف كثيرا فالسباب تجريح للاخر وطعن به وقد يتخذ موضوعا اخلاقيا عند الشرقي في سب العنصر النسائي في العائلة والطعن في "العرض" او الشرف "الناموس" واعتبار تجريح الشخص بقذفة بنعوت نابية ذو دلالات جنسية تحقيرا له ولمنزلته قد ينتج عن ذلك جرائم وخصام وقتال وحتى حروب وغزوات واجتياح. الغريب قارئي الكريم والعياذ بالله ان كلمة "شيطان" تطلق عندنا في العراق على الطفل او الشخص الفطن الذكي والشقي والذي يخرج من المازق وربما يحمل بعض الصفات الشريرة معه ولكننا لا نستخدمة بمعناه السلبي وما يقابله عند ابناء الدول الاسكندنافية هو كلمة "فان" التي تستخدم بكثرة بمعنى "اللعنة" وبدلالة سلبية دوما. هذا وان الكثير من الرموز والتشابية قد لا يعني شيئا عند شعب ما يعني الكثير عند شعوب اخرى.
يبقى صاحبنا "سوبرمان" ذو القوة الخارقة الذي يساعد الضعيف من ناحية ومن ناحية اخرى يمثل قوة السلطة والحكم والدولة ولا ياتي الا بالاعمال الخيرة المفيدة ولا يعارض الدولة وسياستها متفقه عليه في الشرق والغرب. رغم هذا فان الفهلوي، القبضاي، السرسري و النشمي فهو خارج عن القانون ولكن له شعبية لا يتعدى الا على الغرباء ويجوز له ذلك وكل افعاله تمجد حتى لو كان الغريب الجار او خيام ومضارب القوم في الطرف الاخر" حيل بيهم يستاهلون" وكل ما يملكون "جسب الضحى" ونسائهم سبايا.
كل هذا وتلك بعيدتان كل البعد عن التفكير العقلي ويتعارض كتعارض مفهوم "الوهاب والنهاب" التي كان يطلقها المرحوم الاستاذ علي الوردي على الطبيعة المتناقضة التي تحملها الشخصية العراقية كنتيجة لصراع الحضارة والبداوة التي لا تزال مستمرة لحد يومنا هذا.
كان الصحفي السويدي " اصطيفان ايكندال" قد قضى اكثر من خمس سنوات بين ابناء الولايات المتحدة قبل ان يكتب كتابا ليعرفنا عن الشخصية الامريكية وليقول في برنامج تلفزيوني تلك الكلمة السحرية" الفردي" وكانه اكتشف اكتشاف العصر وحل معضلة العالم فالامريكي يؤمن بقوة البطل الواحد ويعطيه كل الحق في استخدام جميع الوسائل للوصول الى هدفه. تاملته وهو يتحدث عن اكتشافه وبشوق شديد ففكرت في العزيز سوبرمان الذي لا يقبل ان يشيخ لا بل بقى محافظا على حيوية الشباب كانه تمكن من الحصول على عشب الخلود قبل ان يصلها ذلك الثعبان العراقي ويسرقها طبعا ليعود كلكامش ذليلا خاوي اليدين. ان الامريكان يفكرون بمنطق المجموع وكل شئ يعزونه الى الجماعة وكل عمل موجه الى المجموع او الى اسلوب الحياة والقيم الامريكية، بينما نرى الاوربي يرى في شخصه محورا للحوادث في حين يكون الشرقي مغاليا في اعتباره حتى اتفه الامور موجها لشخصه الكريم فلو غاب عن فكر صديقه ان يخبره بنبأ شرائه جهازا لعمل القهوة حديثا لتخاصم معه فكيف يكون صديقا ولم يخبره بذلك النبا وفي الواقع يتناقض ذلك مع اعتبار ان كل ما يحصل في العائلة موجه الى الجميع ويهم جميع افراد العائلة في حين حوادث المجتمع لا تهم الكل كقولنا "احنا شعلينا" او كما يقول المصري " سد الباب واستريح" وامور اخرى. ثقافة الشرقي جماعي وردود فعله فردي.
الفردية حتى درجة النرجسية في حب الذات والنفس الانانية يحطم خلايا العقل فيجعل الناس مسيرين ويتحول ردود فعلهم الى شرطية انعكاسية لا يجدون احيانا حتى تفسيرا لتك الافعال وربما يقولون مفسرين حالتهم على طريقة العالم النفساني النمساوي "فرويد " : ان ذلك يقع في اللا وعي وقد يكون هذا صحيحا فان العديد من افعالنا الانسانية لا نجد لها تفسيرا منطقيا فنعزوها الى اللاوعي او ربما الى ردود افعالنا الانعكاسية الحيوانية التي لا يسيطر عليها الجانب الذكي في مخنا. الغريب ان البطل يكون فوق الجميع ويفعل ما يحلوا له