مسيحيون العراقيون ماض عريق، وحاضر مجهول 2

نزار عسكر من ستوكهولم: الآشوريون من أعرق الشعوب القديمة في العراق، عاش أجدادهم منذ الآف السنين في بلاد مابين النهرين التي كانت تسمى (ميزوبوتاميا )، وسكنوا العراق وايران وسوريا وتركيا. يعتبرون حاليا من أهم المكونات القومية للمسيحيين، مع الكلدان والسريان.
يربط الآشوريون الحاليون أنفسهم بالآشوريين القدامى، وهم معروفون بشدة تمسكهم بهويتهم القومية، ولهم حاليا في العراق وخارجه، عدد من التنظيمات السياسية القومية والجمعيات والأندية التي تمثلهم. وهم ممثلون في المجلس الوطني العراقي المنتخب حديثا، وكذلك في البرلمان الأقليمي بكردستان العراق.
أعتنق الآشوريون الدين المسيحي في القرون الثلاثة الأولى بعد ميلاد المسيحية.
" إيلاف " حاورت السيد يونان هوزايا، عضو المكتب السياسي للحركة الديمقراطية الآشورية، ووزير الصناعة والطاقة في الحكومة الكردستانية الأقليمية بأربيل، حول تاريخ الحضارة الآشورية وواقع حياة الآشوريين اليوم، وكيف ينظر أكبر فصيل سياسي للآشوريين، وهو الحركة الديمقراطية الآشورية الى مجريات الأوضاع الحالية وتعقيداتها.
يقول: " تتحدد حدود الحضارة الاشورية أو امتداداتها اعتمادا على تكون الدولة الآشورية، وكانت هذه الدولة متداخلة او متواصلة مع الكيانات العراقية الاخرى، اصطلح على مجملها الحضارة النهرينية او حضارة بلاد النهرين وهكذا مفهوم اراه مناسبا في العموم. وعلى هذا الاساس يعتمد التقويم البابلي الاشوري او النهريني سنة 4750 كبداية لهذه الحضارة اعتمادا على بناء المعبد الرئيسي في العاصمة الاشورية" (الشركاط – شرقاط).

وزير الصناعة الكردستاني وعضو المكتب السياسي
في الحركة الآشورية يونان هوزايا
ضيف: " من انجازات الحضارة الاشورية تطوير الكتابة والتدوين، فكان لها الفضل في أنشاء مكتبة كبيرة من العلوم والوثائق، حددت هذه المكتبة، او وما أحتوته من مدونات، ملامح فترة هامة من تاريخ البشرية وانجازاتها. وبتصورنا ان بذور هذه المكتبة، وما ضمته من احداث، صنعت التاريخ، وأبدعت في صنع أحداثه".
ساهمت هذه الحضارة في تطورعلم الفلك والتنجيم وحركة الكواكب وعلاقة كل هذا بالطب والكيمياء والصناعات، خصوصا العسكرية منها، ناهيك عن ما ساهمت فيه من تطور في علوم الرياضيات والري والزراعة تحديدا في عصر سنحاريب (704-681) ق.م حيث أنتشرت مشاريع الارواء في بلاد الرافدين.
في عهد سنحاريب تم حفرالانهار والترع والقنوات العديدة المنتشرة في شمال وشرق نينوى بشكل خاص وبين نينوى (باتجاه الجنوب) والشرق. وهكذا جهد كان يتطلب حشود كبيرة من العاملين. لذلك فقد سخرت الامبراطورية او الدولة الاشورية في حينه جهود كبيرة من البشر في حفر وبناء الترع والسدود وهذا ما حدا بالعلماء الى وصف الحضارة النهرينية (بحضارة حياة) كونها كانت تقيم مشاريع الري والزراعة وهي مشاريع حياة تلتقي بالارض والطبيعة.

مذابح.. مذابح

عانى ألآشوريون على مر تاريخهم من مذابح كثيرة، راح ضحيتها عشرات الألوف من الأبرياء. وفي التاريخ الحديث من عمر الدولة العراقية، تعتبر مذبحة سميل عام 1933 من اكثر المذابح دموية.
قيل الكثير في أسباب ما حدث من قتل شنيع للنساء والأطفال والشيوخ والقضاء على كل مظاهر الحياة فيها.
السيد يونان هوزايا يفسر ذلك بالقول: " أسباب كثيرة واحيانا مختلفة، أدت الى حدوث هذه المذابح، ياتي في مقدمتها النظام العثماني الرجعي والتسلطي، والفتاوي التي كانت تصدر بذريعة الجهاد بأسم غير المسلمين، وضعف الوعي الوطني وغياب الرأي الاخر، او هامشية حقوق الانسان، اضافة الى العامل الاقتصادي وهو عامل مهم لتميز ابناء شعبنا والارمن بامتلاكهم معظم المهن والحرف - كما يؤكد الباحث د. كمال مظهر في كتابه "كردستان بين الحربين العالميتين"- كل هذه وغيرها ادت الى شروع المذابح ضد شعبنا خاصة تلك التي حدثت اواسط القرن التاسع عشر ومرورا بنهاياته وبداية القرن العشرين وحتى سميل (1933) وبعدها بـ (صوريا) عام 1969 ومناطق مختلفة من (ديار بكر، عابدين وهكاري وغيرها) في منتصف القرن التاسع عشر وكذلك بداية القرن العشرين في مناطق اوسع مثل (اورميا) مرورا بفترة الحرب".
وبخصوص احداث 1933 ممثلة في المذبحة التي تعرضت لها سميل على ايدي (بكر صدقي) وامرائه جاءت بالاساس، كما يعتقد هوزايا، لاخماد الحركات الوطنية عموما، بعد تكون الدولة العراقية.
ويقول: " كانت مطالب اهل ثورة سميل الكلدوآشوريين السريان واضحة، إلا ان قوات بكر صدقي الحديثة التشكيل ارادت اخماد الثورة بكل الوسائل بتمويه الراي العام وخاصة في الموصل بالادعاء بان هؤلاء جاءوا من خارج الحدود وكتبت بهذا الاتجاه عشرات المقالات في عدة صحف لتموية الرأي العام كما قلنا ولتمهيد الارضية لضربات موجعة غيرنزيهة للجيش الفتي الى ابناء الشعب العزل.. وقام (بكر صدقي) مع جيشه بالهجوم على مدينة سميل والقرى المحيطة بها التي كان رجالها قد تركوها الى مناطق ابعد في جبل (بي خير) ومناطق حدود سوريا استعدادا لمقاومة جيش بكر صدقي.. وبدلا من ان يحارب القوات او المليشيات، هاجم مدينة سميل وقام بقتل الابرياء العزل من شيوخ ونساء واطفال.. حيث يقدر عدد الضحايا بـ (5000) شخص. وقد حاول توجيه ضربة مماثلة الى القرى المحيطة بسميل، لكن ردود الفعل في المناطق المحيطة، وتحذيرات الانكليز بفضخ المذبحة حالت دون ذلك!

أتهامات للنظام السابق

الحركات السياسية الاشورية الحديثة، لا تتردد في توجيه الأتهامات للنظام السابق لقيامه بنسف وتدمير العشرات من القرى المسيحية، وتهجير سكانها.
وتؤكد هذه الأطراف ان المئات من المسيحيين قتلوا في نهاية الثمانينات على يد قوات جيش نظام صدام حسين في عمليات ما يسمى بـ " الأنفال " وهي العمليات العسكرية التي أعقبت أنتهاء الحرب العراقية – الأيرانية في آب ( أغسطس ) عام 1988، ضد المئات من القرى والبلدات الكردستانية، راح ضحيتها أكثر من 180 الف شخص.
وتقول مصادر آشورية ان أكثر من 250 قرية مسيحية جرى تدميرها وتهجير السكان منها في عهد النظام السابق. ونشرت جريدة " بهرا " أي الضياء التي تصدرها الحركة الديمقراطية الآشورية، في تموز من العام الماضي، قوائم باسماء العشرات من هذه القرى المدمرة. كذلك نشرت منظمة كلدوأشور للحزب الشيوعي الكردستاني قبل سقوط النظام قوائم بأسماء العشرات من ضحايا عمليات الأنفال من المسيحيين.

التنظيمات السياسية للآشوريين

منذ ثلاثينات القرن الماضي، لعب الأشوريون دورا سياسيا كبيرا في الأحزاب الوطنية العراقية، وساهم عدد من سياسيهم في تأسيس أحزاب ومنظمات سياسية معروفة.