فهو يحق له ما لا يحق للاخرين وهذا ما تركز عليه معظم الافلام السينمائية الهوليودية فقد تعد القتلى في فلم ما عن ما لا يقل المائة وتعطي الحق لبطلك الفضل ان يقوم بذبح الاخرين من نفس السلالة البشرية ولكنهم طبعا من معسكر الاعداء ولا يهم هدم منازلهم او حرق بيوتهم وقتل حتى اطفالهم وربما تبكي وتتاثر اذا ما حصل ولا قدر الله شرا بكلبه الوفي الذي سيبكيه طبعا وبحرقه. فنحن على اتم الاستعداد بالتضحية بمدن كاملة بسكانها ما دام "البطل " يرى ذلك طريقة للخلاص. هذه الذهنية منطقية فالاهداف والوصول اليها باي ثمن مقدسه ونجمل في طياتها دوما شيئا من التضحية. العبرة بالنتائج يقول الشرقي ولكنه تراه عاطفي يتردد حتى في قتل "الاعداء" قائلا "خطيه, الله ما يقبل" بينما يتهافت اخرون يركلون الضحية قائلين "حيل بيه" وعلى الاكثر من دون علم بما اقترفت تلك الضحية من ذنب وقد كنت شاهدا على حادثة ارويها للقارئ الكريم من اجل زيادة ايضاح الصورة وتاريخ هذه اللوحة الدراماتيكية تعود الى بدايات ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 حيث جائت الناس من كل حد وصوب باتجاه محطة القطار ليكيلوا احد الاقطاعيين بالضرب والاهانة والسب والتجريح وبدى لي ان الرعاع يحملون الهراوات وينادون حتى لقتل ذلك الانسان الذي ما برح الا وتكور المسكين على نفسه في زاوية من زوايا احدى غرف قاعة المحطة والغريب ان كل ما كان قد فعله لا يتعدى انه كان غنيا ميسورا ورث الضياع والاراضي من اجداده. فنحن لا نرسم الستراتيجيات ولا نرسم الخطط ونحسب حساب الخسارة والمردود الاقتصادي والاجتماعي ولا توجد لدينا اهداف انية واخرى مستقبلة لا بل ان المستقبل غامض مجهول والعلم عند الرحمن سبحانه وتعالى مرددين قائلين "اعمل لدنياك كانك تعيش ابدا واعمل لاخرتك كانك تموت غدا" ولا نعارض راي الجماعة حتى لو كانوا على خطا ونسير في دربنا ومسيرتنا حتى اذا احتاج منا ما لا يقل عن 130 الف من الايام للنيل من جميع الاعداء وافنائهم عن بكرة ابيهم. الغريب ان هناك الوف من القنوات التلفزيونية تتبارى لنقل تفاصيل دقيقة عن تلك العمليات في الواقع ومباشرة طبعا يوميا ونشاهدها نحن البشر بينما نمضخ لقمة الخبز في جوف حلقنا ونشرب القهوة الصباحية سعداء.
بالتاكيد ان الصورة ليست مختلفة تاريخيا فالبطل كان ولا يزال هو ذلك الرجل "على الاكثر ذكر في جميع الثقافات" الاكثر دمويا والذي قتل اعداد هائلة من معسكر العدو الذي ينظر بنفس المرآة الى بطلهم فكلا البطلين سفاحين ويتفاخران بقتل اكبر عدد من المعسكر المعادي ويرفع على صدرة عددا اكبر من انواط الشجاعة والمداليات.
ان التعارف بين الشعوب مبدأ اساسي للتوصل الى حوار وتفاهم واذا كانت الشعوب ترى في بطلها الوطني والقومي مفخرة وفي الاخرين اعداء يجب ان لا ينسى موقعه عند معسكر ما يسميه الاعداء فالبطلان في واقع الامر يشدان الطرفين الى الهلاك وعدم ترجيح حكم العقل والمنطق حيث ان العنف يجدد خلايا العنف وينشط فعاليته مما ورثناه من اجدادنا حين كنا نسكن المغاور ونتربص بفريستنا وناكل لحم الانسان والعياذ بالله.
لماذا لا يتحول بطلنا الى شاعر تردد قصائده بكل لغات الكون وتغنى بكل اللغات حاملا في طياته تلك الاحاسيس الانسانية التي ترقي بنا الى مصاف البشر يقول البارئ عز وجل " انما يخشى الله من عباده العلماء" فمعارفنا قارئي الكريم تعكس شخصياتنا نوع واسلوب وطريقة تفكيرنا. لعلنا لا زلنا لم نفقه ان البطل يجب البحث عنه في عداد العلماء ونترك البطل المغوار الجبار الذي لا يقهر" سوبرمان" لاهله.

الدكتور توفيق آلتونجي

السويد

الخامس من نشرين الاول، اكتوبر من عام ‏2004‏‏