علم يرمز الى الحضارة الآشورية
حول تاريخ تشكيل الآشوريين لتنظيماتهم السياسية، يقول السيد هوزايا لـ " إيلاف ": " شعبنا الكلدواشوري كان سباقا ورائدا وكما اسلفنا في تشكيل التنظيمات ومؤسسات المجتمع المدني، واعتقد ان تعاطي السياسة كان ايضا احد هذه الفعاليات او المناحي المهمة لتطوير المجتمع، او لتحقيق اماني الشعب العراقي عموما، إلا أن تنظيمات أبناء شعبنا كانت اكثر عراقية أو وطنية من كونها قومية، فانخرط كثيرون منهم في الاحزاب مثل (الحزب الشيوعي تحديدا) وتمثل لدى الاشهر في الحزب الشيوعي وهو رئيسه او سكرتيره (فهد) الذي كان من ابناء قصبة تلكيف واسماء كثيرة اخرى".
لكن هوزايا يشير الى ان " الضرورة تطلبت لاحقا وبعد ان تشكلت تنظيمات قومية غير كلدواشورية (عراقية اخرى) من الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي ضم الكثير من ابناء شعبنا، تكوين او التفكير بتاسيس احزاب قومية (كلدواشورية)... والبداية الاولى كانت في بداية اربعينيات القرن الماضي، في تنظيم (ح.ح. أ) أي (محبة واتحاد اشور) إلا ان هذا التنظيم كان يفتقر الى العديد من مقومات التنظيم السياسي الفعال. واستمرت الأوضاع على هذا المنوال الى ما قبل نهاية عقد الستينات في 1968 و 1969 عندما تاسس الاتحاد الاشوري العالمي في اجتماع مهم في فرنسا، وتأسيس حزب بيت نهرين الديمقراطي.
وفي الوطن تأسست تشكيلات اخرى في السبعينيات اهمها الحركة الديمقراطية الاشورية، سنة 1979 من كتل وتنظيمات معظم اعضائها من الطلبة الجامعيين وخريجي الجامعة... والى جانب الحركة الديمقراطية الاشورية تكونت تنظيمات اخرى".
وتعتبر الحركة الديمقراطية الآشورية التي يرأسها السيد يونادم يوسف كنا، عضو الجمعية الوطنية العراقية المنتخب، من أكبر الفصائل السياسية الآشورية في العراق. كذلك توجد تنظيمات أخرى مثل الحزب الوطني الأشوري، ومنظمات سياسية أخرى ينشط أكثرها في الخارج!
ولهذه التنظيمات العشرات من الصحف وقنوات التلفزة ومحطات الأذاعة، تبث برامجها وتنشر باللغة السريانية.
وتعاني الكثير من هذه التنظيمات انقسامات سياسية حادة، تتركز خلافاتها حول التسمية القومية، والتحالفات السياسية مع القوى السياسية العراقية والكردستانية.
ولعل الولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا وكندا واوروبا تضم شبكة واسعة من التنظيمات الآشورية التي تتقاذفها الكثير من الخلافات.
ونشطت هذه التنظيمات في أكثر من مناسبة مؤخرا، في تحريك الجاليات الآشورية في الخارج،من خلال تنظيم مسيرات وفعاليات أحتجاج على ضرب الكنائس، وحرمان أبناء منطقة سهل نينوى من التصويت في الأنتخابات التشريعية العراقية التي جرت كانون الثاني ( يناير ) الماضي.
وفي السنوات الأخيرة، خصوصا بعد أنتفاضة آذار ( مارس ) عام 1991، بعد ان أتاحت الظروف التي نشأت في أعقابها، لأكثر من فصيل سياسي آشوري ممارسة النشاط العلني، في كردستان العراق، نشأت خلافات حادة بين مجموعة من التنظيمات القومية المسيحية، حول التسمية القومية. ولازالت هذه الخلافات قائمة حتى الان، تعصف بهم، وتمنع وحدتهم والتقائهم على برامج مرحلية تتماشى مع الحد الأدنى لطموحات المسيحيين، وهو ما أنعكس سلبا على النتيجة الهزيلة التي حصلوا عليها في الأنتخابات الأخيرة!
وفحوى الخلافات هي على التسمية، إذ أن الأشوريين يعتقدون بأن المسيحيين العراقيين الحاليين هم في أغلبيتهم الساحقة، آشوريي القومية، وان التسميات الأخرى، مثل الكلدان، ماهي إلا تسميات طائفية نشأت عن أنقسامات كنسية قديمة، لكن الكلدان يرفضون بأغلبيتهم هذا الطرح ويصرون على أنهم قومية مستقلة. وتشكلت في السنوات الأخيرة تنظيمات كلدانية عديدة، سنتناولها في الجزء الثالث من تحقيقنا هذا!

البرنامج السياسي للحركة الآشورية

هوزايا الذي يعتبر قياديا كبيرا في الحركة الديمقراطية الآشورية، ووزيرها في الحكومة الكردستانية، يقول لـ " إيلاف " عن البرنامج السياسي للحركة التي ينتمي أليها: " بخصوص البرنامج السياسي للحركة الديمقراطية الاشورية فقد جاء في تعريف (زوعا) او الحركة الديمقراطية الاشورية في النظام الداخلي، انه تنظيم سياسي ديمقراطي يلتزم بمبدأ القيادة الجماعية، وتبني رأي الاغلبية مع حق إبداء رأي للاقلية ضمن الحلقات التنظيمية، واستقلالية القرار القومي، وتقوم على اسس قوية والمنحى الاول الذي بسببه تشكلت ( زوعا ) هو، رفض طوق الازمة المفروض على شعبنا والذي جاء ليس بسبب الممارسات القمعية للنظام البائد ولا الظلم الذي سبقه فحسب، بل الظلم التاريخي الذي عاشه شعبنا منذ حقب طويلة في التاريخ بعد فقدانه لكيانه السياسي... والمنحى الاخر للواقع المرير الذي عاشه شعبنا يتمثل في الاوضاع الذاتية وواقع التشتت في وطنه وفقدانه لاراضيه ومناطق سكناه التاريخية بشكل مستمر وانحسار عدده ليغدو اقلية ضمن شعوب تلك الاكثرية السكانية".
يضيف : " إن أسس التغير الجذري التي قامت عليها الحركة هي رفض هذا الواقع المفروض على شعبنا والعمل على معالجته باساليب نضالية وكفاحية مهما تطلب ذلك من تضحيات والتفاعل مع المكونات القومية والاجتماعية والدينية من ابناء شعبنا والمساهمة في بناء الوطن الديمقراطي التعددي الذي يقر بحقوق الجميع".

الأشوريون وعلاقاتهم مع القوميات اخرى


على الرغم من المذابح التي تعرض لها الآشوريون على مر الزمن، إلا أنهم أحتفظوا بعلاقات طيبة مع باقي المكونات القومية والدينية للعراقيين، سواء كانوا عربا أو كردا او تركمانا او غيرهم.
وفي الكثير من المناطق الريفية الكردستانية يكاد الزائر الغريب لا يميز بين الكردي والأشوري، لتشابه الملابس والعادات!
ويقول القيادي الآشوري هوزايا حول هذه العلاقات: " علاقات شعبنا مع الاشقاء في الوطن من القوميات الاخرى كالعرب والكرد والتركمان طبيعية وبعمومياتها علاقات جليلة وهذا ما جعل ارض العراق جامعة لكل هذه القوميات والاديان المختلفة ومنها ابناء شعبنا الكلدواشوري الذي يعيش على اراضيه التاريخية منذ القرون المتاخرة، بين بغداد واقصى الشمال، وتواجده في كل المدن العراقية من البصرة والكوت والعمارة والناصرية والرمادي وكركوك والمدن الاخرى.. وهذا يدل على المودة والصفاء التي تسود هذه العلاقات والمواطنة (ان صح التعبير) التي تربط شعبنا مع الاشقاء من القوميات الاخرى".

دور الآشوريين في بناء الدولة العراقية الحديثة

لا يخفى على احد الدور الاساسي او المؤسس للكلدواشوريين او الاشوريون والكلدان والسريان في بناء الدولة العراقية الحديثة، او بناء الدولة بمصطلحها السياسي الذي جاء في الثلث الاول من القرن العشرين.
يحبذ المسؤولون في الحركة الديمقراطية الآشورية، كما قال لنا السيد هوزايا، ان "نسمي انفسنا او ندعو شعبنا على الاقل بهذه المرحلة بالكلدواشوريين".
وأضاف ان" ومشاركتهم اساسية وجوهرية في تكوين العراق الحديث. اذ شكل المسيحيون عموما في العراق جزءاً اصيلاً اساسياً في النسيج العراقي بل كانوا اكثر اصالة في التاريخ العراقي، والجزء الاهم في تشكيل مؤسسات المجتمع المدني داخل الحياة... ونظرة سريعة واستعراضية لسبعينيات القرن العشرين تبين نهوض حضاري كبير في ميادين مؤسسات المجتمع المدني، ففي بغداد لوحدها تكونت عشرات الاندية الاجتماعية والرياضية والفنية كانت لها برامج ثقافية ورياضية وفنية، واصبح بعضها مثل النادي الاثوري الرياضي والجمعية الثقافية السريانية والنادي الثقافي الاثوري واندية بابل واور والتعارف والاخاء، اصبحت منارات مهمة في الساحة الثقافية واستمرت في جمعية اشوربانيبال في الامس القريب اذ كانت المتنفس الوحيد تقريبا لكثرة من الادباء والفنانين والمثقفين بصورة عامة.

الجزء ( 3 ) الكلدان: نحن مغبونون

[email protected]

نعم صديقي.. في العراق " مسيحيون"!!